لم يكن تقرير لجنة الحريات الدينية التابعة للكونغرس الأميركي آخر تحفظات القطب الأوحد على ملف التعليم الأزهري في مصر، لكنه كان أكثرها وضوحاً. فاللجنة التي زارت مصر قبل بضعة أشهر أشارت في تقريرها إلى التعليم الأزهري باعتباره "أداة لتكريس مبدأ الانفصال بين المسلمين والمسيحيين وتفتيت المجتمع المصري". وطالبت بمراجعة مقرراته الدراسية وحذف "ما يثير الغالبية الدينية على الأقليات"، وإضافة مقرر "الحريات الدينية" الذي يقرّب بين الطوائف. وقبل زيارة اللجنة بأشهر، أصدر مجلس المحافظين في مصر قرار تنظيم بناء المعاهد الأزهرية، ما أثار حفيظة برلمانيين وعلماء أزهريين وناشطين إسلاميين اعتبروا القرار استجابة للضغوط الأميركية وصعّدوا معركتهم إلى ساحات القضاء والبرلمان. وأياً كانت نتائج المعركة، فإنها فتحت الباب لأسئلة غائبة - حاضرة عن مدى حاجة التعليم الأزهري إلى التطوير وجدوى التوسع في إنشاء المزيد من المعاهد. ولعل السبب الرئيس لتجدد الحديث عن تطوير التعليم الأزهري هو قرار مجلس المحافظين الذي صدر في أيار مايو الماضي، ونص على "عدم الترخيص ببناء معاهد أزهرية جديدة، ورفض تحويل المعاهد الخاصة إلى حكومية أو قيام الأزهر بالإشراف عليها"، وأوصى بدراسة مدى "إمكان تحويل بعض المعاهد الأزهرية إلى مدارس تابعة لوزارة التربية والتعليم"، إضافة إلى "إعادة النظر في المناهج والمقررات التعليمية التي تدرس في المعاهد الأزهرية من أجل إعداد خريجين لديهم مهارات أساسية وأولوية مطلوبة لسوق العمل". وعلى رغم أن قرار المجلس شكّل تحوّلاً كبيراً في موقف الدولة من التعليم الديني، فإن الأزهر الرسمي التزم الصمت حياله في البداية. ولم يتحرك أحد للرد عليه، في حينه، سوى شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي قال باقتضاب إن "المجلس ليس جهة اختصاص لإصدار القرار"، وإنه سيناقشه مع الرئيس حسني مبارك. لكن طنطاوي فاجأ الجميع بهجومه الحاد على القرار الشهر الماضي، وافتتاحه ثلاثة معاهد جديدة في الإسكندرية وتصديقه على افتتاح ثمانية أخرى في محافظتي قنا وسوهاج. وفي قطاع المعاهد الأزهرية، رفض المسؤولون التعليق على القرار وفضلوا تجنب الحديث عنه. واكتفى نائب رئيس القطاع الشيخ كمال عبد الرؤوف بالقول ل"الحياة" إن "القرار الذي صدر لا قيمة له. والأزهر لا يخضع لقرارات المحافظين"، مشدداً على بطلان القرار لصدوره من جهة غير مختصة. وأكد أن القطاع لم يتلق القرار رسمياً، ملمحاً إلى تسوية تزامنت مع التغيير الحكومي الأخير، وتغيير رئيس مجلس المحافظين. وفي المقابل، يخوض نواب إسلاميون معركتهم التي صعّدوها إلى السلطتين التشريعية والقضائية. ويرى عضو لجنة التعليم في البرلمان النائب عن جماعة "الإخوان المسلمين" علي لبن القرار جزءاً من مخطط لإلغاء التعليم الأزهري، واستجابة للضغوط الأميركية. ويعتقد بأن هناك مؤشرات في خطاب الدولة تشير إلى أن الخطوة المقبلة ستكون تعديل قانون الأزهر لاعتماد الانتخاب طريقة للوصول إلى منصب شيخ الأزهر، تمهيداً لتغيير طنطاوي الذي يعارض القرار. وبعيداً من "نظرية المؤامرة" التي يعتمدها بعض المعارضين للقرار، يرى البعض الآخر آن التعليم الأزهري في حاجة حقيقية إلى التطوير. وهو ما أقر به رئيس قطاع المعاهد الأزهرية الشيخ عمر الديب في أعقاب توليه مهمات عمله قبل أربعة أشهر. لكن هذا البعض يفضل أن يكون التغيير داخلياً. ومنذ إنشائه، لم تتوقف الدعوات الإصلاحية التي انطلقت من داخل الأزهر. وآخرها كان دراسات تحديث التعليم الأزهري التي أعدها أستاذ الفلسفة في جامعة الأزهر الدكتور محمد إبراهيم الفيومي، والتي يعدها الباحثون واحدة من أهم محاولات التطوير وأبرزها. ويرى الفيومي أن المعاهد الأزهرية تعاني خفضاً في مستوى التعليم وقلة أعداد المدرسين المؤهلين، ما يؤدي إلى تراجع مستوى الخريجين. ويقول الفيومي ل"الحياة" إن "التغيرات المتسارعة التي تتسم بها الحياة المعاصرة تجعل من الإصلاح ضرورة، مراعاة لخصوصيات وملامح العصر". "إلغاء المقررات الدينية مرفوض، والأزهر مدرسة وسطية معتدلة وليس حاضناً للإرهاب كما تدعي الولاياتالمتحدة"، يقول الفيومي. لكنه يلفت إلى ضرورة أن يفسح الأزهر المجال أمام العلوم الحديثة وتدريس اللغات الأجنبية والتدريب المهني لإعداد خريجين على المستوى المطلوب. وفي ورقة بحثية عنوانها "مستقبل رسالة الأزهر" قدمها إلى المجالس القومية المتخصصة، أشار الفيومي إلى ضرورة "تجريد الثقافة الإسلامية من الشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي"، وإعادة النظر في طريقة ترقي الأساتذة واختيار الطلاب في جامعة الأزهر. وإدخال مجالات الدين المقارن والفن ضمن نطاق الدراسة فيها. ويشدد على ضرورة أن يكون الإصلاح داخلياً، وأن "الإصلاح المرتقب يجب أن يراعي عوامل الهوية والبيئة والإنسان، وهو ما لا يتوافر في الصيغة الأميركية للإصلاح التي تسعى إلى القولبة والتنميط". ما أجمعت عليه التيارات المختلفة هو أن قرار مجلس المحافظين، الذي نادراً ما يجتمع، جاء استجابة للضغوط الأميركية. ويراه نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ورئيس تحرير تقرير "الحالة الدينية" نبيل عبد الفتاح "صدى للضغوط الأميركية أكثر من كونه تعبيراً عن سياسة دينية تجديدية ترمي إلى تطوير النظام التعليمي الأزهري". "تطوير التعليم الديني ضرورة، بغض النظر عن التحفظات الأميركية أو غيرها"، يشدد عبد الفتاح. ويضيف: "القضية ليست في كثرة المعاهد الأزهرية، لكنها في نوعية سياسات التعليم التي تنتهجها ومدى صلاحيتها في مواجهة تطورات وتعقيدات اللحظة". ويرى أن "نمط التفكير الإسلامي النقلي" لم يعد صالحاً لمواجهة هذه التحديات، ما يتوجب معه تطويراً مدروساً. واللافت أن شيخ الأزهر استأثر بوضع المقررات الشرعية الجديدة خلال حركة التطوير الأخيرة التي أجراها قبل بضعة أعوام، على رغم اختصاصه في التفسير فقط. وتذمّر بعض علماء الأزهر من هذه الخطوة، واتهموه بمحاولة الانفراد بالتعليم الأزهري والخضوع للضغوط الخارجية. وأشار بعضهم إلى تصرف طنطاوي باعتباره "خطوة وقائية لتمرير وجهة النظر المعتمدة رسمياً". ويقدر عدد طلاب المعاهد الأزهرية بأكثر من 2.5 مليون طالب من جنسيات عدة يدرسون في أكثر من ستة آلاف معهد. إضافة إلى 300 ألف طالب يدرسون تخصصات مختلفة، ليست كلها دينية، في 65 كلية تابعة لجامعة الأزهر. ويلتزم طلاب الكليات غير الدينية دراسة نسبة معينة من المقررات الشرعية. والواقع أن خريجي الجامعات الأزهرية كثيراً ما يكونون أقل مشاركة وحضوراً من خريجي الجامعات الأخرى في الحياة العامة. وبخلاف الزعيم الروحي لتنظيمي "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" الدكتور عمر عبدالرحمن الذي كان استاذاً في جامعة الأزهر، فإن أحداً من الأصوليين البارزين الذين قادوا حركات العنف الديني في مصر لم يخرج من عباءة الأزهر. لكن الجامعة الدينية الوحيدة في مصر كثيراً ما خاضت معارك تيار الإسلام السياسي مع النظام المصري. وأبرز هذه المعارك ما حدث قبل بضعة أعوام عندما خرج الآلاف من طلاب الأزهر في تظاهرات عنيفة، وحطموا السيارات والمنشآت في المنطقة المحيطة بالجامعة، احتجاجاً على نشر مؤسسة ثقافية تابعة للدولة رواية الكاتب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر". ودخل الطلاب في صدامٍ دامٍ مع قوات الأمن. وفي السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى التظاهرات التي خاضها طلاب وطالبات فرع الجامعة في القاهرة العام الماضي احتجاجاً على ضم فرعي البنين والبنات في كلية الهندسة في مبنى واحد. واعتبروا ما بررته الجامعة، التي تعتمد الفصل بين طلابها من الجنسين، بعدم توافر مقر لدراسة البنات، بداية لتطبيق الاختلاط الذي يعد "فساداً كبيراً وضياعاً لهيبة الأزهر"، بحسب أحد قادة الطلاب في فرع الجامعة في محافظة أسيوط. وشدد القيادي الطالبي الذي رفض ذكر اسمه، على أن التعليم الأزهري قد لا يقدم خريجاً متفتحاً، لكنه لا يخرج متعصبين. الحلول الموقتة وانعدام الرؤية المستقبلية في ملف إصلاح الأزهر، أثارا غضب أحد الأساتذة في جامعة الأزهر الذي تحدث إلى "الحياة"، ورفض ذكر اسمه، وقال إن "الأزهر يفتقر إلى متابعة واهتمام الدولة". وطالب بإعادة قراءة الكتب التراثية في ضوء موازين النقد العلمي، وإعمال الاجتهاد المطور بديلاً من القياس على السوابق، مشيراً إلى بعض المشكلات المعاصرة غير المسبوقة التي تتطلب عقلاً متفتحاً في التعاطي معها.