بينما كان المقترعون الروس ينتخبون رئيسهم «القيصر» فلاديمير بوتين لولاية رابعة، كانت الكاتبة لودميلا أوليستكايا، «أيقونة المعارضة» كما تُسمى، تحمل على الحكم ورموزه بجرأة، سواء في لقائها جمهورَ معرض باريس الدولي للكتاب، أم في الحوارات الصحافية والتلفزيونية التي أجرتها. لم يتم اختيار هذه الكاتبة المشاكسة في عداد الوفد الرسمي للكتاب الروس الأربعين الذين شاركوا في معرض الكتاب الذي حلّت روسيا على دورته لهذه السنة ضيفَ شرف، بل تولّت دعوتها دار غاليمار الشهيرة التي تنشر أعمالها بالفرنسية، وأدرجت اسمها في البرنامج الروسي الذي ضم ندوات ولقاءات وقراءات. وتمكنت لودميلا من أن تجذب جمهوراً كبيراً حاورها ووقّعت له كتبها، خصوصاً روايتها الجديدة «سلم يعقوب». وبدا واضحاً أن الاستقبال الذي حظيت به إعلامياً لم يعرفه زملاؤها الكتاب الروس المدعوون إلى المعرض. كانت لودميلا، كما قالت في أحد لقاءاتها، تعلم أن السلطات العليا ستستبعدها عن معرض باريس، ولن تدرج اسمها في القائمة الرسمية للكتاب المدعوين، فهذه السلطات تكرهها، وتعلم جيداً أن الكاتبة تبادلها الكراهية أيضاً. لكنها لم تستطع أن تلغيها أو تعزلها وأن تحول دون رواج اسمها وأعمالها في روسيا وخارجها. وحازت رغماً عن السلطات إحدى أرقى الجوائز الأدبية الروسية، وكانت المرأة الأولى التي تحوزها، علاوة على نيلها جوائز عدة منها جائزة مديسيس الفرنسية للأدب الأجنبي، وجائزة سيمون دو بوفوار العالمية، ناهيك عن ترجمة رواياتها إلى أربعين لغة. ولعل تعلّق القراء الروس بها يرجع إلى سردها مآسي الشعب المتوالية طوال حقبات، واسترجاعها التاريخ الروسي بحقائقه ووقائعه التي طالما أُخفيت. وكانت هي في طليعة حركة المعارضة، وساهمت في تأسيس «رابطة الناخبين» التي ناضلت من أجل تحقيق المواطنة الروسية الحقيقية بعيداً من الأوهام الإمبراطورية التي نشرتها السلطات وصدّقها الكثير من الروس. وكانت توصف رسمياً ب «عدو الوطن» لأنها تحمل مفهوماً آخر، واقعياً وحقيقياً، للهوية الروسية والانتماء المواطني، وتؤْثر فكرة الوطن على فكرة الإمبراطورية. يحلو للكاتبة لودميلا أوليستكايا أن تقارن بين شخصية «الإمبراطور» بوتين وشخصية الزعيم السوفياتي ستالين. فهي ترى أن بوتين الذي جاء إلى الحكم من كواليس جهاز «كي جي بي»، فرض شعبيته في طريقة لا تقبل الجدل، متجاهلاً ما أحدثت هذا الجهاز الرهيب من خراب في الحياة الروسية. وترى أن ما يميزه عن ستالين هو عدم اهتمامه بالأيديولوجيا والثقافة، وانحيازه إلى سلطة المال، وهذا ما خفّف من وطأة تسلطه على أهل الأدب والفكر والفن، وعدم مبالاته بهم إلا سياسياً، على خلاف ستالين الذي كانت سلطاته تراقب الأدباء والمفكرين والفنانين وتفرض عليهم أيديولوجيتها. لكن بوتين، كما تقول لودميلا، عرف كيف يمارس سلطته القمعية، معتمداً أساليب ذكية، فواجه التيارات المعارضة له، وحاصر التظاهرات، وضيّق الخناق على المتظاهرين. وكم من شباب وفتيان أوقفوا واقتيدوا إلى السجون وعوقبوا. وترى أن شعار بوتين حيال المعارضة كان: «أنا لا أناقش بل أصدم». تتحسّر الكاتبة على قدر الشعب الروسي الذي واجه مراحل من الحروب والثورات والمآسي، وفي رأيها أن الحكم السوفياتي ألحق خراباً جسيماً بروسيا يتطلب إصلاحه عقوداً، وبعد سقوط الشيوعية كان يجب أن تتم حركة تصفية أو تطهير، سياسي وإداري وثقافي، لكنّ الطبقة الحاكمة لا تزال، في جزء منها، هي نفسها. كانت الأعوام المئة الأخيرة أشبه بكارثة حلّت على روسيا، دمّرت السلطة خلالها جانباً من حياة الشعب، دمّرت الطبقة الأرستقراطية المثقفة، الأنتلجنسيا، الإكليروس... واستبعدت حتى فئة المزارعين الأثرياء والأذكياء والمثابرين المعروفين باسم «الغولاغ»، وجعلت المواطنين عناصر استخبارات، حتى بات أعضاء الأسرة الواحدة يرفعون التقارير بعضهم ضد بعض. لم ينأَ بوتين كثيراً عن الأخلاقيات السوفياتية، فنصّب نفسه إمبراطوراً، ولكن بحنين سوفياتي، وتقول لودميلا إن المقاومة اليوم، بعدما حُجّمت التظاهرات، أصبحت ذات طابع إنساني واجتماعي عميق في مواجهة أكاذيب السلطة وبيروقراطيتها الكريهة.