ليست "جروح الماء" - وهو عنوان ديوان الشاعرة اللبنانية هيام شقير يارد الصادر حديثاً عن دار النهار، سوى جروح الذات التي يسيل منها الماء في معناه التكويني ممتزجاً بالدم الرمزي الذي هو ايضاً عنصر من عناصر التكوين: "كنت وحيدة في دمي قبل عصر الماء" تقول الشاعرة. هذه الوحدة في الدام ذات دلالة ميتافيزيقية واضحة، انها النطفة الكونية الأسطورية التي تتخيل الشاعرة ان الوجود الإنساني انطلق منها. "معجم" الماء يحضر بشدة في قصائد الديوان، حيناً يكون حضوره مباشراً وحيناً آخر غير مباشر، لكن الأثر يظل هو نفسه: "أنا ابنة الماء" تقول الشاعرة جهاراً كاشفة عن المفهوم الأفروديتيّ للولادة المجازية التي اختبرتها في حياتها الداخلية. إنها افروديت الجديدة او لنقل افروديت الشاعرة وأفروديت العاشقة. هي ليست سليلة الأسطورة الإغريقية التي قالت بولادة افروديت من ماء اورانوس عندما انتشر في البحر محدثاً زبداً راغياً صعدت منه أفروديت رمز الجمال والخصوبة والتي شغلت الحضارات السابقة للعصر الإغريقي واللاحقة كذلك. لكن الشاعرة التي لم تذكر اسم افروديت تتمثلها في قصائدها رمزاً للخصوبة ليس عبر ثمارها وإنما عبر الرغبة التي تشعلها في الأجساد. إنها المرأة الساحرة التي تدفع الحب الوحشي الى حال من التسامي. جمعت شاعرتنا إذاً بين الحب الشهويّ والحب التطهّري وأعادت فعل العشق الى اصله المائي الذي يرمز الى الحياة مقدار ما يرمز الى الموت: "ولدت بالموت/ أرحل بحثاً عني/ في متاهات الماء"، تقول. وتضيف في مقطع آخر: "صرت أحب حقيقة الماء لأنها لا تكذب". الحالة الأفروديتية التي تنطبع بها صور العاشقة التي لا تتوانى عن تسمية نفسها بالعاشق قائلة له: "انا التي هي انت"، لن تفترق عن الحالة المائية. فالماء كما علّمتنا الرموز والأساطير، هو نبع الحياة ووسيلة التطهر ومادة الإحياء. وبات الماء يملك رمزاً أزلياً لأنه يحمي ويطهّر ويشفي ويجدد الحياة. وقد تحدّث غاستون باشلار عن ناحية اخرى منه مرتبطة بالموت والنوم. علاوة على الدلالة الجنسية للماء، رغبة وموتاً للرغبة على السواء: "اهربُ وعينيك نحو عبادة الماء" تقول الشاعرة للحبيب المفترض، او تقول مذكرة بمقولة "عصر الزبد" للشاعرة الراحلة ناديا تويني "الزبد يكاد يكون حياة" وتقول ايضاً: "ربما هناك ماء في مكان آخر، غير دموعنا". وتتجلى اروسية الماء في تحوّله ناراً حارقة حين تقول الشاعرة: "الماء أضرم النار في الدم. في دخيلائي اصبحت رماداً". هنا تتجلى وحدة العناصر في شعر هيام، العناصر الأولى التي قال بها فلاسفة الإغريق اولاً: النار، التراب، الماء، الهواء. وهذه العناصر ستتوزّع فضاء الأشعار كلها في ديوان "جروح الماء". لكنها لن تتجلى إلا عبر انسجامها الداخلي الذي هو اقوى من الانسجام الخارجي، كما قال هيراقليط، الفيلسوف الذي وصف بالغامض. فعوض ان تتحدث الشاعرة عن التراب تتحدث عن الأرض او الغبار او الحجر. ومثلما تتحدث عن الماء تتحدث عن الزبد الذي "يكاد يكون حياة" كما تقول، او تتحدث عن المطر الذي "يجهل قلق قطرة الماء" كما تعبّر. ومثلما تتكلم عن النار تتكلم عن النهار قائلة للآخر الذي هو الحبيب: "يدك تفتح لي النهار". وأحياناً تتكلم عن الليل الذي هو نقيض النهار او نقيض النار - الضوء: "انسحبتُ من الليل لأدخل جسدك حيث يضمّني خوفك". اما الهواء فتجسّده، اكثر ما تجسده، في السماء التي ترد مراراً في أشعارها: "السماء سوناتة في دمي المائت ألف مرة" أو: "السماء تدفعني الى الداخل". لكن هذه السماء تكون من حديد احياناً وخصوصاً عندما تنغلق على نفسها: "السماء من حديد" تقول الشاعرة وتضيف: "الحلم ايضاً". ليس شعر هيام شقير يارد شعر عناصر فحسب بل هو يرتكز الى فلسفة العناصر وإلى حضورها ليصبح شعراً تكوينياً اي شعراً يعيد بناء العالم عبر تخطي ثنائياته مصالحاً بين الوجود والغياب، بين الظاهر والباطن، بين العدم والخلق، بين الماء والنار. هكذا يصبح الموت "زهرة تغتذي من النشوات" وكأن الموت فعل رغبة دائمة تتحقق في عدم تحققها. وهذا الالتباس السرّي سيرد ايضاً في مقطع شعري تقول فيه الشاعرة: "أرتوي من عدم قدرتي على الهرب منك". عدم القدرة هنا الذي يروي الشاعرة يماثل الموت الذي يتم من عدم الموت ولو في المعنى الصوفي الذي قال به سان جان دولاكروا وسانت تيريز دافيلا وقد اخذه عنهما ايضاً الشاعر بول ايلوار. ويندمج "المقدّس" بمفهوم الدمعة ولكن في فضاء الشفتين اللتين غالباً ما ترمزان الى الشهوة: "المقدّس على شفتيّ دمعة" تقول الشاعرة. ولا يخلو البعد التكويني في هذا الشعر من نزعة ميتافيزيقية ولكن غير دينية: "في مرايا الصباحات ضوضاء. طريق. ثم آخر". هناك الكثير من الشذرات في شعر هيام، شذرات حائرة بين ان تكون شعراً خالصاً وأن تكون شعراً حكمياً او فلسفياً ولكن من دون فلسفة. انها شذرات مقطوفة قطفاً وبحذاقة وتدل على سعي الشاعرة الى إنقاذ الشعر من فخ الكلام والإطالة والإغراق الإنشائي. شذرات تبرق برقاً في سماء الشعر: "الورقة الميتة لا تغلق شيئاً في الشجرة. إنها تدرك السفر" أو: "جذر تلو جذر، كم من ولادة في صوتك" أو: "لا تنظر إلى اي ظل فيما انت راحل" او: "كلمة واحدة تكفي لتفرغ المحبرة" أو: "مرمية في عينيك بريقي ينتحر. يا لهذا الموت الهادئ" أو: "ما دام لم يبق لي من ظلال/ ليُعد إليّ الجدار الأخير". لعل ما يميّز شعر هيام شقير يارد كونه متحرراً من أسر الأنواع أو المدارس الشعرية. فهي تكتب بحرية تامة، معبّرة عن "حركات الروح" بحسب عبارة بودلير وعن الرؤى والأحلام التي تصادفها وعن الجروح الكامنة في ذاتها الشفيفة. وكما تغنّت بالحبيب وانصهرت فيه ككائن واحد بروحين او كروحين بجسد واحد تغنّت ايضاً باللغة والقصيدة. وقد استطاعت ان تذيب الحب في اللغة جاعلة اللغة شاهداً حياً له وجاعلة الحب نفسه فسحة لغوية بامتياز: "منقبضة في عريي، غيابك هو بمثابة صفحة لي" تقول الشاعرة وتقول كذلك: "كم اكابد لأنني لا أقدر ان اكتبك بالماء". وتخاطب الحبيب ايضاً قائلة له: "كيف أكتب جسدك إن كان الماء بين ذراعيك صمتاً؟". وتعترف ان الكلمة هي التي تكتبها وليست هي التي تكتب الكلمة. وفي القصيدة ليست الشاعرة سوى يد. فالكتابة إغراق في الصمت المقدّس والموحي والجسد يهمس بدوره كلمة الصمت كما تعبّر. ولا غرابة ان تقول الشاعرة: "أضع الصوت الذي أدفنه، الذي يدفنني. الكلمة تدعوني الى ان اموت". ولعل هذا الموت هو قرين الحياة لأنه ينتصر على الموت باللغة نفسها اي بالشعر الذي تكتبه الشاعرة، صافياً وعذباً، ومشبعاً بأنفاس الطبيعة والتحولات ومسكوناً بالحب والحلم. إنه الشعر الذي يخفي اكثر مما يفصح، داعياً قارئه الى رحلة نحو الى عالم الحدس والألق والصمت الأبلغ من الكلام نفسه. وها هي الشاعرة تقول: كيف علينا ان نعلم بما تحلم زهرة الأوركيدة؟ ولماذا علينا ان نعلم؟"