لا أعلم من أين أبدأ ولا كيف, فالحيرة تتملكني، لكنني سأبدأ من تلك اللحظة التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة اليأس والإستسلام لظروف الحياة وإجبارها له على إرخاص نفسه في سبيل العيش دون الحاجة لأحد، لأن الحاجة في زمننا هذا هي الإهانة بعينها والذل بعينه. عندما يطرق الفقر بابك ولا تجد ما يستر عري جسدك أو يسد جوع أطفالك ويسكت صراخهم، عندما تدمع عينيك ويحترق قلبك ألما على طفل لم يتجاوز الثمانية أشهر لم تجد له حليبا يعيش به، عندما تكون في يوم عيد ولم تجد ما تشتري به فرحة العيد لأطفالك، عندما لا يكون في منزلك من الطعام سوى رز أبيض يطبخ بماء فقط، ليس ليوم ولا لأسبوع ولا لشهر بل لما هو أكثر من ذلك, حينها تكره نفسك وتتهاوى في داخلك كل القيم والمبادئ. قد يقول قائل لا بل سأقاوم، وأنا أقول لن أسرق ولن أنهب لكنني سأخترق أعماق المستحيل من أجل أسرتي. ذهبت في ذلك المساء مشيا على أقدامي لا أنوي على شيء ولا أعرف إلى أين، شاهدت منزل ابن عمي فاقتربت منه وطرقت بابه، فتح لي الباب مرحبا بي وأدخلني مجلسه وأحضر لي الشاي والقهوة، شاهد خطوط البؤس والشقاء مرسومة على صفحات وجهي، وسألني، ما بك يا ناصر؟ لم أتمالك نفسي حينها ونزلت تلك الدمعة العزيزة من عيني، وانطلقت شارحا له حالي وحال أسرتي وطالبا منه إنقاذي بإيجاد حل لي مهما يكن ذلك الحل، خصوصا وأنه يعلم بأنني لن أقبل بالصدقة والإحسان من كائن كان. هدأ من روعي وقال لي كن بخير واذهب إلى بيتك وسيأتيك مني خبر، وذهبت إلى بيتي بعد أن أحسست بسقوط جزء بسيط من همي مع علمي بأن مشكلتي لا تزال قائمة. وتمر الليالي تتبعها الأيام، وفي ذات مساء، إذا بابن عمي يطرق الباب ويطلب مني الركوب معه في سيارته, ركبنا السيارة وبدأ يحدثني بأنه يحمل همي منذ أن حضرت إلى منزله وقال لي لقد وجدت حلا لمشاكلك لكنه يتطلب همة رجل وصبر رجل وقوة بأس رجل، فقلت له بلا تردد، إقذف بي في الموت ولا تخشى علي "وأبشر برجّال ما يهاب". قال إسمع إذا، أنا وأنت سنجازف مجازفة ويا نطلع فوق النجوم يا ننزل أسفل الأرض، قلت له توكل على الله. قال هناك صفقة سأتولى أمرها كاملا والمطلوب منك أن تكون رهينة في قيمتها لفترة شهرين فقط وبعد أن أنهيها سأقوم بفك رهنك وستكون الأرباح مناصفة بيننا. قلت له وما هي الصفقة، قال حشيش، ذهلت في البداية, ثم تذكرت فقري وفاقتي وجوع أطفالي وقلت له، موافق وإلي بالتفاصيل، قال لي المهم أننا اتفقنا وستأتيك التفاصيل بعد عشرة أيام، وانتهى حديثنا بنزولي أمام منزلي. وضعت رأسي على الوسادة وأطلقت العنان لفكري في القادم من الأيام والأحلام، وانطلقت من وضع ابن عمي، من منزله الكبير الفاخر إلى السيارات الفارهة الواقفة ببابه إلى وضعه في القبيلة ومكانته، حيث التبجيل والتقدير والإهتمام به وله، لأنه غني! لا يهمهم من أين وكيف أصبح غنيا بل المهم بالنسبة لهم والأهم أنه غني! يجلس في واجهة المجلس وحديثه لهم ذو شجون وابتسامته تطربهم، يسعون إلى رضاه بأي شي وكيفما يكون. وتساءلت، هل من الممكن أن أصبح مثله في يوم من الأيام وأجدهم يتسابقون إلى رضاي والسؤال عني عند غيابي ولا يقطعون أمرا بدوني؟ آآآآآه كم أنتم منافقين يا أبناء قبيلتي!! أين سأكون رهينة، في الرياض في جدة في الدمام في الشمال، أم في اليمن؟ وكيف سأكون رهينة، في زنزانة في شعب في جبل، أم في بيت مهجور؟ لا يهم لا يهم، المهم أن أخرج من هذا الفقر من هذا العوز من هذه الحاجة من الإهانة من نظرات أطفالي من نظرة زوجتي من الموت الأصغر. مرت ستة أيام، وإذا بابن عمي بباب بيتي، ركبت السيارة معه وانطلقنا، قال لي إليك التفاصيل، سنسافر بعد أربعة أيام إلى الرياض ثم سنتجه بعد ذلك إلى دبي وسنقوم بأخذ فيزة من السفارة الباكستانية كي نذهب إلى باكستان وسنقابل هناك أحد التجار وسأضعك عنده رهينة في طن من الحشيش لمدة أقصاها شهرين لأنني سأنهيها قبل ذلك وسأقتسم معك الأرباح بعد خصم التكاليف. هل لديك جواز سفر؟ فاجأني بسؤاله بينما كنت مشغولا بكلامه، قلت له لا، قال غدا تستخرج لك جواز سفر وهذه عشرة آلاف ريال تؤمن بها مستلزمات عائلتك فترة الشهرين وأنا سأهتم بهم خلال هذه الفترة. لم أرد عليه بشيء، أخذت العشرة آلاف وأنا غير مصدق، إنها بداية الطريق، لا لا لا بل هي نهاية الفقر، وداعا أيها الفقر وداعا إلى الأبد. أوصلني إلى منزلي ورجعت إلى أحلامي، أحسست بخوف من هذه المخاطرة.. باكستان!؟ لكنني كلما تحسست جيبي ووجدت العشرة آلاف تقلص ذلك الخوف وقويت عزيمتي على المخاطرة فإما أكون أو لا أكون. في الصباح، إتجهت إلى الجوازات واستخرجت جواز السفر ثم توجهت بعدها إلى السوق ولم أترك شيئا حُرمت منه أسرتي إلا وقمت بشرائه، كل ما يحبونه ويشتهونه من أكل ولبس وكماليات، حتى لم يتبقى معي من العشرة آلاف سوى أربعة عشر ريالا فقط. قمت بإيصال المشتروات إلى البيت وذهبت بعدها إلى منزل ابن عمي لأخبره بأنني قد استخرجت جواز السفر وأمّنت لعائلتي مستلزماتها، سألني كم تبقى معك من المبلغ؟ قلت لا شيء، فضحك، وأخرج من جيبه سبعة آلاف ريال وقال لي ضع عند أهلك جزء منها فربما يحتاجون لشيء أثناء غيابك، وستكون رحلتنا إلى الرياض بعد الغد. أخذت المبلغ ونمت تلك الليلة أحلم ثم أصحو وأعود أحلم، وأخبرت زوجتي بأنني مسافر إلى الرياض في رحلة عمل وأنني سأغيب قرابة الشهرين وأعطيتها خمسة آلاف ريال، وبدأت تسألني وتكثر علي السؤال، ما هذا العمل ومن أين هذه النقود وكيف ولماذا ومتى؟ قلت لها سأخبرك عندما أعود. إنطلقنا من مطار نجران إلى مطار الرياض، كانت رحلتنا صباحا ومن الرياض إلى دبي ظهرا، كانت أول رحلة لي خارج الوطن، وصلنا إلى مطار دبي، كنت منبهرا بذلك المطار وخالجني شعور غريب من الصعب وصفه، أحسست كأنني قادم من باطن الأرض إلى خارجها. بهرتني دبي بجمالها بنظافتها بأناقتها بحضارتها بكل ما فيها، عرفت أنني كنت مدفونا وأنا حي وأن الفقر هو دافني. كنت أمشي خلف ابن عمي كرجل آلي مبرمج أنفذ توجيهاته بكل دقة، سكنّا بفندق حياة ريجينسي على شارع الخليج، كان ابن عمي يخرج باستمرار ليقابل الأشخاص وليعمل فيزة ندخل بها إلى باكستان. مكثنا أربعة أيام في دبي وفي ذلك المساء أخبرني بأننا سنتوجه إلى باكستان فجرا، حينها لا أعلم هل هو الخوف من المجهول أم خطورة ما نحن مقدمون عليه، شعرت برعشة تسري في جسدي وليس هناك مجال للتراجع. وصلنا إلى مطار كراتشي وانتهينا من إجراءات الدخول وكان في استقبالنا شفيق خان وهو معرفة ابن عمي وقد استقبلنا استقبالا حارا، أخذنا بسيارته وقال حجزت لكم بفندق الشيراتون. كانت الشوارع مزدحمة وكان غالبية السكان يستخدمون الدبابات في تنقلاتهم، أوصلنا إلى الفندق الذي يحاذيه العديد من الفنادق وإذا به غرفة محجوزة لنا وقال سآتي إليكم ظهرا وذهب. دخلنا الغرفة وأخذنا قسطا من النوم حتى الظهر، إغتسلنا ونزلنا إلى الدور الأرضي من الفندق حيث يوجد بوفيه صغير ومسبح ومقهى، إنتظرنا بالمقهى حتى وصل شفيق وجلس معنا وتبادلنا أطراف الحديث، قال سنتاول الغداء بالدور الثاني حيث يوجد مطعم لبناني، وتناولنا الغداء، بعدها قال سآخذكم في جولة بالمدينة، أخذنا إلى أسواق المدينة "الباك تاور" أو ما يسمى "شين ون" وهو على شاطئ كلفتون وإلى مزار شريف علي وإلى دلمون مول في شارع طارق وإلى سوق الأحد، ثم ذهبنا لتناول العشاء في مطعم شعبي يديره غلام وهو ذو شهرة واسعة في كراتشي، بعدها عدنا إلى الفندق وقال لنا شفيق غدا سنكون جاهزون فجهزوا أنفسكم صباحا. سألت ابن عمي، هل غدا هو موعد تسليمي لهم؟ قال لا، إنما سأختار نوعية الحشيش والكمية وطريقة التوصيل. وأخذت الأفكار تلعب بي كالأمواج، ماذا لو فشلت الصفقة؟ قُبض عليها مثلا أو خان فيني ابن عمي! ماذا سيحدث لي؟ هل سأذهب هكذا "كحل باكية"؟ لم أسأل ابن عمي ماذا سيفعل لو قُبض على الحملة وماذا سيكون مصيري خوفا من أن يقول لي أنت جبان. طردت تلك الوساوس ونظرت إلى الجانب الآخر، جانب الغنى والمال، كنت أقوي عزيمتي وأطرد الخوف من داخلي. في الصباح الباكر حضر شفيق وركبنا سوية واتجهنا إلى خارج كراتشي إلى منطقة مزارع، دخلنا في إحدى المزارع وكان بها مجموعة في حدود التسعة أشخاص من بينهم صاحب المزرعة محمد أكبر، وبعد السلام جلسنا وأحضروا لنا الشاي وتكلم ابن عمي مع محمد أكبر قائلا له، هذا ناصر ابن عمي سيكون رهينة في الطن ومهلتنا شهرين من وصول البضاعة إلى اليمن. أحضروا بلاطة حشيش من نوعية تدعى "جميلة"، شاهدناها ثم ذهب محمد أكبر وابن عمي إلى داخل المزرعة لمشاهدة الكمية وعادوا إلينا وتم الإتفاق بينهم على طريقة النقل والتسليم في اليمن، بعدها رجعنا إلى الفندق وكنت تارة مصدق لما يحدث وتارة أخرى مكذب له! هل هو حقيقة أم ضرب من الخيال؟ هل أنا شخص عاقل لأوافق على هذه المخاطرة؟ في غرفتنا بالفندق، قال لي ابن عمي غدا سنشحن البضاعة على إحدى البواخر وأنا سأكون في استقبالها في اليمن وبعدها سندخلها إلى السعودية وأنت ستكون لديهم معززا مكرما حتى أفك رهنك وأعدك بذلك قبل نهاية الشهرين ولن تحتاج لشيء، سيوفرون لك كل متطلباتك وأنا سأهتم بأسرتك فلا تحمل همها. قلت له، ماذا لو قُبض على البضاعة؟ قال لي، تفائل خيرا يا رجل لقد تم التخطيط لها جيدا وفي حالة تم القبض عليها فأعاهدك أن لا أتركك أبدا. ذهبت أنا وهو في جولة في كراتشي القديمة والجديدة نتبادل الأحاديث والأماني والمشاريع القادمة حتى انقضى يومنا وعدنا إلى الفندق. وفي الصباح، حضر شفيق وتوادعت من ابن عمي وحملت حقيبتي وذهبت مع شفيق حتى وصلنا إلى مبنى من ثلاثة أدوار، لا أعلم في أي مكان في كراتشي، ترجلنا من السيارة ودخلنا شقة في تلك البناية وكان فيها خمسة أشخاص منهم ثلاثة مفتولي العضلات وفارعي الطول، ألقينا عليهم السلام وكان منهم إثنين يتحدثان العربية بلهجة مكسرة، وقد رحبا بي. قال لي أكبرهم وهو شودري "هذا غرفة حق أنتَ نوم واجلس معنا هنا ما نبغى مشاكل معك أي شي يبغى نحن نجيب وفيه جوال حق مكالمات لك في اليوم اثنين مكالمة هذا كل شي" قلت إنشاء الله ما يصير مشاكل ونخلص على خير. ذهبت للغرفة وكان تأثيثها جيدا، كان الشباك مغلق بصاج حديدي محكم وكان جهاز التكييف لا يطل على الخارج بل على غرفة أخرى تحسبا لهروب الرهينة، وكانت الشقة مؤمنة ومحصنة وكأنها زنزانة مع توفير كافة الطلبات. مر اليوم الأول وكنت أتحدث مع شودري ومحمد بينما الإثنين الآخرين لا يفقهان حديثنا، وبدأ الخوف يعتريني والقلق يحيط بي. كنت أتصل في الثلاثة الأيام الأولى على ابن عمي في باكستان، بعدها أخبرني أنه سيذهب إلى اليمن وسيتصل بي هو ليعطيني رقما للتواصل، كنت ضيفا تحت الحراسة وكانوا يتناوبون حراستي من وقت لآخر، كانوا يحضرون لي جرائد عربية وثلاث وجبات في اليوم وأي شيء آخر أطلبه، وكان الوقت بطيئا قاتلا. مضت عشرة أيام من آخر مكالمة مع ابن عمي، وإذا به يتصل بي من نجران يطمئنني بأن كل شيء يمشي حسب ماهو مخطط له وأن عائلتي بخير وأنه سيغيب عشرين يوما لترتيب الإستقبال في اليمن وإدخال البضاعة إلى السعودية وأن علي ألا أقلق من أي شيء وسألني عن تعاملهم معي وهل هناك ما ينقصني، وأجبته بأن كل شيء على ما يرام. كانت علاقتي بشودري جيدة، فسألته هل أنا الوحيد الرهينة لديكم أم أن هناك غيري؟ قال لي بل يوجد غيرك الكثير ومن قبائل مختلفة من السعودية. قلت وهل تم فك رهنهم أم ما زالوا؟ قال هناك من تم فك رهنه وهناك من تورط ولم يفك رهنه. قلت وماذا حدث لهم؟ قال ستعلم إذا لم يفك رهنك، قالها ضاحكا! حينها أحسست بأن نهايتي قد اقتربت، إنها ضحكة الموت "يارب وش اللي بلاني بها البلوى، الفقر زين وخير الله كثير، وين قلبي وين عقلي كيف رحت للموت بدون تفكير، لو أموت في حادث أو طبيعي كان أرحم وأهون لكن أموت ثمن حشيش يا والله الخاتمة الشينة"! حاصرتني الأفكار وتسلل الخوف إلى قلبي، بمن أتصل لو ضاقت الدنيا علي، وماذا أقول له "أنا مرهون في طن حشيش وافزعوا لي يا ربعي يا بني عمي! ومن سيفزع في مثل هذه، يا والله الكارثة، يعني أموت موتة كلب ماحد درى عني"!! مر الشهر الأول ودخلنا في العد التنازلي وكل يوم أشعر بالضيق أكثر وأكثر، وفي اليوم الثالث عشر من الشهر الثاني جاءني اتصال ابن عمي، يالله بالعلم الطيب، قلت له ملهوفا، بشر إيش العلوم؟ قال أبشر بها طيبة وكل شي على مافي خاطرك، خمس أيام أسلّم فلوس الرهنية في دبي بعدها بيوصلونك المطار ونلتقي في دبي والرقم هذا خله معك كلمني عليه وترى هلك بخير وأمورهم عال العال. حينها فقط شعرت وكأني ولدت من جديد وكأن جبلا قد انزاح من فوق ظهري، قلت يا شودري خمسة أيام وأفارق وجهك, قلتها ضاحكا منتشيا. قال شودري مبروك، قلت هل لديك خمر؟ ولا أعلم لماذا قلت ذلك فأنا لم أشرب الخمر طيلة حياتي، قال شودري لا يوجد خمر لكن يوجد حشيش هل تريد؟ قلت نعم أريد , وربما خشي أن أسبب لهم مشاكل لو كان أحضر الخمر، وجربت الحشيش لأول مرة في حياتي. كنت أتصل على ابن قبيلتي مرتين في اليوم وفي اليوم الخامس قال لي خلاص لقد سلمت المبلغ وسيأتيك محمد أكبر وشفيق ويحجزون لك ويوصلونك المطار وأنا أنتظرك في دبي. غمرتني فرحة غير طبيعية وبعد أربع ساعات وصل محمد أكبر وشفيق، ألقيا علي التحية وقالا مبروك كلو تمام وحنا آسفين بس أنت عارف الشروط، سوف نذهب الآن إلى المزرعة لنجلس هناك وستكون رحلتك منتصف الليل تمام الثانية عشرة. ركبنا السيارة ومعنا شودري والبقية جلسوا في الشقة، وفي المزرعة جلسنا نرتشف الشاي ونتبال الحديث، قلت لشودري والآن أخبرني ماذا كنتم فاعلين بي لو لم يتم فك الرهن، هل كنتم ستقتلوني؟ ضحك وقال اسأل محمد أكبر، قال محمد أكبر وماذا سنستفيد من قتلك؟ لدينا طريقتان نختار السهل منها والجاهز. قلت وما هي؟ قال، قبل أن ننفذ أي من الطريقتين نمنح الرهينة فرصة الإتصال بمن يساعده ثم نبدأ بعد ذلك بالتضييق عليه، حرمانه من الطلبات وتقليص الثلاث وجبات في اليوم إلى وجبة واحدة تحتوي على ما يبقيه حيٌ فقط، حرمانه من الإتصال اليومي واستبداله باتصال واحد في الأسبوع، نحاربه نفسيا ونجعله تحت ضغط نفسي شديد وحين نيأس منه ونتيقن من أنه ليس هناك من يساعده أو ينقذه، نتصل بإحدى المنظمات التي تتاجر بالأعضاء البشرية لنبيعه عليها حيث يستفيدون من أعضاءه، العيون الكلى الكبد القلب وغيرها ويقومون بتهريبها للخارج. والطريقة الأخرى تتمثل في القاعدة, فنحن تجار مخدرات ومنظمة القاعدة هي رأس هرمنا، نقوم بعرض الرهينة عليها مع كامل بياناته، وهي تشتريه منا على أنها المنقذ له من تجار المخدرات، في الوقت الذي يكون فيه منهار نفسيا وجسديا، وحين يعلم بأن المجاهدين قد افتدوه بالمال فإن ذلك يحيي الآمال في داخله من جديد وينصب تفكيره في نقطتين. إما أن يفكر في الإنخراط معهم حتى يجد لنفسه مهربا منهم ويعود إلى أهله، أو ينخرط معهم فعليا. وفي كلتا الحالتين تبدأ القاعدة في تغذيته فكريا حتى تغسل دماغه وتضمن انخراطه في صفوفها، وإن أحست منه بنوع من عدم الولاء أو أنه يتظاهر بعكس ما يبطنه أو أنه يتستر بهم لينتهز الفرصة ويهرب منهم، فإنهم يقومون بتنظيم عملية إرهابية في باكستان أو في أفغانستان أو أينما كان هدفهم ويوهمونه بأنهم يقومون بعملية إنتقال من مكان إلى آخر أو من موقع إلى آخر ويعطونه سيارة يقوم هو بقيادتها ويحددون له الطريق الذي سيسلكه وحين يصل إلى النقطة المطلوبة بالنسبة لهم يقومون بتفجير سيارته وهو بداخلها. ويتم الإعلان بأن هناك مجاهد استشهادي قد فجر نفسه في موقع ما وقتل وأصاب الكثير. وتكون منظمة القاعدة قد استفادت من جهتين، الأولى أنها نفذت عملية من عملياتها الإرهابية والثانية أنها إستغلت الإعلام لإيهام الرأي العام بقوتها وولاء المجاهدين لها وأنهم يبيعون أرواحهم فداء للإسلام! أخذت كأسا من الماء وشربته وأصابتني رعشة وذهول من هول ما سمعت ونظرت إلى محمد أكبر نظرة المصدق المكذب وقلت له، وهل كنت سأصبح استشهاديا رغما عني أم كنتم ستبيعوني لتشليح الأعضاء البشرية؟ فضحك علي وقال، في المرة القادمة سندرس وضعك إذا عزمت على رهن نفسك. قلت وهل بعتم أحد؟ قال نعم، هناك من قمنا ببيعه للقاعدة وهناك من بعناه على تجار الأعضاء البشرية. قلت ومن أي الجنسيات هم؟ قال من جنسيات مختلفة. قلت وهل من بينهم سعوديين؟ قال نعم ومن قبائل مختلفة. قلت مثل من؟ قال، ع – د – م – ر – ش، وغيرهم إلا أن الغالبية منهم يخلصون أنفسهم بفك رهنهم. حينها علمت بأنني دخلت في عالم أكبر من إدراكي وفكري وقدراتي، عالم خليط من المخدرات والإرهاب والإجرام والسياسة، عالم خلف الكواليس لا يعرف أخلاقياته ولا قواعد لعبته إلا من يتربع على قمة هرمه، منظمة القاعدة ومن ينتمي إليها. إكتشفت في تلك اللحظة مالم أعرفه في سنين عمري كلها وأن الأمر أكبر وأخطر مما كنت أتصور وأعتقد. مر الوقت سريعا, وفجأة قال شفيق، هيا بنا لقد اقترب موعد الرحلة، قلت لهم وداعا وركبنا السيارة أنا وشفيق ووصلنا إلى المطار، أنهيت إجراءاتي وركبت الطائرة، وحين أقلعت باتجاه دبي لم أصدق أنني خرجت سالما مما كنت فيه بعد معرفة الحقيقة وكدت أنخرط في موجة من البكاء، ليس خوفا أو ضعفا، بل لأنني كنت غبيا وتم استغلالي لغرض ما، ولو كان فشل لتم استغلالي أكثر في أغراض أدهى وأشنع. وصلت إلى مطار دبي وكان في استقبالي ابن عمي وكان استقباله حار جدا وذهبنا إلى الفندق فقد كنت متعبا مرهقا منهكا وبحاجة ماسة للنوم، لم ندخل في أي نقاش وقلت له غدا سنجلس ونتحدث. صحوت الحادية عشرة ظهرا واغتسلت وبدلت ملابسي ونزلت إلى اللوبي، طلبت كوبا من الشاي وأخذت أتصفح إحدى الجرائد، وإذا بابن عمي قادم إلي من الخارج، ألقى علي التحية وقال لي هل أفطرت؟ قلت بل سنتغدى، قال أين تريد أن تتغدى، قلت له لقد إشتقت للمندي. وذهبنا إلى أحد المنادي نتناول غداءنا، سألني عما واجهته في باكستان، وأخبرته بكل شيء وأخبرته أيضا بأنني عاتب عليه لأنه لم يخبرني بحقيقة الأمر. قال لي خشيت إن أنا أخبرتك أن تتردد في المشاركة والحمد لله ها أنت الآن من أصحاب الملايين "واللي ما يغبر شاربه ما يدسمه"! قلت له أخبرني عنك منذ أن غادرت باكستان وحتى الآن. قال، بعد الإتفاق مع محمد أكبر تم تحميل البضاعة على إحدى البواخر التجارية التي تمر أمام السواحل اليمنية وتمت تخبئتها في خزانات الديزل بالباخرة، كانوا يريدون أن يغلفوا الحشيش بالبلاستك المقوى ويغمرونه في الماء ويعلقونه بخطاف في أسفل الباخرة حيث يتم سحبه فيما بعد، لكنني رفضت ذلك، وصلت الباخرة إلى السواحل اليمنية الجنوبية (المشرق) وخرج المستقبلين في زوارقهم وتم تسليمهم البضاعة حيث حملوها إلى منطقة المهرة، وهناك تم تخزينها حتى يستلموا نقودهم مقابل الإستقبال. وأخذوا مبلغ 300 ألف ريال (300 ريال عن كل كيلو) وبعدها اتفقت مع مهربين ليقوموا بنقلها إلى الحدود اليمنية السعودية مقابل 600 ألف ريال (600 ريال عن كل كيلو) وتم تخزينها في المستودعات على الحدود اليمنية السعودية مقابل 100 ألف ريال (100 ريال عن كل كيلو). بعدها اتفقت مع أحد المهربين لإدخالها إلى السعودية مقابل مليون وثلاثمائة ألف ريال وتم توصيل البضاعة إلى الرؤوس الكبيرة (الموزعين) مقابل سبعة ملايين ريال. وبعد خصم قيمة تكلفتها من باكستان 700 ألف ريال وخصم قيمة الأجارات عليها صفي لنا أربعة ملايين ومائة ألف ريال نصيبك منها مليونين وخمسون ألف ريال. لم أصدق بأنني أملك 2 مليون ريال فقلت له أسألك بالله أنت صادق في كلامك؟ ضحك وقال .. إي والله إني صادق يا مليونير ناصر!! . بقلم أ. محمد طحنون كاتب صحيفة نجران نيوز الالكترونية