انفجر الصراع اخيراً بين شيخ الأزهر ومعارضيه بسبب تعديل بعض احكام القانون الرقم 103 لسنة 1961، ويقضي هذا التعديل بتقصير مدة الدراسة في المعاهد الأزهرية الثانوية الى ثلاث سنوات بدلاً من أربع، وتفويض شيخ الأزهر - بعد موافقة المجلس الاعلى للأزهر - في اصدار الاحكام الموقتة التي تقتضيها الخطط والمناهج الدراسية. وكان المجلس الاعلى للأزهر وافق في جلسته المعقودة يوم 18/12/1997 على تعديل مدة الدراسة في المرحلة الثانوية الأزهرية لتكون ثلاث سنوات بدلاً من أربع، وبين هذا التاريخ وتاريخ موافقة مجلس الشعب البرلمان على تعديل الفقرة 87 من القانون الرقم 103 بتقصير مدة الدراسة وجعلها ثلاث سنوات بدلاً من أربع، وذلك يوم 9/6/1998 - أي مدة ستة أشهر كاملة - حدثت مواجهات بين شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي ومعارضيه طاشت خلالها الكلمات، وتناثر رذاذ الاتهامات، وبدت مشيخة الأزهر في قسوتها في الرد على المعارضين وضيقها بإبداء وجهة نظرهم كما لو كانت تخرج عن التقاليد التاريخية لها والتي يفرض جلالها عدم الانزلاق مع المعارضين في استخدام ألفاظ تشتم منها رائحة الشتائم والسباب، وعلى رغم ان أنصار الشيخ طنطاوي لاموا معارضيه لأنهم استفزوه واضطروه الى ذلك، إلا ان المحايدين من الذين تابعوا المعركة بين الفريقين لاحظوا ان معارضي الشيخ كانوا أكثر حذراً والتزاماً في استعمال الألفاظ وإبداء الرأي، وتصاعدت المواجهة الى درجة ان شيخ الأزهر أحال معارضيه الى مجالس تأديب، وهذه هي المرة الاولى في تاريخ الأزهر الذي يحيل فيها شيخه معارضين له الى المحاكمة. ورغم ان اتهامات مثل سفر بعض هؤلاء العلماء الى الخارج من دون التزام بلوائح الجامعة قد يكون مقبولاً إحالتها الى التحقيق، لكن اتهامات اخرى بكتابة مقال يعترض فيه أحد العلماء على تقليص سنوات الدراسة في الأزهر او كتابة مقال يعترض فيه عالم آخر على لقاء الشيخ الحاخام اليهودي اسرائيل لاو هو أمر غير مفهوم، لأنه مصادرة على اجتهاد العلماء الآخرين ويدخل قطعاً في الاتهام والمحاكمة على الرأي وهو أمر لم يعرفه الأزهر ولا تقاليد الاسلام. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده شيخ الأزهر أخيراً سئل الشيخ طنطاوي عن حقيقة اختلافه مع العلماء المعارضين له فقال: ان أحدهم أحيل على التحقيق بسبب مخالفته إجماع مجمع البحوث الاسلامية على حكم شرعي، وهذا الاجماع الذي يقصده شيخ الأزهر هو تأييد المجمع له في مقابلته الحاخام اليهودي - فهل هذا إجماع معتبر، وهل مخالفته توجب الاحالة على التحقيق والمحاكمة - إن هذا يشبه ممارسات محاكم التفتيش في التقاليد الكنيسية التي لم يعرفها الاسلام. وفي اطار المواجهة بين مشيخة الأزهر والمعارضين لها استعانت بالسلطة السياسية فطلبت من محافظ القاهرة ووزارة الشؤون الاجتماعية حل "جبهة علماء الأزهر" وتعيين مجلس ادارة موقت لها من شخصيات رشحها الدكتور طنطاوي على رأسهم وكيل الأزهر الشيخ فوزي الزفزاف، والشيخ علي فتح الله رئيس قطاع المعاهد الأزهرية، وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية طلبت من مجلس ادارة "جبهة علماء الأزهر" المنتخب تغيير المادة الثالثة من قانونها التي تنص على "إعزاز الاسلام والمسلمين ورفع شأن الأزهر والأزهريين حتى لا تحل الجبهة" ورفض مجلس الادارة المنتخب هذا الشرط لبقاء "الجبهة" لانه يخل بالمقصد الاساسي لاهدافها ووجودها واستمرارها. وتم فعلاً تسليم "الجبهة" الى مجلس الادارة الذي عينه شيخ الأزهر. ويبدو ان المواجهة بين شيخ الأزهر ومعارضيه حول التعليم الديني فتحت الباب واسعاً حول قضية اصلاح الأزهر، ولا نظن ان اصدار قرارات سلطوية في هذا الشأن كفيلة بحسم هذه المواجهة، لان قضية اصلاح الأزهر أوسع من مجرد الاختلاف حول إلغاء سنة دراسية أو حذف بعض المناهج، وانما هي متصلة بقوة، بما يمكن ان نطلق عليه العلاقة بين "الدولة والأمة" لجهة ان المجتمع والأمة يريان الأزهر مؤسسة اسلامية تتجاوز قدرة الدولة على السيطرة عليها أو الانفراد بالقرارات المتصلة بتوجيهها وتسييرها، والمجتمع له هو الآخر حق إبداء رأيه في ما يتصل بمؤسسة الأزهر، بل إن الأمة ترى الأزهر مؤسسة اسلامية عابرة للقارات ويتجاوز تأثيرها مصر الى العالم الاسلامي بل الى العالم كله حيث يوجد مستشرقون تعلموا في الأزهر، ومن ثم فإن قضية اصلاح الأزهر وترتيب اوضاعه يتطلب مشاركة علماء المسلمين في العالم الاسلامي كله، بل ومشاركة المهتمين بشأن الأزهر في العالم أيضا. وفي الواقع فإن قانون تقليص سنوات الدراسة في الأزهر أعاد الى الاذهان قانون تطوير الأزهر الرقم 103 لسنة 1961، والذي مثل انتصاراً للتيار الذي يتبنى قيم الحضارة الغربية. وكان الدكتور طه حسين كتب مقالاً في جريدة "الجمهورية" القاهرية عام 1955 طالب فيه بما أطلق عليه "الخطوة الثانية" وهي إلغاء التعليم الديني وجعل التعليم موحداً، وكانت "الخطوة الاولى" هي إلغاء القضاء الشرعي، وردت مجلة "الأزهر" في عدد كامل على مقال طه حسين واعتبرت ما أثاره "فتنة سخيفة سهامها موجهة الى الاسلام والى الشريعة" راجع مجلة الأزهر عدد غرة ربيع الآخر 1375ه 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1955 أي ان المواجهة الحالية بين شيخ الأزهر ومعارضيه استعادت المعركة القديمة بين تيارين من أبناء الامة أحدهما يستلهم التقاليد الغربية والآخر يستلهم التقاليد والقيم الاسلامية، لكن المواجهة الحالية تتسم بأن التيارين من داخل الأزهر. ويرى تيار شيخ الأزهر تطوير المناهج الأزهرية وحذف ما هو حشو وتكرار، بينما يرى تيار المعارضة ان هذا شكل جديد من أشكال علمنة الأزهر، وانه استمرار لتطبيق "الخطوة الثانية" التي دعا اليها طه حسين العام 1955 وطالب فيها بإلغاء التعليم الديني، لكن الذي يقوم بتنفيذ ذلك هم الأزهريون أنفسهم بل شيخ الأزهر ومن معه. وفي الواقع فإن هناك أبعاداً سياسية وثقافية للمعركة الدائرة الآن بين شيخ الأزهر ومعارضيه تتمثل في: 1- ان شيخ الأزهر في تعامله مع معارضيه الذين اجتهدوا اجتهاداً مخالفاً له استبطن ولو بشكل غير مقصود، صورة النظام السياسي المصري في تعامله مع مختلف قوى المعارضة السياسية، إذ تمثل المحاكم أداة من أدوات تعامل النظام مع معارضيه. 2- لا يبدو ان السلطة السياسية بعيدة عما يجري في الأزهر، ويقينا فهي مرتاحة لتقليص دوره الثقافي والعلمي، إذ ان خوفها من تنامي التيار الاسلامي يجعلها تبالغ في ما تطلق عليه سياسة "تجفيف الينابيع" وهي ترى الأزهر أحد الينابيع المهمة لاخراج العلماء والوعاظ والمدرسين الشرعيين، وربما تكون المبالغة في الخوف من التيار الاسلامي جعلت السلطة تعتبر الأزهر جزءاً من هذا التيار أو أنه احتياطي استراتيجي له، على رغم ان الأزهر بإسلامه الوسطي المعتدل يمثل إحدى أهم الأدوات لمواجهة التيارات المتشددة والأفكار المتطرفة، لكن الدولة تجد الأزهر معضلة فهي تريده ولكن لا ترغب في ان يكون قوياً الى الحد الذي يمثل منازعة لها. 3- يبدو لي ان الانظمة السياسية التي تفتقد الى ما يمكن ان نطلق عليه "الوظيفة العقيدية" او "الدور" ترى الأزهر عبئاً عليها، فهو مؤسسة ايديولوجية بدأت مع الدولة الفاطمية للترويج للمذهب الشيعي ثم أصبح موئل العلم السني وملاذه، وظل يمثل المنارة التي ترسم صورة مصر في عالمها الاسلامي وفي العالم كله، وفي فترات الأزمات التي واجهتها مصر كان الأزهر ينشط ويتعاظم دوره وفي فترات المد القومي. كان الأزهر يمثل أداة للدولة لا يمكنها الاستغناء عنها، أما حيث ترغب مصر في البقاء داخل حدودها فإن الأزهر يبدو عبئاً عليها، وعدم توظيف الأزهر ثقافياً في الخارج سوف يؤدي الى ظهور مراكز اسلامية بديلة له، وتفقد مصر أهم مصدر لنفوذها الثقافي والحضاري في العالم الاسلامي. 4- وعلى المستوى الثقافي يلعب الأزهر دوراً ثقافياً كبيراً في أكثر من خمسين دولة اسلامية. وهناك مراكز شيعية تنافس الأزهر، كما ان هناك مراكز ثقافية في العالم الاسلامي السني ستتصاعد مكانتها مع تدهور مكانة الأزهر، وحين تُختصر مناهج الأزهر في ما يتصل بعلوم الشريعة واللغة، اذ لا تخرج عالماً متخصصاً فيهما، فإن الطلبة الوافدين اليه سيزهدون في المجي إليه ويتحولون الى أماكن أخرى. 5- وعلى المستوى الرمزي، فإن الأزهر لا يزال بعد المؤسسة التي تمثل استمرار الوجود الاسلامي في مصر ولو على مستوى التعليم والدراسة، وهي بهذا تعزز ما يمكن ان نطلق عليه استمرار انتاج "الاسلام" بقضاياه المتمثلة في المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية وممارسة الرقابة على التيارات الإباحية والاتجاهات الهدامة وإشاعة الفهم الصحيح للاسلام. إن معركة الأزهر هي جزء من صراع حضاري بين التيارات الاسلامية والتيارات العلمانية وهي جزء من الصراع بين الدولة والمجتمع في مصر، وهو ما يفسر حدة المعركة واستمرارها، ويسوق البعض في هذا الاطار المثل السيّار "رب ضارة نافعة" ويقصدون بذلك ان تقصير مدة الدراسة في المرحلة الثانوية الأزهرية فتح الباب لمعركة أكبر هي معركة إصلاح الأزهر. * كاتب مصري