في عز الحرب والأيام الصعبة كانت الرغبة ملحة في بدء حياة جديدة بعيدة من أجواء العنف والتنقل من منطقة الى أخرى تفادياً لعمليات القصف والقتل والتدمير، وكان الاهل يلحوّن عليَّ دائماً بأن أحاول السفر الى أميركا. وذلك كما فعل أخي من قبلي، وعند رغبتهم وحاجتي الى تغيير جذري في حياتي قررت السفر. وبعد محاولات فاشلة عدة ها أنا أطأ الأرض الغريبة. أرض الهمبرغر والفرص والبيتزا والفتيات "المكشلحات" الشقراوات والسمراوات. وعندما خرجت من المطار أحسست بأنني الفاتح المنتصر. نعم ها أنا في أميركا التي يحسدني عليها عشرات الشباب الذين كنت أعرفهم والذين كانوا يتمنون الزحف اليها. كان ذلك في سنة 1989. لكن عندما بدأت الاندماج في ذلك االمجتمع، والتأقلم مع واقعي الجديد، أحسست بأنني المخدوع على أعتاب قرطبة. بقيت هناك نحو خمس سنوات ونصف سنة متنقلاً في البداية بين أعمال عدة، تارة في مطعم بيتزا وتارة في توزيع الحلوى الى ما هنالك... عملت بعدها في مجالي الى أن أتى الوقت للرجوع الى الوطن بعد أن استتب الوضع الأمني... وكان ذلك في سنة 1994، بعد أن جمعت مبلغاً متواضعاً من المال. وعند عودتي الى ربوع الوطن، حيث تزوجت وكونت عائلة، تخليت كلية عن أي فكرة في الرجوع الى أميركا. مرّ على رجوعي عشر سنوات بالتمام والكمال. ومعظم أفراد عائلتي حصلوا خلال هذا العقد على الجنسية الأميركية. وكانوا يدعونني باستمرار لزيارتهم لكنني كنت اعتذر وأؤجّل تلك الزيارة... الى أن اقتنعت أخيراً. قلت أذهب بضعة أسابيع علّني أغير شيئاً وأرتاح قليلاً من ضغط العمل. وهنا بدأت رحلة العذاب. جواز السفر الذي كانت اجراءاته سريعة وسهلة، ومن ثم ذهبت الى المصرف لأخذ موعد في القنصلية لقاء رسم وقدره مئة دولار أميركي فقط لا غير. وكان الموعد بعد ثلاثة أيام. وفي هذه الأثناء كنت في حال استنفار قصوى... ورقة من هنا وورقة من هناك... كي أثبت أنني سأعود الى لبنان. جمعت ملفاً دسماً، أين منه ملف الأزمة السودانية. وفي الليلة التي سبقت الموعد، بدأت زوجتي توصيني بالحاجيات التي يجب أن آتي بها... وكذلك فعل الأولاد، وبدأت تسجيل الطلبات على ورقة كنت أحملها دائماً في جيبي. وفي صباح يوم الموعد المنتظر، حلقت ذقني ونعمّتها حتى "شطّبتها"، واستعملت عطراً أميركياً خاصاً بما بعد الحلاقة، ولبست أحسن ما عندي، ولمعت حذائي... كأنه يوم زفافي. وصلت أمام السور العظيم، وأمام الكاميرات والرجال المدججين بالسلاح. تقدمت الى البوابة المخصصة لدخول طالبي التأشيرة السياحية. تملكني الخوف، وبدأت قدماي تخونانني، لكن الله أعانني ووصلت الى الباب. عندها بدأ التفتيش والسؤال "نعم شو جايي تعمل" قالها الحارس الأول ويده على الزناد. قلت لدي موعد في القنصلية، استمهلني قليلاً ثم فتح البوابة الأولى وقال تفضّل. وما هي إلاّ خطوات معدودة حتى استوقفني حارس آخر مفتول العضلات لا يبتسم، ها أنا ثانية أتعرض للتفتيش بأجهزة أخرى. "تفضّل". مشيت نحو عشرين متراً، فاستوقفوني حرس للمرة الثالثة تفحصوا الأوراق جيداً وقالوا: "ادخل من هذا الباب". فرحت كثيراً لهذا الاهتمام الشديد، وأحسست أنني زعيم أو شخصية مهمة. دخلت الى المبنى الأول، كما قالوا لي أن أفعل وما هي الا خطوات حتى توقفت. تفتيش من جديد وأجهزة واستجواب: "معك دخان؟" قلت لا. "معك قداحة؟" قلت: لا، "معك حافظة نقود". قلت: لا. قال "وماذا معك؟"، قالها مازحاً ثم أردف: "تقدم تحت جهاز الكشف". تقدمت بفرح شديد وبدأت استعيد قواي الضائعة، فتحت باب المبنى الثاني. لا حول ولا قوة إلا بالله، تفتيش من جديد. "معك مفاتيح؟" قلت لا. "ما معك شي؟" قلت لا. قال "تفضل تحت جهاز الكشف". مررت ودخلت الى صالة أنيقة رحبة بعدها قال لي الحارس "الشباك رقم 2 إذا بتريد". وانتظرت في الطابور نحو نصف ساعة. وصل دوري وقدمت أوراقي الى الموظفة البشوشة، البهية الطلعة، ثم جلست في الصالة كغيري من الناس على كرسي مريح جداً. جاء دوري. بدأت الموظفة باستجوابي: "هل كنت في أميركا؟" قلت نعم. "متى؟" قلت بين 1989 و1994. قالت "هل لديك أقارب هناك؟". قلت "نعم العائلة بأكملها". قالت "هل كان وجودك طيلة تلك المدة شرعياً؟" قلت "نعم" وأبرزت لها الوثائق بفخر، أنا الذي لم أخالف يوماً أنظمة السير، ولا قانون الهجرة. قالت "ماذا تعمل الآن؟" قلت لها "في مجلة "لها". عندها طلبت ورقة العمل. تفحصتها جيداً وأعجبتها. ها أنا الآن أسجل هدفي الأول. قالت "هل لديك حساب مصرفي؟" قلت "نعم" ثم أعطيتها ورقة بقيمة الأموال في حسابي. قالت: "ألا يوجد لديك تقرير سنوي عن حسابك المصرفي؟" قلت "لا"، وسجلت الهدف الأول في شباكي وأصبحنا متعادلين. وبدأ الشوط الثاني من الأسئلة. قالت: "لقد مضى على مجيئك الى لبنان نحو عشر سنوات، فلماذا تريد الذهاب الآن الى أميركا؟" قلت لها: "لا يوجد سبب إلا ان اخوتي يلحون عليّ". ثم قالت: "هل لديك منزل؟". قلت: "نعم المنزل لوالدي وقد أعطاني الطابق الأول وهو يسكن في الطابق الأرضي". قالت: "لا أستطيع أن أعطيك الفيزا في هذا الوقت. لا منزلاً مسجّلاً باسمك وذهابك الى أميركا يقلقني". لكنها في المقابل أثنت على عملي، وأنا شاكر لها. انتهت المباراة، لملمت نفسي وتوجهت الى الباب. استوقفني الشاب الذي كان جالساً الى جانبي في غرفة الانتظار: "شو؟ مشي الحال؟" ابتسمت له ابتسامة عريضة، وقلت له: "نعم ما مشي الحال. ارتحت من لائحة طلبات زوجتي، لكنني لم أرتح لطيران ورقة المئة دولار من جيبي". واستودعت جاري السلامة، تمنيت له حظاً أوفر من حظي... والى مغامرة أخرى".