في كتابه الجديد، الفن والشرق، يتناول شربل داغر الفن، بين إنتاجه وإعادة إنتاجه او اعادة تقويمه، بعد انتقاله من مصادره الأساسية او اماكن صنعه، العربية والإسلامية، وتداوله والتناوب على امتلاكه... وحفظه النهائي داخل مجموعات العاديات او المتاحف الغربية، سواء من طريق التجارة، المشروعة او الخفية، او من طريق الاكتشافات الأثرية المرتبطة بسياسة الأمر الواقع والهيمنة السياسية والعسكرية والاستعمار المباشر. وهو إذ يتناول هذه الأمور، إنما يعالجها علمياً، استناداً الى مراجع ومصادر اساسية، قديمة وحديثة، ويسعى الى دراسة ما تكون حولها من مفاهيم واعتقادات وأحكام كان هاجسها تفسير ثقافة الغير وتقاليده وفنونه، من خلال نماذج فنية ممثلة لها انتقلت، بل اجتزئت من بيئاتها الخاصة وسياقاتها العملية والوظيفية لتوضع خاجها، وتمنح بذلك قيماً ومعاني جديدة في عمليات متتالية ومعقدة هي اشبه بإعادة إنتاج لها. ان معالجة مثل هذه المسائل الفنية المرتبطة، في جانب منها، بمفهوم الاستشراق، بشقيه المتخيل والفعلي المادي، المتمثل بملكية الغرب لنماذج من فنون الغير الشرق وإسهامه الفعلي بالكشف عن آثاره القديمة والوسيطة، إنما تلقي الضوء على جوانب مهمة ربما لم يتطرق إليها احد من قبل بمثل هذا الشمول، اقله في اللغة العربية من تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق. ويأتي هذا الكتاب الجديد لشربل داغر في السياق العام لاهتماماته البحثية، ومحورها الأساس "الفن الإسلامي"، ويتناول فيه جذور المفهوم الغربي للفن الإسلامي ونشأته وتطوره وفق ظروف ومقاييس غربية، بينما كان قد رجع، في دراسات سابقة له - مذاهب الحسن 1998، والفن الإسلامي في المصادر العربية 1999 - الى كتابات عربية قديمة لا لكي يستخرج منها فقط شواهد قد تلقي الضوء على جوانب معينة في الفن الإسلامي، بل لكي يبحث فيها عما قد يشكل منطلقاً لإدراك بعض مفهومات الجمال وتصوراته في بيئة إسلامية، بما يمكن الباحث من تصويب خلل او اعوجاج هنا وهنالك في الدراسات الفنية الإسلامية الغربية التي باتت تشكل، اليوم، مكتبة غنية جداً لا بد من الرجوع إليها في كل دراسة في هذا الميدان. ويستعرض المؤلف، بداية، الكتابات الغربية عن الشرق ورؤيتها له، ليستنتج انها تفتقر الى الموضوعية والمنهج العلمي التحليلي، فضلاً عن ان الجانب الفني فيها لم يكن محور اهتمامها. اي ان ثمة تبايناً بين الكتابة عن الفن وبين إبراز هذا الجانب في تقارير المستشرقين عموماً، ما يعني غلبة الجانب اللغوي على غيره حتى لدى النقاد والمؤرخين الفنيين. إلا ان هذا الموقف قد يصح في حقبات معينة ولا ينطبق على حقبات اخرى من التاريخ الغربي. فالشرق الإسلامي "شهد تملكاً فعلياً لا تخيلاً وحسب لمواد الفن وثقافته" وإن كانت اهتمامات المستشرقين انصبت على الوصف، إلا انها استندت في ذلك الى مواد مختلفة نصوص كتابية او نقوش على حوامل مادية كالحجارة او المعادن او الأقمشة. فاهتماماتهم لم تقتصر على النصوص وحسب، وإنما تناولت كل ما بلغته ايديهم من مواد الماضي، وفق منظور آثاري. وإن كان الماضي الشرقي القديم، بخاصة الفرعوني، قد بهرهم، فإن علاقتهم بالماضي الإسلامي تبدو مختلفة، إذ بقيت ذات "طبيعة شكية، رفضية، بل تصغيرية". ان مقاربة الفن الإسلامي انطلقت من مفاهيم ومعايير كانت سائدة في الغرب تقضي بتطبيق طرق تاريخ الفن الأوروبي ومفاهيمه على غيره من الفنون غير الأوروبية، كالفن الإسلامي. واستناداً الى هذه المفاهيم العامة تصنّف الفنون وفق معايير تقلل من شأن بعضها كالصناعات البدوية الحرفية والزخرفة وتعلي من شأن بعضها الآخر كالتصوير والنحت الجدير بصفة "فن"، اي المفردة التي اقترنت منذ اواسط القرن الثامن عشر بدلالات جديدة تعني في ما تعنيه بلوغ الجمال المثالي من دون اي هاجس نفعي. الأمر الذي ادى الى فرز اصطلاحي للفنون يميز بين فنون عظمى، وفنون صغرى... ويبقى معتمداً حتى في دراسات فنية حديثة من القرن العشرين. ولمعرفة ما المقصود بالفن، يرى الكاتب في الفصل الرابع ان لا بد من التعرف النقدي على تعريفاته ومن درس اشكال تملكه وتداوله او تناقله، المادي والقيمي، بين الأفراد والجماعات، مع الأخذ في الاعتبار ان العمل الفني عندما يتحول الى سلعة يبقى متميزاً عن غيره من السلع لاختلاف طرق استهلاكه، وتبدل قيمته، واحتفاظه بالتالي باحتكارية عالية من قبل مقتنيه. وينطلق الكاتب من كون الفن مادة تبادل تتبدل معه ملكيته والنظر إليه، للوقوف على ما بات يمثله الفن الإسلامي في نظر الغربيين، بخاصة في فرنسا. فإن نقل او جلب اعمال فنية من بلد الى آخر وتسويقها وتداولها فيه يعني ان ثمة قناعات بما تمثله من قيم اسندت إليها، قد تسمح بتوظيفها في سياقات جديدة، مالية ورمزية ونفعية، لم تكن معروفة في البلد الذي اتت منه. اي ان ما يرافق تداول السلع الفنية، بهدف التعريف بها، من كتابات ذات طبيعة نقدية او فلسفية او ترويجية، انما يدخل في نطاق مسار الملكية ويسهم بالتالي في منح هذه الأعمال معنى جديداً هو منها بمثابة اعادة إنتاج لها في بيئتها الجديدة. وفي هذا السياق إعادة الإنتاج، فإن جلب العمل الفني يعني ان ثمة إقراراً مسبقاً بقيمته التي كان انتجها التعريف به وما ارتبط بهذا التعريف من اعادة إنتاج لمعنى العمل، فنياً وتاريخياً. اي ان الكتابات التصنيفية والتحليلية انما أضفت على المادة الفنية قيماً جديدة، بما يندرج في سياق دراسة المعنى كما هو متعين في مسار تاريخي وعبر عمليات ثقافية واجتماعية شديدة التعقيد. فمعنى الفن الإسلامي "ليس ماثلاً في الشيء الفني" وملازماً له بقدر ما هو ناتج عن عمليات معالجة متتالية لمواده. وانطلاقاً من إقبال الأوروبيين، منذ القرن الخامس عشر، على شراء نتاجات شرقية واقتنائها، الى اكتشاف معالم الشرق وثرواته، ومحاولات السيطرة وبسط النفوذ على مقدراته، وبداية تشكل النظام الرأسمالي، اجتمعت في نهاية المطاف، تمشياً مع سياسة التوسع والهيمنة، "عمليات نهب واستعباد ووضع يد وفنون من الاحتيال والسرقة"، كانت ضحيتها بلاد عدة في العالم، ومنها بلدان عربية وإسلامية. فعلى مدى قرون عدة ما انفكت تتطور رؤية الأوروبيين الى الشرق وتأخذ ابعاداً متنامية ومتجددة مع تطور البلدان الأوروبية نفسا المتمثل في نهضة فنية انطلقت من ايطاليا لتعم اوروبا، حيث تأسست مراكز لجمع النوادر والطرائف وجميل المصنوعات وحفظها، عرفت باسم "الخزانة" cabinet كنواة اولية للمتحف، كما تأسست منذ القرن السادس عشر الأكاديميات تعبيراً عن حاجات ثقافية وفنية أو مهنية كان لا بد من تلبيتها خارج نطاق الأديرة والكنائس. وكما يبينه المؤلف في الفصلين السادس والسابع، تمثل هذا الميل الشديد الى اقتناء مواد نادرة وعريقة في رحلات الى بيئات شرقية قامت بها بعثات اوروبية، ايطالية ثم فرنسية. الأمر الذي تطلب بناء مكتبات ملكية كبرى لاستقبال ما كان يرد إليها من مخطوطات وكتب دين شرقية كان انتظم عليها الطلب منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقيام المؤسسات ومعاهد التعليم وإعداد الخبرات والاختصاصيين المهتمين بثقافة الغير كتعلم لغاته ودرس آدابه وفنونه وآثاره... إنما كان بهدف التهيئة لاستيعابه، إن لم يكن لإلغائه، وللمهمة التي انيطت بالمستشرقين منذ القرن التاسع عشر، وهم الذين كان عليهم، الى جانب "تجوالهم في نطاق العلم الخالص"، الانغماس في شؤون العالم المعاصر لهم، والتمكن من وضع الدراسات عنه لأغراض سياسية وتجارية. في الباب الثالث من الكتاب الفصول من الثامن الى الثاني عشر يستعرض المؤلف، بدقة وتفصيل، ما احدثته الثورة الفرنسية من تبدل عميق في الرؤى والمفاهيم وفي طبيعة العلاقة مع الآخر، بحيث ان ما كان حتى ذلك الوقت يقتصر، في مجال امتلاك المعرفة ومعالمها المادية، على مبادرات هي في جزء كبير منها فردية، يصبح من مهام الدولة وأهدافها الأساسية. ومع الثورة وما انبثق عنها، في السنوات التالية، من اعمال عسكرية، داخل اوروبا نفسها او خارجها، اتبعت فرنسا، سواء في ظل الحكم الجمهوري او الامبراطوري، سياسة تقوم على السيطرة والهيمنة والاحتواء، ازاء جيرانها المباشرين او البلدان البعيدة التي وصلت إليها جيوشها وديبلوماسيتها. وهي السياسة التي ارادت ان تستثمر الانتصارات العسكرية وتوظفها ثقافياً وفنياً وعلمياً، وأدخلتها، بعد ذلك، في منافسة شديدة لن تتوقف مع الدول الأوروبية الأخرى التي كانت لها اطماع مماثلة. وكي تتحقق مثل هذه الأهداف، وبالسرعة المطلوبة، كان لا بد من مصادرة ثروات الغير وأعمال نهب حقيقية في ايطاليا وسواها من بلدان أوروبية وغير أوروبية تم على أثرها انتزاع ونقل العديد من الشواهد والأعمال الفنية الى ما اعتبره الثوريون "دارها الأخيرة"، أي فرنسا التي أرادوا لها أن تكون "أثينا الجديدة"، أو "روما الجديدة"، و"منارة العالم والانسانية"، ولكن على حساب الآخر وكنوزه الثقافية المصادرة. مع نهاية نابليون بونابرت، اعيدت الأعمال الفنية الأوروبية وحدها الى مصادرها، ومع ذلك، فإن متحف اللوفر قد أصبح، في أواسط القرن التاسع عشر، المكان الذي اجتمعت فيه - بحسب ما يرويه فلوبير باعتزاز في كتابات له يستشهد بها شربل داغر الفصل الثامن - مختلف مراحل التاريخ لمختلف الحضارات، ممثلة بما يعبر عنها من كتابات وآثار وفنون... وفي هذا السياق، يعود المؤلف في الفصول الأخيرة من الجزء الأول للكلام على التنقيب والبحث عن الآثار، والدوافع والأهداف، ابتداء من حملة بونابرت الى مصر وما كان لها من نتائج مباشرة سواء على صعيد أعمال التنقيب الأثري وتطورها العلمي لاحقاً، أو في مجال تجارة الآثار التي انتشرت وازدهرت وما زالت قائمة الى اليوم، وأسهمت في نقل جزء كبير جداً من معالم الشرق الحضارية الى متاحف الغرب وخزاناته أو مجموعاته الخاصة. من الناحية العسكرية كانت الحملة الى مصر قصيرة، غير مثمرة، إلا أن نتائجها العلمية، الآثارية في المقام الأول، تخطت بكثير أهدافها الاستراتيجية المباشرة. فإلى جانب المغانم الكبيرة، فتحت الحملة الباب واسعاً أمام الأوروبيين للتنقيب عن الآثار ليس في مصر وحدها بل في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأدنى، وأتاحت للجندي الأوروبي أن يتحول الى منقب، وللضابط أو القنصل أن يصبح بدوره عالماً أثرياً يشرف على الحفريات ويراقب ويتولى عمليات شراء الآثار وجمعها ونقلها الى بلاده. فبعد صدور الكتاب الجامع في وصف مصر 32 جزءاً، سنة 1821، المتضمن دراسات وصوراً ورسوماً لأفراد البعثة العلمية المرافقة لحملة بونابرت، جاءت بعثة شامبليون وهو الذي توصل الى فك رموز الهيروغليفية لتدشن مرحلة جديدة من البحث العلمي تتالت خلالها البعثات الى مختلف بلاد الشرق الأدنى التي تحوّلت، في هذا المجال، الى مسرح للتنافس بين العديد من الدول الغربية. ولكن، على رغم التوجه العلمي لهذه البعثات والصفة الشرعية التي باتت تتمتع بها، فإن هاجس الاستحواذ على الآثار وتملكها وحفظها بقي مهيمناً طوال القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين. وهي لم تتوان أحياناً عن انتزاع أو اجتزاء آثار نحتية أو معمارية، مهما بلغ حجمها، ونقلها الى عواصم غربية، بموافقة السلطات المحلية ورضاها، وبما يعبر عن قناعتها وسخائها، أو امتنانها لما قُدم لها من خدمات. بعد تجوال ذهب به بعيداً في حوار تفصيلي، تحليلي، طويل وشاق، مع الفن وحول الفن الأشياء والمصنوعات والآثار، في تناقله وتداوله بين التاجر والمكتشف والسوق والمتحف، حيث مقرّه النهائي، والرؤية اليه في بيئة غير بيئته، احتضنته مرغماً ومنحته قيمة ومضموناً جديدين، يعود شربل داغر، في الجزء الثاني من الكتاب الفصول الخمسة الأخيرة الى ما يفترض انه المحور الرئيس لهذه الدراسة، يعود الى الفن الإسلامي ليعالج موضوع إعادة انتاجه وتناقله وحفظه الختامي. فالعمل الفني عندما يُنقل ويوضع داخل سياق جديد، مغاير لما كان عليه سابقاً، إنما يكتسب سمات جديدة، مادية وقيمية، ثقافية ومالية، تعيد انتاجه وتدفع الى التعامل معه بطرق مختلفة.