الحملة على كوفي أنان مستمرة، والأبطال فيها، او الاشرار اذا شئنا الدقة، هم المتطرفون انفسهم الذين كانوا سيواجهون القضاء حتماً لو ان جورج بوش خسر انتخابات الرئاسة الاخيرة. الرئيس بوش بعيد عن الحملة، وادارته ايدت بقاء الامين العام للأمم المتحدة في منصبه، وهو زار واشنطن امس للبحث في انتخابات العراق وقضايا اخرى. غير ان الحملة مستمرة في محاولة لتطويع انان او تركيعه بعد ان تجرأ على التشكيك في شرعية الحرب على العراق. كوفي أنان ليس اعظم أمين عام في تاريخ الأممالمتحدة، وأستطيع انتقاد سجله بسهولة، غير انه لا يوجد في هذا السجل اكثر من جنحة، او جنح خفيفة، ومع ذلك فهو يعامل وكأنه ارتكب جناية، في حين ان الجنايات يرتكبها الاحتلال في العراق كل يوم والمدافعون عنه. كلنا بات يعرف ان انان متهم في موضوع النفط مقابل الغذاء، فهناك لجنة فرعية من مجلس الشيوخ يترأسها السناتور نورم كولمان، وهو جمهوري من منيسوتا، تزعم ان صدام حسين سرق 21 بليون دولار من برنامج النفط مقابل الغذاء، وان الأم المتحدة تواطأت معه، او ان مسؤولين مشرفين على البرنامج تلقوا رشى. اولاً، الرقم مبالغ فيه جداً، وكبير المفتشين الاميركيين عن الاسلحة الممنوعة في العراق تشارلز دويلفر قدر ان صدام حسين حصل على عشرة بلايين دولار بطريقة غير شرعية. ثانياً، اللجنة الفرعية زادت سبعة بلايين دولار، او اكثر، هي تقديرها لما جناه نظام صدام من تهريب النفظ وبيعه، وهي تهمة وقحة، فالولاياتالمتحدة، او التحالف المزعوم، فشل في منع التهريب، ويراد من الأممالمتحدة ان تمنعه. ثالثاً، المال كله عراقي، وصدام حسين سرق البلد بأهله، واستباح الارواح قبل الاموال، وفعل ذلك بعد ان ساعده الاميركيون على امتداد الثمانينات، وزودوه مباشرة، او سمحوا له بأن يتزود كل انواع الاسلحة، والهجوم على حلبجة جرى وأميركا حليفته لا عدوته. رابعاً، روسيا وفرنسا، ورجال من تكساس يعرفهم جورج بوش استفادوا من التعامل مع العراق، ولعل اللجنة الفرعية تحقق معهم ايضاً. السناتور كولمان يقول ان المبلغ المنفوخ جداً الذي سرقه صدام هو"اكبر عملية احتيال في تاريخ الأممالمتحدة، ويجب استئصال المرض". وهو يطالب بالتالي باستقالة كوفي انان. اكبر عملية نصب في تاريخ الأممالمتحدة هي تقرير وزير الخارجية كولن باول في 5/2/2003 عن اسلحة الدمار الشامل في العراق، وبما ان الرجل راحل فلا حاجة الى المطالبة باستقالته. وقطعاً فالسرقة لا تقارن بالقتل، وانما تقارن بسرقة مماثلة، والسناتور كولمان سينفي عن نفسه صفة التطرف والكيل بمكيالين اذا اعلن ان صفقات هالبرتون في العراق مشبوهة، وطالب باستقالة نائب الرئيس ديك تشيني، رئيس هذه الشركة حتى انتقاله نائباً للرئيس مع جورج بوش، فالشركة ما كانت لتحصل على اي عقد من دون نفوذه. ويبدو ان كل عقد لها من العراق، وحتى نيجيريا، موضع تحقيق. اوقح من كل ما سبق ان يتهم كوفي انان لأن ابنه كوجو، وهو في حوالى الثلاثين، تلقى مرتباً من شركة كوتكنا السويسرية التي اشرفت على المشتريات العراقية، فالقانون الالهي والوضعي يقول:"لا تزر وازرة وزر اخرى", وأنان لا يمكن ان يتحمل نتائج عمل ابنه البالغ، الا اذا ثبت انه توسط للابن في الحصول على الوظيفة، وهو ما لم يحدث. هل كان كوفي انان انتقد لو انه لم يعكس موقف غالبية الدول الاعضاء في معارضة الحرب؟ انان ارتكب اخطاء غفرت له فوراً، عندما اعتقدوا انه مجرد موظف"مطيع"في المنظمة العالمية، ولكن عندما بدأ يتململ صدرت تحذيرات له على شكل مقالات كتبها متطرفون معروفون من عصابة المحافظين الجدد. وعندما لم يفهم التحذير، او لم يتراجع، فتحت عليه جبهة واسعة سلاحها الكذب والتدجيل والتلفيق، ويكفي انه مطالب بالوقوف نداً لدكتاتور لم يسقطه سوى تدخل عسكري مباشر من الدولة العظمى الوحيدة الباقية في العالم. المشكلة في الحملة على انان انها حولت الانظار عن موضوع حقيقي وأهم هو اصلاح الأممالمتحدة، بعد ان اصدرت لجنة تضم بعض افضل العقول السياسية من حول العالم اقتراحاتها لعلاج ترهل البيروقراطية الدولية بعد 60 عاماً على قيام المنظمة العالمية. الاقتراحات تراجعت الى المركز الثاني في وجه الفضيحة المزعومة المحيطة ببرنامج النفط مقابل الغذاء. وعندما بحث في الاقتراحات انصب الاهتمام على توسيع مجلس الامن الدولي من 15 عضواً الى 24، مع بقاء الفيتو في ايدي الدول الخمس الدائمة العضوية فقط. وهناك اقتراح بدخول ست دول بعضوية دائمة هي: البرازيل والمانيا والهند واليابان ومصر، واما نيجيريا او جنوب افريقيا، وثلاث دول اخرى عضوية كل منها سنتان. اما الاقتراح الآخر فهو زيادة ثمانية اعضاء مدة كل منهم اربع سنوات قابلة للتجديد، وعضو لسنتين. وما سبق كان ضمن 101 من التوصيات، غير انني لا اراه اهمها، فقد لاحظت عبارات فهمت منها موافقة على ما تريد ادارة بوش من حيث حق استعمال القوة في شكل فردي، وان الاحتلال لا يبرر قتل المدنيين، من دون تسجيل ان الاحتلال يقتل المدنيين، وهذا مطلب اسرائيلي، وبالتالي اميركي معروف. كنت ارجو لو ان الجدل دار حول اصلاح الأممالمتحدة من منطلق تقرير المجموعة الدولية، بدل ان ينصب على فضيحة غير موجودة، ولو كنا في عالم مثالي لربما كان النقاش تركز حول فضيحة شن حرب لاطاحة صدام حسين، وهو سبب مقبول، ثم تحويل العراق الى وضع اسوأ مما عرف مع النظام السابق. وبكلام آخر فقد كانت الحرب على صدام حسين مبررة، الا انها لم تعد كذلك بسبب القتال والقتل المستمر، وأيضاً لثبوت ان العقوبات وحدها كانت كافية، فقد انهت برامج الاسلحة الممنوعة التي نفذها صدام حسين وأميركا حليفته، وجاء برنامج النفط مقابل الغذاء، ونجح فعلاً على رغم السرقة في تحسين صحة المواطن العراقي ورفع بعض العناء عنه. هذه هي الفضيحة الحقيقية، فأترك القارئ مع كلمات من"نيويورك تايمز"في مقال افتتاحي يقول ان"الحملات على البرنامج وأنان تتجاهل ان العراق جمع فلوساً اكثر عبر اتفاقات تجارية على مدى سنوات عرفت بها الولاياتالمتحدة ودول اخرى ولم تحاول منعها".