على الرغم من ان شربل داغر، في كتابه "مذاهب الحسن / قراءة معجميّة - تاريخية للفنون في العربية"*، يعالج الإشكالية المنهجية لبحثه الطويل، الا انه، عملياً، يتبنّى المفهوم الواسع، بل المترامي الاطراف والحدود، "للجمالية" أو معاني الجمال ومظاهره في العربية وهي ما يمكن موازاتها بعبارة مذاهب الحسن..، بحيث يجعلها تنظم المجتمع بكامله، من خلال تطوره التاريخي، وبالاستناد الى رموز الجمالية أو مفرداتها، وتعريفات هذه المفردات، كما وردت في كتاب "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أول معجمات العربية.. فجاء كتابه المؤسس في الأصل على رصد وتحليل معجميين لكتاب العين، وبمستند تاريخي مكمّل أو مفسّر للمعجم، بمثابة دراسة طويلة مفصّلة وكثيرة الاستطرادات، لغوية وتاريخية إناسية وأنتروبولوجية، لغوية وأدبية، عربية ومقارنة، قديمة وحديثة، لمذاهب الحسن، لا تخصيصاً بتحديد ضيّق لمعاني الحسن الجمال والجمالية، بل توسيعاً لها وتفريعاً، ما جعل البحث يمتد على حوالى خمسمائة صفحة من القطع الكبير، موزعة على مدخل وخطة منهجية، وثمانية فصول وخاتمة، مشفوعة في النهاية بعودة جديدة للمنهج، والمسألة الجمالية، مع فهرس بالاعلام، والآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة. والحال ان "الجمالية" أو علم الجمال الذي يقترح له سعيد عقل تعبير "الجماليا"، كعلم محيط بفن أو فنون متعددة، طرح بشكل منهجي في الغرب، منذ القرن الثامن عشر، نظراً لتطور الفنون من نحت ورسم وشعر وموسيقى وعمارة... والسؤال كان: ما الجمالية؟ وتخصّ ماذا؟ هل هي مفتوحة وبلا حدود وتتناول كل شيء جميل حَسَن: الانسان والحيوان والطبيعة مثلما تتناول الفنون بأوسع تعريف لها، أم هي مقتصرة على الفنون الخمسة المعروفة آنذاك: الشعر والموسيقى والغناء والتصوير والنحت؟ وبين مدّ علم الجمال وتوسيعه حتى يطال بناء المنازل والمسارح وتصميم الحدائق على الطريقة اليابانية، وبين حصره وتقليصه، وتجريده حتى من نظرية له، كما فعل تيموتي بنكلي، الباحث الاميركي في فكرته "ضدّ الجمالية"، أو كما قال آرتور رامبو: "وضعت الجمال على ركبتي، وجدته جميلاً، فحطمته"، يبقى الحسن أو الجمال بذاته إشكالياً، ما هو مثلاً؟ هل هو الله وحده هو "الجميل" ولا جمال دونه، كما في بعض النظرية الاسلامية أو المسيحية أو الدينية بشكل عام؟ أم ان الجمال مبثوث في الخلائق جميعاً...؟ وهل هو في الداخل أم في الخارج؟ في الطبيعة أم الانسان..؟ الخ. ويبقى مصطلح تعريف الجمالية أكثر إشكالاً... ما لامسه الباحث شربل داغر في كتابه حين أشار الى "الجمالية" كأزمة، أو عناصر تأزم من جهة، إذ ليس في الامكان، حتى في المعجم، كمعجم "العين" موضوع بحثه، الوصول الى "تعيينات حيادية" للمفاهيم والرموز ومفردات المعرفة الجمالية. يشير داغر، من البداية ايضاً، الى إشكالية اخرى تخصّ بحثه بالذات، وهي إشكالية الجمالية كمفهوم فني معاصر، كيف لنا تطبيقها على نص معجمي قديم؟ وهي عينها إشكالية تطبيق مفهوم الحداثة على التراث العربي القديم، فكثيراً ما تمّ تبني الحداثة بمفهوم مطلق أو لازمني أو لا تاريخي... فاعتبر أبو نؤاس حديثاً، مثلما اعتبر بدر شاكر السياب أو أدونيس أو الماغوط. من أين نبدأ إذن؟ يميل شربل داغر، في منهج كتابه وفصوله وتفريعاتها، الى المعنى الواسع واحياناً اللاتاريخي لمذاهب الحسن، فالمفاهيم الثقافية مفتوحة، بتعبير جورة ديكي، وهو إذ يفتح مروحة التعريفات للجمالية، تراه يصهر متناقضاتها ونطاقاتها، ليستطيع من خلال هذه الكلية التعريفية إدخال النسبي الضروري للبحث، والتاريخي، والخاص بكتاب "العين"، وقد دمج منهجياً بين السبيل الدلالي للمفردة المعجمية ومجموعاتها، والسبيل التاريخي المساعد للسبيل الدلالي والمفسر له أو المكمل، وغالباً ما جاء الاستطراد التاريخي، والبحث المقارن، غالباً على التركيز اللغوي، ما منح الكتاب امتدادات بحثية ومعرفية واسعة، وأبعده عن التركيز. الكتاب في أصله، إذن، وهو أطروحة أكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب، بحث عن العلاقات بين اللغة والفكر والجمال في كتاب "العين". تبع ذلك بالطبع، التمحورات الاجتماعية والفكرية والجمالية المتنوعة لمفردات المعجم، بوصفه، كما يقول داغر "عاكساً لمجموع نظرة الى اللغة والعالم"، مستنداً في ذلك الى قول "راي" في نظرته الى المعجم. فثمة صلات أكيدة بين اللغة والإدراك والحسية، ويلتقي في هذه النظرة "بومغرتن" و"الفارابي".. "فالعين" نص لغوي مبكر، يعود للنصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، ووعاء فكري مبكر ايضاً، لا في العربية وحدها، بل بمقارنته بمعجمات اللغات المعروفة حتى اليوم. ومن خلال تلمساته المنهجية، توصل الباحث الى العثور على ستة مجاميع دلالية في كتاب "العين" لميدان الفن، وهي: الدار، الغناء، الشعر، الشارة، الدمية، الكتابة. لقد توصل الى ذلك، كما يقول "بعد طول معاشرة للمعجم". ولم يكتف بذلك، بل تسلل من خلال المجاميع الستة المتعينة المذكورة، الى السلاسل الداخلة في كل واحد منها، مقيماً دائماً شبكة تعانق لا تنفصم بين المعجمي والتاريخي، مستعيناً بالمصادر التاريخية القديمة والمراجع الحديثة ايضاً، من أجل شبك التاريخي والاجتماعي والفكري والفني في دراسته الألسنية. ومن خلال كل مفردة من مجاميعه الدلالية، وتفريعاتها، ناقش الالتباس القائم بين اللغة والفكر والفكر والجمال، فاعتمد تجميعاً للخلانيّ في هذا المجال، ولاحظ بدقة ووعي كبيرين، رحلة اللغة من المحسوس الى المجازي في كتاب العين، طامحاً للوقوف على الجمالية في العربية من خلال معجمها الاول... هذا الذي عرّفه صاحبه بقوله "مدار كلام العرب وألفاظهم فلا يخرج منها عنه شيء". انطلق داغر إذن من مفردات بعينها في المعجم، سماها اسماء جامعة مع ما لها من تعيينات وتفريعات، وهي تلك التي تتناول مواطن الحسن حصراً كالغناء والشعر، أو توسعاً كالدار والشارة والدمية والكتابة.. ما جعل من البحث بحثاً ذا أساس لغوي متعيّن، إنما فحواه الاخير عمراني جمالي. من هنا يصحّ وسم "مذاهب الحسن" بأنها قراءة معجمية عمرانية للفنون في العربية. فمن "الدار" يتمّ التطرق الى تعيينات المكان العربي بكامله، بين صحراء اتصلت بها البداوة وعمران اتصل به الحَضَر.. وبين القبيلة كأصل، والتجمعات السكانية اللاحقة عليها. خالصاً الى ما يشبه خلاصات ابن خلدون في مقدمته، لهذه الناحية. فالأصل البداوة بالنسبة للعربي، والتحضر طارىء. والفرق بين البدو والحضر هو الفرق بين التنقّل والإقامة. الا انه يلاحظ ملاحظة ذكية، قائمة على ما يسميه "الإقامة في الترحال".. إذ ثمة تقارب لغوي في الجذر بين حلّ و"رَحَل"، فرَحْلُ الرجُل، في اللغة، وإن كان الجذر اللغوي يشير الى الرحيل التنقّل وهو جذر بدوي، الا ان الرَحْل هو المنزل والسكن. وهناك ما يعزز هذه العلاقات الاشتقاقية بمعناها المزدوج الالتفافي، في مقاييس اللغة لابن فارس. ويلاحظ داغر ان ثمة في "العين" تعيينات كثيرة وواضحة للبيت البدوي، باعتباره "الأصل" في تلك الحقبة التاريخية، الا ان تعيينات البيت الحضري ليست وافية وواضحة كالبيت البدوي. بل يشوبها التعميم وبعض الالتباس. ويستطرد في معنى البيت والدار وتفريعاتهما الى مواد البناء الحضري، وعمليات البناء وأدواته وكيفية إقامته، وشطور العمران مع الفتوح، وزينة الدار، وتصنيف البيوت، من بيوت الاحياء الى بيوت الاموات، الى بيوت الحيوان، وصولاً الى "بيوت السماء" كالضُراح وهو، في العين، "بيت في السماء، قائم تحت العرش"... كل ذلك من خلال مفردات "المعجم". وتراه حين يرصد أهل المدينة في الإسلام، من خلال المواد المعجمية، فيجد انها في أصلها تجمّع حول حصن ولها أسوار وتتصل ببرج... وانها ذات أصل عسكري، فإنه من غير عادته في الكتاب لا يناقش آراء المستشرقين الذين نفوا عن العرب والاسلام فهمهم لمعنى المدينة، التي ربطوها أصلاً بالحضارة اليونانية... فنفى داغر، من خلال حجّة ألسنية معجمية، الادعاء الاستشراقي السائد بعدم معرفة العرب والمسلمين للمدينة في حضارتهم القديمة والوسيطة. وهو يمارس التفريع والاستقصاء نفسهما، في تناوله لمحور الصوت في كتاب "العين"، ودراسته لفيزيائية الاصوات وأصولها. فالصوت في الأساس هو الجَرْس، والحسّ للحركة. يقال "ما سمعت له حسّاً ولا جَرْساً، ومن الأصوات الطبيعية للإنسان والحيوان والكائنات، يستطرد الى الألحان والغناء.. والى تفريع معنى "لَحَن"، وما يشتمل عليه من تناقضات. والى نشأة الغناء وصناعته، وعلاقة الايقاع به، مستنداً الى المواد المعجمية، وما يرفدها من الأصول القديمة، ككتب الجاحظ، وكتاب الموسيقى الكبير للفارابي، وكتب إخوان الصفا في الموسيقى، وكتاب ابن خرداذبه في السماع، مستطرداً للعلاقة بين الغناء والشعر، فمنزلة الايقاع من الغناء، بمنزلة العروض من الشعر، كما يقول الجاحظ، والى علاقة الموسيقى بالفلسفة، فالتناسب بين أوتار العود الأربعة والطبائع البشرية الاربع، هو تناسب فلسفي لاحظه اخوان الصفاء في رسائلهم. ثم انه كان لا بد من العودة للشعر لتفسير الغناء ونشأته في العربية، وتطوره في الاسلام، على رأي الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي نصر الفارابي. ومن محور الصوت الذي اشتق منه الغناء، يصل داغر الى الشعر، بصفته تعييناً خاصاً من تعيينات الكلام، ويغوص في أصل الشعر في العربية. وحداثة سنه قياساً لعصر الجاحظ فهو يرده الى مائتي عام من عمر الجاهلية والى التوافق بين الرجز وسجع الكهّان المعروف في الجاهلية، والى صلة الشعر بالغناء والموسيقى، والى مسألة الشعر المنحول كما تطرق اليها كل من طه حسين والمستشرقين وناصر الدين الأسد في أطروحته حول مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ليخلص الى موقف الاسلام من الشعر واقترانه بالأخلاق وخدمة الدعوة، على خلاف ما اقترن به في الجاهلية من جنون وأحلام وكهانة. وهذا التفريع والاستقصاء يمارسه الكاتب بشأن المحور الثالث لكتابه، وهو الدمية... باحثاً في أصلها في الجاهلية من أوثان وأصنام ودمى، ومآلها في الإسلام، متطرقاً منها الى التصوير، والى موقف الاسلام من فني النحت والتصوير، واعتباره اي الإسلام ان المصوّر الأعظم والأوحد هو الله، و باحثاً بالتالي عن الأصول الاعتقادية الإسلامية للموقف من هذه الفنون. ومذاهب الحسن، كما في الكتاب، ستطال "الشارة"، وما يتمحور حولها من مفردات.. فهي اسم جامع، يتفرع منه اللباس، للرأس والجسم والقدمين، مع تعيينات ذلك في كتاب "العين"، وتطال في الفصل السادس "الكتابة"، من التدوين والنظريات المختلفة حول نشأة العربية ونشأته في العربية، وصولاً الى الكتابة الاسلامية، وجمع القرآن ووصفه، متطرقاً لشيوع الكتابة وموادها وأدواتها والأقلام الأولى والديوان ونشأته في الاسلام والعناية بالخطّ العربي، مروراً بمعنى الكتابة في القرآن وكتبة الوحي وما الى ذلك... هكذا تكون الرحلة مع كتاب "مذاهب الحسن" لشربل داغر، رحلة مفيدة وممتعة معاً. والكتابة فيه كتابة حاضرة، وإن كانت تتناول حقبة معينة قديمة من التاريخ العربي والإسلامي. لانه، وكما يقول نيتشه، "علينا، بأقوى ما في الحاضر من قوة، ان نفسّر الماضي" أي ان نجعل الماضي في خدمة الحاضر وليس العكس. وما قام به الباحث من توسيع معنى الحسن والجمالية، والانطلاق من التخصيص اللغوي في كتاب العين الى التعميم التاريخي والعمراني من خلال الابحاث التاريخية والفكرية والفلسفية، إنما جاء تطبيقاً لنظريات كثيرة غربية معاصرة، نذكر منها ما قام به بيكينو مستعيداً دركهايم، وما يقول به جاك ماكيه الذي جمع بين علمي الإناسة والجمال... وإذا كان شربل داغر قد اتخذ من اللغة كما وردت في كتاب "العين" للخليل بن احمد الفراهيدي مدخلاً لدراسة الجمالية، الا انه اعتبر الزينة هي الجسد الثاني، كما يقول ارنست ه. كونتوروفيتش. * مذاهب الحسن دراسة معجمية تاريخية للفنون في العربية - شربل داغر - الجمعية الملكية للفنون الجميلة الاردن والمركز الثقافي العربي، بيروت، ط1 1998.