لا تسعى الشاعرة جمانة حداد الى كتابة "قصيدة قناع" في ديوانها "عودة ليليت" دار النهار من خلال لجوئها الى شخصية "ليليت" التي عرفتها الأساطير القديمة السومرية والبابلية وكذلك "العهد القديم"، بل هي تجعل منها مرآة تبصر فيها ذاتها متماهية مع ملامح تلك المرأة الميتولوجية التي تمثل صورة بهية وفريدة للشاعرة في المعنى المطلق. فهذه المرأة التي تدعى ليليت لم تكن في حاجة الى أن تكتب لتصبح شاعرة، فرمزها كامرأة قدرية كان كافياً لجعلها المرأة - الشاعرة بامتياز، التي تذكّر في ما تذكر، بشخصية "نادجا" والتي ابتدعها اندره بروتون وبشخصية اوريليا التي اختلقها جيرار دونيرفال... نجحت الشاعرة في ايقاظ هذه الشخصية الاسطورية من رقادها وفي إحيائها، وأعتقد انها المرة الأولى تدخل فيها "ليليت" حيّز الشعر لتمسي امرأة من لحم ودم، ومن هواجس وأحاسيس، ومن أحلام ورغبات، أي لتمسي الشاعرة نفسها وليس مجرّد "قناع" ترتديه على غرار ما فعل ويفعل الشعراء بالأقنعة التي يستعيرونها من التاريخ والتراث. وقد عمدت جمانة الى جعل الاسطورة منطلقاً لكتابة قصيدة طويلة ذات حركات ثلاث: شعراً ودراما ونصّاً. وبدت كأنها تتحاشى توظيف هذه الاسطورة توظيفاً تقنياً مستعينة ببنيتها كما درجت العادة أو توظيفاً ايديولوجياً كما فعل بعض الشعراء. تُسقط جمانة حداد عن اسطورة ليليت أي بُعد غير شعري جاعلة منها مادة شعرية صرفاً، مرتكزة الى المعاني الداخلية ومتخطية صفاتها الخارجية. هكذا تنطلق من علامات هذه الشخصية لتعيد تركيبها أو تأليفها شعرياً ناسجة خيوطها ببراعة وتؤدة ومتماهية بها - كما تمّت الاشارة - بغية منحها جسداً وروحاً وإخراجها من عتمة الظل الى ضوء اللغة. لا يُثقل البعد الاسطوري كاهل القصيدة كما يحصل عادة، فالقصيدة هنا تنهض بأسطورة ليليت لتصنع منها اسطورتها الخاصة، المفعمة بالحياة والجمال والحركة. وإذ تحلّ الشاعرة في الشخصية الفاتنة هذه فهي لا تني عن المجاهرة بما تحيا من تحولات من خلال ضمير المتكلم الأنثوي الذي يجمع بين صوتين: صوت ليليت متردداً كصدى تاريخي وصوت الشاعرة مرتقياً بالكلام الى مصاف الشعر الخالص. ولن يلبث الصوتان أن يتحدا اتحاد الروح بالجسد. لكن طغيان الشعر لن يحول دون تعقّب الشاعرة بعض التفاصيل والأسماء الاسطورية والرمزية. فهي مثلاً تعتمد رمزية العدد "سبعة" وفكرة "الاندروجين" وهالة بعض الأسماء المهمة تاريخياً مثل يوحنا وسالومي ودليلة وملكة سبأ وسواهم. كل هذه العناصر تبرز من خلال النسيج الذي حاكته الشاعرة بخيط شفاف وغير مرئي وهو ليس إلا خيط الشعر نفسه. قد يسأل سائل: من هي ليليت؟ ومن أين أتت الشاعرة بها لتجعلها قرينتها ولتتماهى في صورتها؟ ليليت، كما تروي الاسطورة هي المرأة الأولى التي خُلقت من تراب سابقة الأم البشرية التي خلقها البارئ من ضلع الأب الأول. لكن ليليت رفضت الخضوع لأي سلطة فتمردت وهربت ورفضت العودة. وبحسب الاسطورة نفيت ليليت الى "ظلال الأرض المقفرة". إلا أن ليليت في التقاليد الوثنية عرفت ب"العهر المقدّس" وقد تخاصم حولها قايين وهابيل قديماً كما تفيد إحدى الروايات. وقالت للرجل الأول: "نحن متساويان لأننا جئنا من التراب معاً". وبعد نفيها أو نفي نفسها وتراميها في "الهاوية" تصبح ليليت داعية الحب الماجن ومقوّضة "السرير الزوجي". وعندما عجزت عن الانتماء الى الوجود الانساني سكنت أعماق البحر. إلا أن الشاعرة لم تأخذ بملامح ليليت كلها ولا سيما كراهية الأطفال التي عرفت بها وبغض الرجل. ولم تسع الى ابراز الوجه النسوي الذي يمكن استخلاصه من شخصية ليليت القديمة التي لم تتوان عن توزيع "الحليب السام للأحلام" كما تفيد الاسطورة أيضاً. لقد حررت الشاعرة هذه الشخصية من الطابع الشرير الصرف أو من الشر المجاني وأدخلتها "حلبة" الحياة حيث راحت تصارع نفسها مثلما تصارع العالم. كان في إمكان جمانة حداد أن تحذف اسم ليليت من القصيدة محافظة عليها كما هي، وما كان هذا الحذف ليؤثر على الجو الشعري وعلى شخصية المرأة في حالاتها "الشعرية". فالشاعرة أعادت صنع ليليت بحسب رؤيتها معطية إياها أكثر مما أخذت منها. إنها ليليت الأخرى، ليليت الشاعرة التي تنطلق من الأسطورة لترسم فضاءها الشعري الخاص. ففي الجزء الأول من الديوان أو القصيدة نقع على مقاطع غنائية تستحضر روح الشعر وجسده. ومن خلال "أنا" الشاعرة تتهادى المقاطع بعذوبة وعنف، وتسيل كالماء وتلمع وتبرق. "أنا ليليت المرأة القدر" تقول. وانطلاقاً من هذه "القدرية" ترسم الشاعرة ملامح لامرأة هي ملتقى الأضداد، فيها تكتمل "الأنوثة الناقصة"، وعبرها يظهر "الملاك الماجن". إنها "المرأة الجنة التي سقطت من الجنة"، طهارتها "شرارة المجون"، "جنية الليل المجنحة"، تحررت من الانجاب لتكون "القدر الخالد" وعندما انتصرت أعادت "فتنة الخطيئة الى الخيال". انها الصيادة والقتيلة و"الجسر بينهما"، "شاعرة الشياطين وشيطانة الشعراء"، "لبوءة الضائعين في الأرض"، لا بيت لها تأوي اليه ولا وسادة تلقي عليها رأسها. إنها المرأة - الجسد والمرأة - الظل تمنح "العري زهرة معناه". والعري لن يكون إلا عري الروح الأعمق من عري الجسد الوحيد، المكتمل بنفسه والمكتفي بنفسه. إنه العري "الاندروجيني" الذي يجعل ليليت "تتجامع وتتكاثر بذاتها" كما تقول الشاعرة. والنزعة "الأندروجينية" هنا ستتجلى في معناها الأعمق، فهي ليست إلا مظهراً أو تمثلاً "تشبيهياً" لما يُسمى "البيضة الكوسمية" كما يفيد علم الرموز. و"الاندروجين" غالباً ما يتمثل ككائن مزدوج، ممتلكاً في الحين عينه مواصفات الجنسين معاً الذكورة والأنوثة في اتحادهما وفي وشوك انفصالهما. ومن المعروف أن "الاندروجينية" هي علامة "الكلية" التي تظهر في نهاية الأزمنة مثلما ظهرت في بداياتها. هكذا لا تنشد ليليت - كما عبّرت الشاعرة - "وصولاً، بل لذّة اللاوصول"، والنشوة إنما تكمن في "اللا" مثلما تكتب الشاعرة. وهي "كثيرة ووحيدة" بل "واحدة في الظاهر" وفي الباطن لا تحصى. ولعل صفة الوحدة والكثرة التي تجمع بين المتناقضين هي من الصفات الميتافيزيقية التي ينعم بها الكائن الأقصى. يبرز في القصيدة المعنى "الأورفي"، لكنّ أورفيوس الذي روّض وحوش الغابة بغنائه وموسيقاه يستحيل هنا شاعرة "تغفو الأسود على هديل ثدييها" ومن "ناي الفخذين" يطلع غناؤها. غير ان النزعة الأورفية هنا لن تمضي الى المقلب الآخر أو الجحيم مثلما فعل أورفيوس ليستعيد حبيبته بل تكتفي بسحر الغناء القادر على الفعل. والغناء لن يطلع من قيثارة بل من الجسد نفسه الذي يضحي آلة سحرية، الجسد الذي يغوي بجماله وغريزته في آن واحد، بروحيته وشبقه. وهنا تتجلى الاروسية كفعل حياة أو كفعل استحقاق للحياة حتى في غمرة الموت كما قال جورج باتاي. "أنا الرذائل المتضوّعة" تقول ليليت أو الشاعرة، "الهتاكة الناهبة السابية". والأنهر "تدفق" من شبقها كما تقول كذلك. انها الشاعرة الملعونة، "صولجان المعرفة" و"خاتم الحب والحرية". انها "العتمة الأنثى" تعيد "فتنة الخطيئة الى الخيال". انها نساء في امرأة وامرأة في أكثر من امرأة: دليلة وسالومي ونفرتيتي وملكة سبأ وهيلانة طروادة ومريم المجدلية... هكذا تذيب الشاعرة جمر اللعنة في ماء النعمة آخذة بمقولة جورج باتاي: "اللعنة هي طريق النعمة الأقل توهماً". وقد اعتبر هذا المفكر الفرنسي أن الناحية الملعونة في الانسان تؤدي الى "ذروة الوجود". لا تعتمد الشاعرة فعل الهتك للهتك بل لفضح الممنوع والمحظور وليس لإلغائهما المستحيل. وهذا أصلاً ما تتمثله الاروسية نفسها، هي التي تهدف الى ملامسة الكائن في الحال الأكثر حميمية دافعة إياه الى تأمل نفسه "في ذروة نفسه" كما يعبّر جورج باتاي أيضاً. هكذا تغدوالاروسية لدى جمانة حداد مدخلاً الى التجربة الداخلية، الروحية والحلمية، وتصبح اللحظة الجنسية لحظة شعرية تمارس "كينونتها" في صميم اللغة. ومن الرموز التي تستخدمها الشاعرة أيضاً رمز الرقم سبعة وتستهل كتابها قائلة: "الى النساء السبع اللواتي يقمن فيّ". وكان هذا الرقم الرائج في الحضارات القديمة والأديان، رمز الاكتمال ورمز "الكلية" المتحركة لا الثابتة. وكم جرى الكلام عن الأكوان السبعة والدرجات السماوية السبع، والأغصان السبعة للشجرة الكوسمية. ووسم هذا الرقم عبادة أبولون لدى الاغريق وكان مفتاح سفر الرؤيا وبحسب دانتي رقم الكواكب السماوية... ولا تستخدمه الشاعرة في منأى عن معناه الرمزي، الميثولوجي والديني، فإذا بها تتحدث عن أجسادها السبعة والشهوات السبع والخطايا السبع المميتة... وتكمن أهمية كلامها عن هذا الرقم في غموضه الشعري وبداهته. شاءت جمانة حداد كتابها في ثلاثة أجزاء: قصيدة، مشهد درامي ونص. إلا أن هذه الأجزاء لا يختلف بعضها عن بعض إلا ظاهراً. فالشعر هو الذي يوحدها وإن بدا يختلف شكلاً بين جزء وآخر. فالقصيدة تحاول الإفادة من عناصر عدة كالسرد والمخاطبة والتداعي والتكرار الخلاق. ويمكن الكلام عن تقنية فريدة في نسج اللغة واللعب على وتر المفردات وايقاعاتها ولا سيما في المقاطع التي تنساب انسياباً، ناهيك بهدم البنى اللغوية وإعادة بنائها لتكون أقرب الى الأنفاس الطالعة من عمق الروح. أما التكرار فيشكل ظاهرة بذاته. فهو إذكاء للايقاع والمعنى المتولّد والمفتوح على احتمالات عدة: "... التي كملكة ورعية/ التي أرضها برتقالة مسطحة وتعلم انها تدور حولها/ التي السروة سروتها ومثلها أول الليل وآخر البحر/ المغرورة كغيمة وكغيمة متواضعة/ التي لا تصدّق...". ومثلما وظفت الشاعرة التكرار والايقاع الذي يصنعه تعاقب المفردات وانسياب الحروف وظفت أيضاً "المحسّنات" البيانية والبلاغية ولكن بعد تحريرها من ادائها التقليدي مانحة أيضاً بعداً سميائياً: "طويلة ضفائري./ بعيدة/ وطويلة/ كابتسامة تضيع في المطر/ كغيبوبة لذّة بعد التحقق./ رعشاتي ندوب ظلال حيناً/ ودوماً بروق سكين". في الجزء الثاني الذي سمّته "مشهداً درامياً" تلجأ الى تعدد الأصوات البوليفونية من خلال اختلاق شخصيات عدة تبدو كأنها تؤدي دور الكورس الاغريقي. وهذا المشهد يتمتع بالايقاع المشدود الذي يرسخه تبادل الأصوات للجمل الشعرية والمقاطع. الأب والابن والعشيق والزوج والمعلم والأخ والصديق هم أصوات سبعة تنبثق من وسط الظلام لتحتفي احتفاء شبه طقسي بالمرأة التي تدعى ليليت، تلك "الحارقة نظراتها" و"سيدة المنامات المسعورة" والتي "دائماً على الوشك من كل شيء" و"الجسد الذي عاد كلمة"... والجميل ان الشاعرة لم تحوّل هذه الأصوات أشخاصاً مقدار ما أرادتها أقرب الى الاطياف التي لا تتجسد إلا من خلال الجمل الشعرية. إنها أصوات بشرية، منبثقة من ليل الحياة، واقعية وغير واقعية، تشهد على ليليت وكأنها أصداؤها الغائبة. وفي الجزء الثالث أو "النص" يطل صوت "الهو" أو "الآخر" المتعالي وسوف يشهد بدوره على ليليت تلك الخرافة التي اخترعتها المخيلة "فصارت أكبر منها". ويعترف هذا "الهو" أن "وحشاً رهيباً يركض في دم ليليت" ويبوح بحبه المستعر لها: "لأني عشقت ليليت عشقتها بجنوني ومن أجلها عشقت جنوني". والنص لن يختلف بدوره عن القصيدة ولا عن المشهد الدرامي، فصوت الشاعرة المتفرّد يجمع بين الأجزاء الثلاثة ويوحدها شعراً ولغة، مناخاً وأفقاً. وإن اعتمدت جمانة حداد لعبة "التجريب" ظاهراً في صوغ الكتاب من خلال ثلاث زوايا فإنها لم تقع في مجانية التجريب وعبثه وجفافه. لكنها جريئة في هتك اللغة هتكاً حكيماً ومجنوناً في آن واحد، وغايتها تحميل اللغة أكبر قدر من التوترات والارهافات والانفعالات والأفكار والأحاسيس الغامضة. ونجحت فعلاً في رسم هالة حول هذه المرأة التي تماهت في صورتها جاعلة منها أنموذجاً للشاعرة المغامرة والغارفة من معين الحلم والاروسية واللاوعي والوعي. ولعل هذا الكتاب هو من الكتب الفريدة التي تصالح القارئ مع الشعر وتفتح معبده على مصراعيه أمام القراء. وعبر هذا الكتاب تغدو جمانة حداد في حال من التطور، ماضية الى الأمام الذي هو المجهول من غير ان تتخلى عن صوتها المميز الذي هو مزيج بين صوتين: صوت الرجل وصوت المرأة أو لنقل انه صوت الكائن "الأندروجيني" الذي يختصر النوع البشري في بوتقة شعرية راقية.