كانت معظم المدارس الفقهية، قبل تأسيس النظامية، مدارس خاصة غير رسمية، ولم تأخذ شهرتها وتعدد فروعها، ولم تحكم بشروطها في القبول والتوظيف. اختصت بتدريس الفقه، وما يتعلق في الفروع والأصول، منها ما جمع بين المذاهب الاربعة المعروفة، ومنها ما اوقف لمذهب واحد فقط. بيد ان المدرسة النظامية، التي اسسها الوزير نظام الملك، كانت محكمة لمذهب فقهي وفكري واحد، ففي الفروع مغلقة للمذهب الشافعي وفي الاصول للفكر الاشعري، يشترط ذلك على الطلاب والمدرسين والواعظين وراعي المكتبة. كان المذهب الشافعي، ببساطة، ملاذاً للذين وجدوا في مدرسة الرأي، ومذهبها الحنفي، تجاوزاً على النصوص، فالقلق كان على مصير أحكام ومقالات تناقلوها بتواتر الروايات، او عبر كتب ورسائل. فينقل عن الإمام الشافعي انه قال: "سميت ببغداد ناصر الحديث" ابن عساكر، "تاريخ دمشق". اما ميل الشافعية الى النصوص، فتفصح عنه مقولة الشافعي الآتية: "اذا وقد وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي، فاعلموا ان مذهبي ذلك الخبر" الشهرستاني، "الملل والنحل"، قابل ذلك قول الإمام ابي حنيفة النعمان: "قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو اولى بالصواب منا" الخطيب، "تاريخ بغداد". اختلف الشافعي، في مرحلة من حياته، مع رأي استاذه الإمام مالك بن أنس، وكان ذلك سبباً لخلاف المالكيين معه، فشكوه الى الوالي، والتمسوا منه اخراجه "من البلد لعله المدينة فأجابهم اليه، فذهب القرشيون والهاشميون الى السلطان وكلموه، فأبى عليهم، وقال: إن هؤلاء قد كروه، وأخاف الفتنة. ثم انه اجلى الشافعي ثلاثة ايام على ان يخرج من البلد، فلما كان الليلة الثالثة مات الوالي فجأة" الرازي، "مناقب الشافعي". كانت للشافعي ميول اخرى، غير جمع الحديث والفقه، لكنه عزف عنها ليحتفظ برزانة الفقهاء، فهو القائل: "ولولا الشعر بالعلماء يزري/ لكنت اليوم أشعر من لبيد" ديوان الشافعي. وروى سبطه، عن ابيه، انه اهتم، ايام حداثته، بالفلك والنجوم، ولحادثة ما تراجع عن هذا الاهتمام "ودفن الكتب التي كانت عنده في النجوم" أبو الفداء، "المختصر في أخبار البشر". ولا يحتاج سبطه ان يبرر لجده، في هذه الحكاية، عزوفه عن الفلك والنجوم، فهذا الاهتمام بعيد من اهتمام الفقهاء ايضاً. اسعد قدوم الشافعي الى بغداد اصحاب الحديث، حتى ان الإمام احمد بن حنبل سايره وهو راكباً بغلته، فلم يرض ذلك المحدث يحيى بن معين البغدادي ت 233 ه فقال لابن حنبل: "ما رضيت الا ان تمشي مع بغلته، فقال: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب الآخر انفع لك" ابن الجوزي، "المنتظم". وقيل إن بعض اصحاب الرأي حاولوا التصدي له، غير انهم اصبحوا، في ما بعد، من اصحابه. قال ابو الثور ابراهيم الكلبي ت 240 ه: "لما ورد الشافعي بغداد جاءني الحسين الكرابيسي، وكان يختلف معي الى اصحاب الرأي، فقال: قد ورد رجل من اصحاب الحديث يتفقه، فقم بنا نسخر به، فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل الشافعي يقول: "قال الله، وقال رسول الله، حتى اظلم علينا البيت، وتركنا بدعتنا واتبعناه" ابن عساكر، "تاريخ دمشق". ولانتشار المذهب الشافعي اكثر من سبب، من غير التفاف اهل الحديث حوله في بغداد، ولعل اول من سهل نشر مقالاته حاجب الرشيد، الفضل بن الربيع ت 208ه، فقال السبكي فيه: "يستحسن ايراده في اصحاب الشافعي" طبقات الشافعية الكبرى. وقيل: كان للحاجب موقف جميل مع الإمام في محنته، وانه حفظ دعاء من الشافعي، قاله وهو يشق طريقه مكبلاً الى مجلس الرشيد، وصفه بقوله: "هذا ما ادركت من بركة الشافعي". ولربما كان موقف الفضل متأثراً بموقف والده الربيع بن يونس ت 169ه، وزير المنصور، السلبي من اهل الرأي تاريخ بغداد. لكن ليس هناك تفاصيل اخرى تؤكد جهود هذا الحاجب او غيره في تثبيت اقدام المذهب الشافعي، خلا تعاطفه الشخصي معه. وعلى رغم وجود المذهب الشافعي بقوة في بغداد ايام البويهيين، فمنه كان معظم القضاة، مثل ابي الحسن الماوردي وغيره، الا ان العهد السلجوقي كان عهداً شافعياً وأشعرياً بالكامل من الناحية الرسمية. كان السلاجقة، بعد اسلامهم، على المذهب الحنفي، الذي كان شائعاً في ايران وما وراء النهر، اما البويهيون فنشأوا على المذهب الزيدي الحنفي الفروع المعتزلي الاصول مع رأي خاص بالإمامة منذ البداية، يوم اسلموا على يد ابناء زيد بن علي الصابئ، "كتاب التاجي". وأبرز الحنفيين كان وزير السلطان طغرلبك، عميد الملك ابو نصر منصور بن محمد الكندري ت 456ه، الذي كان "شديد التعصب على الشافعية" ابن عساكر، "تبين كذب المفتري". غير ان السلاجقة تحولوا الى المذهب الشافعي بجهود الوزير نظام الملك الطوسي 408-485ه. الذي ولد في طوس في ناحية بيهق "فحفظه ابوه القرآن، وشغله في التفقه على المذهب الشافعي" طبقات الشافعية الكبرى. بعدها عمل كاتباً ببلخ، ثم قصد دواوين ميكائل السلجوقي، والد ألب ارسلان وشقيق طغرلبك، "فلما دخل عليه اخذ بيده فسلمه الى ولده... قال: هذا حسن الطوسي، فتسلمه واتخذه والداً، ولا تخلفه، وقيل: بل خدم ابن شاذان الى ان توفي، فأوصى به الى ألب ارسلان، فلما صار الملك الى ألب ارسلان دبر له الملك، فأحسن التدبير، فبقي في خدمته عشر سنين ثم مات، وازدحم اولاده على الملك، وطغى الخصوم، فدبر الامور، ووطد الملك لملك شاه، فصار الأمر كله اليه وليس للسلطان الا التخت والصيد، فبقي على هذا عشرين سنة" المنتظم. زار نظام الملك للمرة الاولى بغداد، وحظي بمقابلة الخليفة المقتدي بالله ت 487 ه، فأذن له الجلوس بين يديه، وخاطبه بالقول: "يا حسن بن علي، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك" طبقات الشافعية الكبرى. وبعد عام واحد من تولي الوزارة، وقتل الوزير الكندري، اسس مدرسته النظامية. شيدت النظامية في بغداد "بين باب الأزج وشاطئ دجلة، اي انها لم تكن بعيدة من البصلية، وهي محلة في طرف بغداد الجنوبي، ومن الجانب الشرقي متصلة بباب كلواذي، المعروف اليوم بالباب الشرقي... اما اليوم فالمتواتر بين البغداديين ان بقايا النظامية هو ما يرى من البيوت المرصوصة المتراكمة في درب المفطومة اي المقطوعة، وهو الدرب الذي يسميه البعض الآخر بدرب محمود ابو الخس في محلة باب الآغا" الكرملي، مجلة المشرق، 1907 قريباً من شارع السموأل وبناية خان مرجان. ظلت النظامية عاملة الى ما بعد سقوط الدولة العباسية بثلاثة قرون، ووقتذاك لقبها مؤرخ فارسي بأم مدارس بغداد. جاء في كتاب شروط الدراسة في مدرسة الوزير: "انها وقفت على اصحاب الشافعي، اصلاً وفروعاً، وكذلك الأملاك الموقوفة عليها شرط فيها ان يكون على اصحاب الشافعي اصلاً وفرعاً، وكذلك شرط في المدرِّس الذي يكون بها، والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب، وشرط ان يكون فيها مقرئ القرآن، ونحوي يدرّس اللغة، وفرض لكل قسطاً من الوقف" المنتظم. وفي الأصول، عنيت المدرسة بالمذهب الأشعري، فمن الشاذ ان يكون غير الشافعي أشعرياً، قال ابن الجوزي في ترجمته للفقيه الحنفي احمد بن محمد السمناني ت 466ه "كان أشعرياً، وهذا يستظرف ان يكون الحنفي أشعرياً". وعاب ابن عقيل الحنبلي ت 513ه، تعبيراً عن صدامات الشافعية والحنابلة المستمرة، تعلق الشافعيين بمقالات الأشعرية بقوله: "الشافعي لم يكن أشعرياً وأنتم أشعرية" المنتظم، فالزمن الفاصل بين الإمامين يرقى الى نحو مئة عام. لذا من الصعب اعتبار تأسيس النظامية في بغداد، وفروعها في الولايات الأخرى، يعود بالدرجة الاولى الى "حاجة الدولة الى الموظفين من قضاة وعمال وكتّاب، يتخرجون من مدارس منهجية ويتفهمون عقائد الدين الرسمي" حسين أمين، "تاريخ العراق في العهد السلجوقي"، والغاية منها كانت نشر المقالات الأشعرية ومواجهة مذاهب مثل الاسماعيلية والاعتزال المتفاقمة آنذاك، لكنها وفرت الى حد ما مثل هذه الفرصة، مع خلقها تعقيدات في العلاقة بين المذاهب، وخصوصاً بين المذاهب السنيّة، فالخلاف بين الشافعية والحنابلة بسبب هذه المدرسة، وصل أشده. ولم يكن كل الفقهاء الشافعيين متفقين او محببين لوجود النظامية وبالشروط المذكورة، وإن كانت مغلقة لمذهبهم، فهذا ابو اسحاق الشيرازي ت 476ه، اول عميد لها، اخذ يصلي في المسجد المجاور، وعذره في ذلك "اني لم اطب نفساً بالجلوس في هذه المدرسة، لما بلغني ان ابا سعد القاشي غصب اكثر آلاتها، ونقض قطعة من البلد لأجلها، ولحق اصحابه غم" المنتظم. ويعني بنقض قطعة من البلد الاستيلاء على "بقية الدور الشاطئية بمشرعة الزوايا، والفرضة، وباب الشعير، ودرب الزعفراني". برر نظام الملك سابقته في وقف مدرسته لمذهب واحد وبهذه الشدة، في كتاب، مؤرخ العام 470ه، رداً على كتاب عميدها ابي اسحاق الشيرازي، شاكياً فيه من الخلافات المذهبية، جاء فيه: "ورد في كتابك بشرح اطلت فيه الخطاب، وليس توجب سياسة السلطان، وقضية المعدلة الى ان نميل في المذاهب الى جهة دون جهة، ونحن بتأييد السنن اولى من تشييد الفتن، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة، الا لصيانة اهل العلم والمصلحة، لا للاختلاف وتفريق الكلمة، ومتى جرت الامور على خلاف ما اوردناه من هذه الاسباب، فليس الا التقدم بسد الباب، وليس في المكنة الا بيان على بغداد ونواحيها، ونقلهم عن ما جرت عليه عاداتهم فيها، فإن الغالب هناك، وهو مذهب الإمام ابي عبدالله احمد بن حنبل، رحمة الله عليه، ومحله معروف بين الائمة، وقدره معلوم في السنّة، وكان ما انتهى الينا ان السبب في تجديد مسألة سئل عنها ابو نصر القشيري عن الاصول، فأجاب عنها بخلاف ما عرفوه في معتقداتهم" المصدر نفسه. ورد هذا الكتاب عقب حوادث وقعت سنة 469ه، يوم اخذ الواعظ القشيري مخالفيه "الى التجسيم، ولعظم الفتنة تأهب عميد المدرسة لمغادرة بغداد، وغلق باب المدرسة، وقد أقلق هذا التصرف الخليفة، فأرسل اليه من يرده عن رأيه. وقيل ايضاً: "إن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام وهو السلطان الفعلي امر الوزير ان يحيل الفكر في ما تنحسم فيه الفتنة" المصدر نفسه. كان الوعاظ يوفدون الى النظامية من قبل نظام الملك مباشرة، وعادة يزودون باجازة يسمح لهم وفقها "التكلم بمذهب الأشعرية". وفي محاولة امتصاص نقمة المذاهب الاخرى، حرص الوزير على زيارة اضرحة الائمة ببغداد كافة، وهي: ضريح أحمد بن حنبل، وأبي حنيفة، وموسى الكاظم، ومعروف الكرخي. من امتيازات النظامية، في بغداد وفروعها البصرة ونيسابور وهراة والموصل وطبرستان وبلخ وأصبهان ومرو، مقارنة بالمدارس الاخرى، انها اهتمت بمعيشة الطلبة، قال السبكي: "غلب على ظنّي ان اول من قدّر المعاليم للطلبة، فإنه لم يتضح لي، هل كانت المدارس قبله بمعاليم للطلبة او لا؟ والأظهر انه لم يكن لهم معلوم" طبقات الشافعية الكبرى. وبلا شك، ان لمدرسيها امتيازات مختلفة عن المدارس الاخرى. لذا كانت محط جذب مدرسين اضطروا الى تغيير مذاهبهم لتلبية شروط التدريس فيها، من هؤلاء ابن الدهان الواسطي الذي يجيد لغات عدة وله شهرة علمية في زمانه، فداعبه محمد بن احمد التكريتي برسالة شعرية. وجاءت حصيلة تأسيس النظامية، بهذه المواصفات، بما لا يتوقعه الوزير، ولم تفِ بالغاية المطلوبة، ومنها التأثير في التنوع المذهبي الذي ساد في بغداد ايام البويهيين وقبلهم، فأشهر معتزلي الفترة البويهية كانوا اصحاب مراكز مهمة مثل: "الوزير الصاحب بن عباد 385ه، وقاضي القضاة عبدالجبار الاسدابادي، وقاضي القضاة الماوردي، وكان اشهر متكلمي الشيعة الشيخ محمد المفيد ت413ه الى تلميذيه الشريفين الرضي 405ه والمرتضى 435ه، وشيخ الطائفة ابو جعفر محمد الطوسي 460ه. انتهى نظام الملك مقتولاً بعملية اغتيال، السنة 485ه، والشكوك ظلت تحوم حول الاسماعيليين، جماعة حسن بن محمد الصباح ت 518ه، والمعروفة يومذاك بالفداوية الفدائية، وحول السلطان ملكشاه بن ألب ارسلان، بعد خلاف دب بين السلطان والوزير، الذي توفي بعد قتل وزيره بخمسة وثلاثين يوماً. وحينها نشب الخلاف بين اقطاب الاسرة السلجوقية، التي قال تاج الدين السبكي الشافعي في دولتها: "سقى الله عهدها". * كاتب عراقي.