تحتفي فرنسا في شهر تشرين الثاني نوفمبر من كل سنة بأدب بلد من بلدان العالم في تظاهرة تحمل اسم Les Belles Etrangڈres بمعنى "الآداب الجميلة"، وذلك من أجل التعريف ببعض أوجه الآداب الأجنبية الحديثة. وقد اختيرت روسيا هذا العام والأدب الروسي من خلال دعوة اثني عشر كاتباً روسياً يفدون إلى فرنسا ويشاركون في نشاطات أدبيّة داخل باريس وفي عدد من المدن الفرنسيّة. وجاء اختيار الأسماء المشاركة مدروساً بحيث يمثّل كل الأجيال وكل الاتجاهات الأدبية الحديثة في روسيا اليوم، وفي مجالات التعبير المختلفة، رواية وقصة وشعراً. وفي هذا الاختيار، كما أوضح المنظّمون لهذه التظاهرة الثقافية، "شيء من الرهان على المستقبل، لأنّ الأسماء المختارة تمثل نموذجاً حياً للأدب الروسي الحديث". بين الأسماء المدعوّة يتجاور المعروفون من أمثال لودميلا أوليتسكاي وأولغا سدكوفا وليف روبنشتاين وأوري مملياف، مع الأدباء الشباب الصاعدين ومنهم فيرا بافلوفا وأندراي جولاسيموف ونيكولاي كونونوف، إضافة إلى نيكولاي شدرين وليونيد جيرشوفيتش ونتاليا جورافليوفا. ويعدّ هذان الأخيران من المواهب الجديدة المميّزة في ساحة الإبداع الأدبي. ومن المواضيع التي تناولها الأدباء الروس في النصوص التي تمّ نقلها إلى الفرنسيّة ونُشرت في كتاب واحد صدر عن دار "أكت سود" ويحمل عنوان التظاهرة نفسها، يطالعنا الاهتمام بالموضوعات الأساسيّة التي تتمحور حول الحياة والموت بلغة هادئة حيناً، متوتّرة ومروّسة أحياناً أخرى، بحسب أسلوب كلّ كاتب على حدة، وهكذا تتأرجح خلفيّة الأدب الروسي المعاصر بين التفاؤل والأمل بغد جديد من جهة، وإحساس بالقلق والمستقبل الغامض من جهة ثانية. أصوات وتجارب متنوّعة تجتمع هنا معاً للمرّة الأولى. تجمعها الكتابة الإبداعيّة في ما وراء الأعمار والأجيال والمراحل والنماذج الأدبية على اختلاف أنواعها. وكل كاتب من هؤلاء الكتّاب يعبّر بطريقته وأسلوبه عن حضور الأدب والفنّ الروسيّين اليوم. علاقة الكتابة بالموسيقى، مثلاً، نتلمّسها في شكل واضح في كتابات كل من لودميلا أوليتسكاي متخصصة في علم الوراثة وليونيد جيرشوفيتش وفيرا بافلوفا. وإذا كانت الكتابة عند هؤلاء مطبوعة بالموسيقى، فثمّة افتتان باللغة عند البعض الآخر، كما عند أولغا سدكوفا وليف روبنشتاين. أسماء منفتحة على عوالم شاسعة تختصر اتّساع الرقعة الجغرافيّة والألسنيّة في روسيا. وفي حين يتجه كل من نيكولاي شدرين في نصّه الروائي "وداع" وإيليا كوتشرجين في نصّ بعنوان "مساعد الصيني" إلى التفكير في مسيرتهما الذاتية ككاتبَين وإنسانَين، يتناول كل من ناتاليا جورافليوفا في رواية "المواسم" وأندراي جولاسيموف في "آلهات الشهب" أحداث الساعة وخصوصاً المأساة في الشيشان. تحضر السياسة هنا لكن من دون أن يسقط الأدب في الإيديولوجيا، أي أنّها تحضر داخل إطارها الإنساني وبصورة تذكّرنا بكتاب دوستويفسكي "ذكريات بيت الموتى" الذي يروي فيه تجربة السجن في ظلّ النظام القيصري. تطالعنا أيضاً بعض وقائع الحياة اليوميّة، مصعّدة شعرياً، كما الحال مع الشاعرتَين لودميلا أوليتسكاي وفيرا بافلوفا، كذلك مع نيكولاي كونونوف وهو، إلى كونه شاعراً، فيلسوف وفيزيائي. في كتابيها "في ذكرى الشاعر" و"ملاك رامس" تكرّم الشاعرة أولغا سدكوفا عالمة ألسنيات نالت أكثر من جائزة في فرنسا وايطاليا الشاعر برودسكي الذي حوصرت كتاباته في فترة "البريسترويكا" يوم كانت تحاصَر النخبة المثقفة بأكملها. من جهته، وفي كتابه "ممرات الزمن"، يروي اوري مملياف، وهو عالم رياضيات عاش في فرنسا في سنوات السبعينات، اجتماع عدد من المثقفين ومنهم العالم والطبيب والمهندس، إلى جانب العمال الذين كانوا معروفين في فترة الاتحاد السوفياتي ونسيهم النظام الجديد في روسيا. يختار هؤلاء العيش تحت الأرض في مدينة موسكو، أي في مكان يجهل الترتيب الطبقي. وهكذا تبدو هذه الكتابات بمثابة ذاكرة أدبيّة لأحداث كبرى عاشها الاتحاد السوفياتي الآفل، وتعيشها روسيا الآن. وبهذا المعنى يتبيّن كيف أنّ الكتابة ترتقي أحياناً لتتحوّل إلى ضمير شعب وأمّة. أما الرسام والكاتب نيكولا ماسلوف فيروي في كتابه المرسوم "الجاسوس" قصته وقصة كل مواطن روسي في سنوات السبعينات. غير أنّ هذا النوع من الكتب المزيّنة برسوم يمثل في الوقت الحاضر في روسيا تياراً فنياًً هامشياً. مهما يكن، تشكّل هذه الأسماء بأساليبها المختلفة واجهة الأدب الروسي المعاصر. وإذا كانت نسبة كبيرة من النصوص بعيدة من الخطاب السياسي والإيديولوجي المباشر كما سبق أن ذكرنا، فإنها تبرز روح الانتماء القوي للتاريخ الحديث لهذا البلد من دون نسيان الماضي. وحتى ولو ساد الشعور بالإحباط والتشاؤم في صفوف مناصري حرية التعبير وخصوصاً اثر التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي هزت كيان ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي، فما لا شك فيه أن مثل هذه التظاهرة ستسمح لمتتبعي الأدب الروسي المعاصر باكتشاف أصوات جديدة هي وريثة الرواد البولشفيين من أمثال دوستويفسكي وتولستوي. يلاحظ منظّمو التظاهرة أنّ روسيا وعلى رغم سنوات الانفتاح وحرية التعبير النسبيّة وغياب الرقابة، ومقارنة مع عدد سكانها الذي يقارب المئة وخمسين مليون نسمة، لم تعرف قفزة نوعية في مجال نشر الآداب المحلية، لكنّها بخلاف ذلك انفتحت كثيراً على ترجمة الأسماء العالمية المعروفة، الى جانب إقبال القراء على قراءة الرواية البوليسية. ولا بدّ من الإشارة إلى انه يطبع اليوم في روسيا نحو خمسين ألف عنوان جديد سنوياً، وهو رقم قياسي إزاء الركود الذي عاشه قطاع الكتاب في فترة التسعينات وبداية الألفية الجديدة. تجدر الإشارة أخيراً إلى أن تظاهرة "الآداب الجميلة" التي سبق أن احتفت في السنوات الماضية بعدد من الآداب الوافدة من العالم الثالث ومنها الأدب المصري والأدب الفلسطيني، هي من تنظيم كل من وزارة الثقافة الفرنسية و"المركز الوطني للكتاب". وهي كما أشرنا مناسبة تستضيف فيها فرنسا مجموعة من الكتاب والأدباء من دولة محدّدة يشاركون في الكثير من اللقاءات التي تحتضنها الجامعات والمكتبات في أكثر من خمس عشرة مدينة فرنسية وبلجيكية، وهي مناسبة تكشف عن الاهتمام الفرنسي بدعم الكتاب بصفة عامة وترجمة الكتاب الأجنبي على وجه الخصوص مع الحرص على التعريف به ونشره وتوزيعه.