1 حفظة السُّنَّة النبوية والدين شهدت سنة 150 ه/ 767م وفاة الإمام أبو حنيفة أوّل إمام من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية عند أهل السنّة والجماعة، وفي تلك السنة ولد الإمام الشافعي: محمد بن إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وأخذ العلم عن علماء زمانه في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، ولازم الشافعي الإمام مالك مدّة ست عشرة سنة حتى توفي الإمام مالك سنة 179 ه/ 769م، ثم أخذ علم الأحناف عن محمد بن الحسن وصحبه في بغداد، وتبادل العلوم مع الإمام أحمد بن حنبل، وهكذا حفِظ الأئمة الأربعة علوم الدين والدنيا، وبينوا معالم الطُّرق وحدودها. 2 وفاة الإمام مالك قال القعنبي: سمعتهم يقولون: عمَّر الإمام مالك تسعاً وثمانين سنة، ومات سنة تسع وسبعين ومئة. وقال إسماعيل بن أبي أويس: مرض مالك، فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت؟ قالوا: تشهد ثم قال: "لله الأمر من قبل ومن بعد" سورة الروم، الآية:4، وتوفي الإمام صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة/ 769م، فصلى عليه الأمير عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس الهاشمي. 3 الشافعي يَجمع العلم وينشر المذهب بعد وفاة الإمام مالك سنة 179 هجرية سافر الشافعي إلى نجران والياً عليها، وعلى رغم عدالته فقد وشى به الوشاة الحاقدون إلى الخليفة هارون الرشيد، فتمَّ استدعاؤه إلى دار الخلافة العباسية في بغداد سنة 184هجرية وهناك دافع عن موقفه بحُجَّة دامغة، وظهرت للخليفة براءة الشافعي مما نسِب إليه، فأطلق سراحه، وأقام الشافعي في بغداد، وأتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، وقرأ كتبه، وتعرف على علم الأحناف أهل الرأي، ومقدار ذلك العلم: وقر بعير أي: حمولة جمل من الكتب، ثم عاد الشافعي إلى مكةالمكرمة، وأقام فيها تسع سنوات، فنشر مذهبه في الحرم المكي حيث يتوافد المقيمون والحجاج والمعتمرون، وحينذاك تتلمذ عليه إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل، يرحمهم الله. 4 العودة إلى بغداد عاد الشافعي ثانية إلى بغداد سنة 195 ه/ 811م، وذلك بعد تسع سنوات من التعليم والتعلُّم في مكةالمكرمة، وصار له ببغداد مجلس علم يحضره العلماء والطلاب، واستمرت إقامته سنتين، وحينذاك ألف كتاب الرسالة في أصول الفقه، ونشر مذهبه القديم، ولازمه في تلك الفترة أربعة من كبار علماء المسلمين هم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي. ثم انتقل الشافعي إلى مكةالمكرمة، فمكث فيها فترة قصيرة، ثم عاد إلى بغداد سنة 198ه/ 813م، وعانت بغداد من أهوال الفتنة في ذلك الوقت، واضطهِدَ العلماء جراء السياسة الحمقاء. 5 الرحيل إلى مصر خشي الإمام الشافعي بطش المأمون بعدما قتل أخاه الخليفة محمد الأمين، واعتنق الاعتزال، فرحل إلى مصر سنة 199 ه/ 914م، وبصحبته الربيع بن سليمان المرادي، وعبدالله بن الزبير الحميدي، ونزل بالفسطاط ضيفاً على عبدالله بن عبدالحكم، وعُرف عن الشافعي وقوفه ضد بدعة المعتزلة، فقد أخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: "مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر"، وكان رحيله إلى مصر بُغية الابتعاد عن مهد الفتنة في العراق، وهنالك بدأ بإلقاء دروسه في جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه، وبقي في مصر خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة، ووضع مذهبه الجديد في الأحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر، وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه في العراق. 6 بعض مُناظرات الشافعي أخرج ابن عبد البر عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: "الإيمان قول وعمل، واعتقاد بالقلب، ألا ترى قول الله عز وجل: }وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ{ سورة البقرة، الآية: 143 . يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، وهي: قولٌ وعمَلٌ وعقدٌ". وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبيري قال: قال رجل للشافعي: أي الأعمال عند الله أفضل؟ قال الشافعي: "ما لا يقبلُ عملاً إلاّ به" قال: وما ذاك؟ قال: "الإيمان بالله الذي لا إله إلاّ هو، أعلى الأعمال درجةً، وأشرفها منزلة، وأسناها حَظّاً" قال الرجل: ألا تخبرني عن الإيمان، قول وعمل، أو قول بلا عمل؟ قال الشافعي: "الإيمان عمل لله، والقول بعض ذلك العمل" قال الرجل: صف لي ذلك حتى أفهمه. قال الشافعي: "إن للإيمان حالات ودرجات وطبقات، فمنها التام المنتهي تمامه، والناقص البَيِّنُ نُقصانه، والراجح الزائد رجحانه" قال الرجل: وان الإيمان لا يتِمُّ وينقص ويزيد؟ قال الشافعي: "نعم". قال الرجل: وما الدليل على ذلك؟ قال الشافعي: "إن الله جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسمه فيها، وفرَّقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها، بفرض من الله تعالى. فمنها قلبه: الذي يعقل به ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره. ومنها عيناه: اللتان ينظر بهما. وأذناه: اللتان يسمع بهما. ويداه: اللتان يبطش بهما. ورجلاه: اللتان يمشي بهما. وفرجه: الذي ألباه من قبله. ولسانه: الذي ينطق به. ورأسه: الذي فيه وجهه. فرَضَ على القلب غيرَ ما فرض على اللسان، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه ... فمَن لَقِيَ اللهَ حافِظاً لِصلواته، حافظا لِجَوارحِهِ، مؤديّاً بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به، وفرَضَ عليها، لَقِيَ الله مُستكمِلَ الإيمان مِن أهلِ الجنَّةِ، ومن كان لشيء منها تاركًاً مَتعمِّداً، مما أمر الله به، لَقِيَ اللهَ ناقِصَ الإيمان". قال الرَّجلُ: عرفت نقصانه وتمامه، فَمِنْ أين جاءت زيادته؟ قال الشافعي: "قال الله جَلَّ ذِكْرُهُ: }وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيْمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ 124 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ{ سورة التوبة، الآية: 124-125 . وقال تعالى: }نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً 13 وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًاً{ سورة الكهف، الآية: 13-14 . وقال الشافعي: "ولو كان هذا الإيمان كُلّه واحِداً لا نُقصان فيه، ولا زيادة، لم يكن لأحدٍ فيه فضلٌ، واستوى الناسُ، وبطلَ التفضيلُ، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله في الجنة، وبالنقصان من الإيمان دخل الْمُفرطون النار". وقال الشافعي: "إنّ الله جَلَّ وعزَّ سابِقٌ بين عِبادِهِ كما سُوْبِقَ بين الخيل يومَ الرِّهان، ثم إنَّهم على درجاتهم، من سبق عليه، فجعل كلَّ امرئ على درجَةِ سَبْقِهِ، لا ينقصه فيه حَقّه، ولا يقدّم مسبوق على سابق، ولا مفضول على فاضل، وبذلك فضل أوّل هذه الأمة على آخرها، ولو لم يكن لِمَنْ سَبق إلى الإيمان فضلٌ على مَن أبطأ عنه، لَلَحِقَ آخرُ هذه الأمّة بأوَّلِهَا". 7 نظرة الشافعي الى العلوم تزخر مواعظ الشافعي بكلام كثير في شؤون العلوم وفضائلها، ومن ذلك قوله: "إذا رأيتُ رجلاً من أصحاب الحديث، فكأني رأيتُ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جزاهم الله خيراً، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل". وكانت نظرة الشافعي إلى العلوم شاملة حيث يرى أن العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان، وعلم الأديان هو الفقه، وعلم الأبدان هو الطب، ولذلك قال الشافعي: لا تسكننّ بلداً لا يكون فيه عالم يُفتيك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك". وقال: "لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلاّ أن أهل الكتاب غلبونا عليه". ومن أقوال الشافعي في تمجيد أصحاب الأوراق والأقلام والحبر: "لولا المحابر، لخطبت الزندقة على المنابر". ومن أقواله ايضاً: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغترّوا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسُّنة". ومنها: "إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله، فلا أعلم لله ولياً".