اليوم تملأ الاكاديمية السويدية فراغ النقاط الثلاث اعلاه بالكلمة المناسبة. من يحصد نوبل الآداب 2004؟ ما هي إلا ساعات ثم يخرج سكرتير اللجنة انغدال من بابٍ مقفلٍ ويُطل باسماً على عدسات المصورين الذين اجتمعوا من اطراف العالم. جائزة نوبل التي تعلن من السويد النائية، هناك في الشمال البارد البعيد، صارت منذ سنين طويلة محط الانظار غرباً وشرقاً. حددت الاكاديمية السويدية موعد اعلان الجائزة: الخميس 7 اكتوبر، الواحدة ظهراً بتوقيت استوكهولم. كالعادة لا تُعلن الاكاديمية عن الموعد الرسمي الا قبل 48 ساعة. نوبل الآداب ليست نوبل الفيزياء او الكيمياء او الطب. هذه جائزة تُحاط بالغموض والتشويق. قبل ايام من اعلانها تباشر الصحف ووكالات الانباء حبك القصص واطلاق التوقعات والمراهنات. لكن لا احد يعلم ماذا يخفي المستقبل. وكالات الانباء تخرج كل عام بقصة جديدة. سنة تتحدث في السياسة وصراع الشرق والغرب وسنة تتحدث عن الجنس وغلبة الفائزين بنوبل على الفائزات وضرورة التعويض واقامة توازن. هذا كله اعلام واعلان، ليس اكثر. لكنه منشط. والكل يستفيد. الصحف تستفيد. والاذاعات تستفيد. والتلفزيونات تستفيد. والكتاب يستفيدون ايضاً. ولا احد ضد هذه الافادة العامة. نجيب محفوظ العرب على نحو خاص يعنون بنوبل الآداب، وصاروا يعنون بها زيادة بعد 1988: تلك السنة - وللمرة الاولى في التاريخ - فاز بنوبل الآداب كاتب عربي. نجيب محفوظ الذي يميل عن السفر الى خارج مصر المحروسة ارسل ابنتيه أم كلثوم وفاطمة لتلقي الجائزة من الملك السويدي هناك شهادة، وميدالية، ومبلغ نقدي يراوح في حدود مليون يورو، وهذا ليس قليلاً بالنسبة الى اي كاتب، عربي او غير عربي. هذه جائزة يانصيب تربحها من دون ان تشتري ورقة. فجأة تحول محفوظ الى نجمٍ عالمي تترجم اعماله الى السنسكريتية. قبل ذلك كان يُقرأ في بلادنا العربية على نطاق واسع وبعض مؤلفاته كان مترجماً الى الانكليزية والفرنسية والالمانية ولغات اخرى. لكن بعد نوبل كبرت كرة الثلج وتغيرت الاحوال تماماً. ليس بالنسبة الى محفوظ فقط، ولكن بالنسبة الى الرواية العربية عموماً ايضاً. محفوظ شق الطريق منفرداً. بعده جرى النهر. هل يُعطى الشعر العربي ديوان العرب القديم الجائزة هذه السنة؟ بعض وكالات الانباء خصوصاً الفرنسية يشير الى هذا الاحتمال منذ اعوام. عسى ولعل. واذ نتابع نوبل بدقة اكبر منذ 1988 نلاحظ ان الجائزة ذهبت الى الرواية 11 مرة في 16 سنة، اما المرات الخمس الباقية فتوزعت: 4 على الشعر، اضافة الى نوبل يتيمة للمسرح! داريو فو نوبل 1997 فلتة شوط. أوكتافيو بات 1990 انتزع الجائزة بالشعر والدراسات والمقال النقدي معاً. ان ابحاثه ذات صدى في اميركا اللاتينية كما في اللغة الاسبانية عموماً. وهو منذ "متاهة العزلة" يُشكل علامة فارقة في النقد الحضاري المكسيكي - الاسباني. هذا شاعر، وديريك والكوت شاعر آخر نوبل 1992. من يبقى؟ شيموس هيني نوبل 1995، وفيسلاوا سيمبورسكا نوبل 1996. هؤلاء الشعراء الاربعة يشتركون في نزوع ملحمي الى تأليف اعمال طويلة، وفي المزج بين الشعر والافكار، كما فعل ت. س. اليوت نوبل 1948 قبل زمنٍ بعيد. ليس صدفة ان نتذكر صاحب "الارض اليباب"، وعالمنا على ما هو عليه من انشقاقات. الدماء تسيل على الخريطة، والادباء يشهدون ويحلمون ويتجاوزون بالخيال الواقع. هل تُعطى نوبل الى شاعر عربي أم تذهب الى بلاد اخرى؟ هل يوجد في بلادنا الآن روائي يرث محفوظ وينافس على نوبل؟ ومَنْ بين كتاب العالم يبدو الاشد حظاً في هذه اللحظة؟ حساب متواليات الرياضيون اهل الرياضيات عندهم حسابات للمتواليات تثير الخيال: هل نستطيع عبر تفحص اعمال الفائزين بنوبل في السنوات ال16 الفائتة ان نتوقع الفائز الذي يتوج اليوم؟ لن نبدأ من 1901 لأن الجائزة ذهبت في تلك العصور البعيدة الى اسماء لم يعد احد يتذكرها الآن. بلى، نذكر رديارد كبلنغ نوبل 1907، ونذكر كنات هامسون نوبل 1920، ولكن من يذكر سالي برودهم نوبل 1901 او جيرهارت هوبتمان نوبل 1912 او فلادسلو ريمونت نوبل 1924. هل نعرف حتى كيف نلفظ هذه الاسماء؟ الجوائز لا تصنع الكُتاب. السنوات السبع الأخيرة السنوات السبع الاخيرة حصد جوائزها روائيون. ما هو المشترك بين ساراماغو وغراس وكسينغيان ونايبول وكيرتيس وكويتزي؟ هؤلاء آخر سبعة كتّاب حصلوا على نوبل. هذا مفهوم. هل لاحظ القارئ ايضاً انهم سبعتهم على علاقة مباشرة بابداعٍ يواجه نظاماً؟ ماذا يكتب كويتزي عندما يكتب "في انتظار البرابرة"؟ "النظام" الذي نتكلم عنه لا يحتاج الى ان يكون نظاماً شمولياً كما هي حال الصين في "جبل الروح" و"انجيل رجل وحيد" لغاو كسينغيان، حيث يغدو فعل كتابة اليوميات جريمة يعاقب عليها القانون! ميلان كونديرا وايفان كليما التشيكيان ليسا بعيدين عن هذه الحقول القاتمة... هل يحصد احدهما نوبل؟. أرض الصبار والرجال الجوف هذا "النظام" لا يحتاج الى يكون نظاماً نازياً او استبدادياً مموهاً - او حتى بلا تمويه - كما هي الحال مع طبال غراس او شاعر ساراماغو الذي يحيا في برتغال سالازار. ان نايبول لا يكتب عن نظام شمولي بمقدار ما يكتب عن ارض خراب تركها الاستعمار منهوبة ومعدمة. لكن "لغز الوصول" رواية عن تقاطع عوالم كثيرة: فجأة تبدو اوروبا ما بعد الحرب العالمية جزءاً آخر من "الارض اليباب". وفي هذه الارض، ارض الصبار التي يعرفها اليوت، وفي عالم الرجال الجوف، يحاول الكاتب الفرد ان يعثر على توازن، وان يقف على قدميه. ماذا فعل كيرتيس حين بقي على قيد الحياة ولم يسمح للابادة الجماعية بتجويف جسمه؟ الطغيان دودة تلتهم الروح. كيرتيس نجا. وكويتزي فر من جنوب افريقيا الى مدينة مسورة اقامها في عالم خيالي! الاثنان لم يهربا من التاريخ. بل واجهاه بالخيال. مع هؤلاء السبعة نرى فرداً يواجه الجماعة اذا اصاب الجماعة فقر روحي وماذا يكون الطغيان، ماذا يكون الشر، ان لم يكن فقراً روحياً وجفافاً؟. يواجه الكاتب امواج الخوف والجنون والعنف وينتصر للانسان، للجوهر الانساني. ينتصر للطيب ضد الخبيث. ألم يكن الفرد نوبل يفكر في هذا حين انشأ جائزته؟ نوبل الآداب 2004 قد تذهب الى ألباني اسماعيل كاداريه او برتغالي انتونيو لوبو انتونيس صاحب "تشريح العصافير" او سويدي توماس ترانسترومر او اميركي فيليب روث او مكسيكي كارلوس فوينتيس... هل تذهب نوبل الى ماريو فارغاس يوسا او سيز نوتنبوم مثلاً؟ لا بد ان نعثر على وكالة انباء تكرر هذين الاسمين سنة تلو اخرى. لعبة التكهنات لا تنتهي: آسيا جبار، مارغريت آتوود، جاك ديريدا... هذا كله جزء من اساطير ينسجها الإعلام في عصورنا الاستهلاكية السريعة. لكن اعضاء الاكاديمية العشرة هل هم عشرة فقط الآن؟ لا يحسبون لهذا الصخب حساباً. قد قطعوا سن الشباب، ودخلوا اراضي الخريف. هناك، وقد تسلحوا بالنضج وبالشعر الابيض وبالعيون الصافية، يراهنون على الأدب. وينجحون احياناً في ارشاد القارئ الى مؤلفين يستحقون القراءة. حكمة الشيوخ ان هذه سمة اخرى مشتركة في أدب الاسماء السبعة الفائزة بنوبل منذ 1998: نبرة تقترب من الشيخوخة، من حكمة الشيوخ، من الكائن الشبعان تعباً وقد تخلص من جرثومة الفساد وأوهام المجد والقوة. هذه النبرة الهادئة الطيبة التي تبدو باردة احياناً، لكنها ليس فعلاً باردة، هذه النبرة التي تراوح بين الجملة المقتضبة وبين التدفق الشعري المحكم الضبط، حاضرة في لغة كويتزي ونايبول، تماماً كما هي حاضرة في لغة كسينغيان. ساراماغو يذهب الى سخرية خاصة، وكيرتيس بنظرة من ثلج يحفظ الروح في بدنه. ماذا نقول عن غونتر غراس؟ غونتر غراس صامد هنا من ازمنة قديمة. هو ايضاً شاهد عجوز على ارض خراب. المختلفون في سنوات آتية قد تذهب نوبل الآداب الى الياباني هاروكي موراكامي، كما ذهبت سنة 1994 الى سلفه كينزابوري أوي، وكما ذهبت في 1968 الى ياسوناري كاواباتا. هاروكي يقدر ان ينتظر حفنة سنوات. يصعب ان تذهب نوبل الى كاتب منعزل ومقل مثل باتريك ساسكند او الى هنغارية تكتب بالفرنسية اسمها اغوتا كريستوف. حبذا لو ان نوبل الآداب تذهب الى مثل هؤلاء. لكن لعل شخصاً مثل ساسكند لا يفرح بنوبل، ولعل اغوتا كريستوف مثله. الاضواء لا تناسب جميع البشر. كسينغيان ادرك هذا بينما يكتب الفصول الاخيرة من "انجيل رجل وحيد". هناك كتّاب من طراز غابرييل غارسيا ماركيز نوبل 1982 يملكون ان يكتبوا اجمل روايات في العالم وهم قاعدون في دائرة النور. وهناك كتاب - في المقابل - تتهدم حياتهم ويعجزون عن تدوين قصة قصيرة اذا احاطت بهم وسائل الاعلام. من يحصد نوبل 2004؟ عسى الاكاديمية السويدية تدلنا مرة اخرى الى كتب تُقرأ لا قراءة واحدة فقط، بل عدداً لا يحصى من المرات. مثل "مئة عام من العزلة" 1967. مثل "الارض اليباب" 1922.