تمر مؤسسات البحوث العربية، الحكومية منها والخاصة، بمرحلة دقيقة جداً تمس مباشرة أهدافها وهياكلها التنظيمية وأدوارها المختلفة وتطرح مسألة تأثيرها في سياسات الدول العربية وكذا طبيعة تعاملها مع نظيراتها من المؤسسات على الصعيد الدولي. وقبل أن نعالج هذه الإشكالية أود أن أبدي بعض الملاحظات المبدئية: أولاً: إن نوعية العلاقات القائمة بين البحوث المنجزة في بعض المؤسسات البحثية العربية، وبين سياسات الدول العربية متشابكة، الأمر الذي يدعونا لمعالجة هذا الملف بمسؤولية والتوقف حول موقعة ذلك عربياً ودولياً. ذلك أن الأمة العربية بجناحيها المغربي والمشرقي، لم تموقع ملف البحث العلمي موقعه الصحيح، ولعل من بين ما يؤشر على ذلك تلك النسبة الهزيلة التي تخصصها الحكومات العربية للبحث العلمي منذ خمسين سنة أي منذ الاستقلال السياسي. وقد عجز الخبراء الوطنيون عن إقناع السلطة السياسية بالاستماع إليهم والافادة من تجاربهم وخبراتهم في هذا الملف الدقيق، وهو ما يبرز مدى الفجوة التي باعدت بين الطرفين، وكانت تداعياتها سلبية على أكثر من مستوى. ثانياً: إن أنظمة الدول العربية وكذا المجتمع المدني بباحثيه ومنظماته المختلفة، هي المسؤولة عن الخلل الهيكلي والتنظيمي الذي أصاب المؤسسة البحثية العربية، وإننا ندعو إلى حوار فاعل بين الباحثين المعنيين بحركية العلوم الاجتماعية والإنسانية، ووجوب إجراء مراجعة تقويمية نزيهة للأسباب والعوامل التي أضاعت فرص الحوار البناء بين الأطراف جميعها. ذلك أن مديري ومسؤولي مراكز البحث العلمية في الوطن العربي، يتحملون جزءاً من هاته المسؤولية بعدم توظيف الكفاءات العربية، والعمل على إبعادها تماماً عن المناصب الإدارية التي ما زالت توزع على المقربين من الموالين للسلطة، وهم غير أكفاء أكاديمياً ثم استبعاد النخب البحثية ذات التجربة العربية والدولية المرموقة والتي دفعت ثمن استقلالها الفكري والمبدئي عالياً. بل أن الأنظمة العربية قامت بتهميش هاته الشريحة من الباحثين، الأمر الذي يفسر هجرة الآلاف منهم خارج الفضاء العربي والتحاقهم بالمراكز الأورو-أميركية. وتلك هي أفدح نكسة حلت بالمراكز البحثية بل وبالأمة العربية بأسرها منذ تاريخها الطويل وتم ذلك في عهد الاستقلالات العربية والتي كان من واجبها عدم التفريط في هذه الكفاءات المعرفية العربية. ثالثاً: إن التوقف ملياً عند الحصيلة البحثية للمراكز العربية الحكومية، من شأنه أن يثير الحيرة للمردودية المتواضعة جداً، إذا قيس ذلك بما تنتجه مخابر البحث الدولي عن الأمة العربية في جميع المجالات، بل إنه لأمر مخجل حقاً بالنسبة الى عموم الباحثين العرب. ولعل أسباب ذلك كثيرة، بدءاً من طبيعة التسيير الإداري الفوضوي الذي اتسمت به، وأدت حتماً إلى ضبابية وعدم عقلانية العديد من الاختيارات البحثية التي تم تبنيها من قبل المؤسسات الحكومية، ثم عدم إجراء تقويم عام لمسيرة البحوث في هاته المؤسسات، لاستخلاص الدروس والنتائج، وهذا خلافاً لمردودية المؤسسات البحثية العربية غير الحكومية أي الخاصة، وهي القليلة العدد والتي بحكم استقلاليتها في التحرك والفعل، أنجزت الكثير الكثير، وهي حتماً لا تدين للدولة في إنجاز مشاريعها بشيء، إذ هي تعمل وفقاً لاستراتيجية بحثية متطورة، تم تبنيها بالتوافق مع القناعات والثوابت لباعثيها ومؤسسيها الأكاديميين. رابعاً: أنه لا سبيل لإجراء مقارنة بين مؤسساتنا ومؤسسات البحوث الأجنبية للدول المتقدمة في الفضاء الأورو-أميركي وكذا النمور الآسيوية، وهي التي تؤدي دوراً قيادياً وفاعلاً في حسن الاختيارات الجوهرية والحاسمة لشعوبها وأممها، وقد وجدت من أنظمتها السياسية المختلفة وعلى الخصوص من المجتمع المدني بمختلف تكويناته، ليس فقط الدعم الحقيقي، الهيكلي والقانوني والمالي، ولكن وعلى الخصوص، التفهم الواعي لرسالتها البحثية، عندما حثتها على الدوام على تشبيب وتجديد أطرها، لتكون مؤهلة تماماً لتوظيف خبرتها في الاختراع والتميز، من خلال مخططاتها وسياساتها العامة ومعالجتها للملفات الجغراسياسية والفنية والاقتصادية والمعرفية. وعليه فالعلاقة بين مؤسسات البحوث والسياسات العامة للدول الحريصة على تأمين التطور في جميع الميادين، متداخلة وهي عضوية وتتسم بالثقة لطبيعة التعامل معها، وهو ما يفسر مبدأ الاطمئنان على غائية الاستشرافات الذكية وتداعياتها العديدة، وتم ذلك نتيجة التوافق والانسجام بين الطرفين، ومدى أخذها بعد ذلك في الاعتبار من طرف المقررين السياسيين على أعلى مستوى. تبدو هاته البانوراما إذاً غير مشجعة لوضعية الباحثين العرب وآليات البحث العلمي في البلاد العربية عموماً، بل وجب القول بوضعية مجتمع المعرفة برمته. وهو الملف الذي تطرقنا له في مداولات وبحوث المؤتمرات العالمية الستة التي عقدناها منذ عشر سنوات في مؤسستنا، وأكده تقريرا الأممالمتحدة الصادران منذ سنتين. وعلى ضوء ذلك أتقدم ببعض المقترحات والأفكار لتغيير معادلة العلاقة بين الباحثين من جهة وسياسات الدول العربية وتفاعلات المجتمع المدني ثم كيفية ربط ذلك بآليات جديدة تقضي بفتح مجالات العمل المشترك ومد الجسور مع العالم وخلق منابر حقيقية مع المؤسسات الدولية، ذات البرمجيات المدروسة والتي أثبتت مدى نجاح مشاريعها البحثية. من خلال تجربتنا البحثية التي تواصلت على مدى 34 سنة، فقد خلصت إلى المقترحات الآتية: - إنشاء مرصد قيمي متكون من عدد من الباحثين العاملين من ذوي الخبرة والتجربة، ويتم ذلك بقطع النظر عن انتماءاتهم الفكرية أو المذهبية مهما كان نوعها، على أن يكون القاسم المشترك بينهم جميعاً، هو الجدوى والفعالية والإشعاع الحقيقي والمبادرة، وتكون وظيفة هذا المرصد هي دراسة التوجهات الكبرى للسياسات العربية العامة وجدواها وحتمية إيجاد القنوات والسبل للتفاعل والافادة من تجارب المؤسسات العربية والدولية الناجحة، ومد جسور الشراكة من خلال تعدد الاستشرافات البناءة والتي تؤدي حتماً إلى عقلنة المشاريع البحثية لدى الطرف العربي أولاً ولِمَ لا التأثير إيجابيا في الطرف الأورو-أميركي لكل ما يتعلق بالبحوث المتعلقة بالوطن العربي على الأقل، والقطع مع هستيريا الإعلام ورجال الصحافة والسياسة الغربيين ممن يسعون للتعتيم على العالم العربي والإسلام. ولا أدل على ذلك من هذا التصريح الحزين جداً الذي أدلى به رئيس وزراء إسبانيا السابق في جامعة جورج تاون خلال الأسبوع الثالث من سبتمبر 2004، وقارن فيه حكام الأندلس من العرب بالقاعدة وهذا هو أشنع وصف وأقذعه وأحقره لتهميش الدور المتألق للعرب في الحضارة الإنسانية عموماً والإسبانية خصوصاً! - لقد تأخرنا كثيراً في منح الثقة للمؤسسات البحثية غير الحكومية أي الخاصة ولم نعمل حتى اليوم، على إيجاد القوانين والمشاريع المختلفة بإنشاء المؤسسات البحثية الخاصة. لقد آن الأوان لتحرير البحث العلمي والتأسيس لمردودية أنجع للبحوث في البلاد العربية، إذ يعد ذلك البديل والمخرج الوحيد لانطلاقة حقيقية للبحث العلمي العربي. وللتذكير فقط فإن موازنة جامعة هارفارد الأميركية وحدها هو ضعف نعم ضعف ما تخصصه دولة عظمى مثل فرنسا، لكل المؤسسات الجامعية الفرنسية. ولسنا في حاجة بعد ذلك إلى التذكير بأن حصيلة الأبحاث المنجزة من طرف المؤسسات البحثية الخاصة، حيث تم أخذها في الاعتبار في جدولة وتأطير القرارات العليا الحاسمة والتي تبنتها تلك الدول، الواعية تماماً بدور مثل هاته المؤسسات البحثية. فالحرية الأكاديمية التي يتمتع بها الباحثون الدوليون قد مكنت مخابرهم من تناول مختلف الإشكاليات البحثية، خلافاً لمخابرنا البحثية المسكونة بهاجس الخوف والحذر وقراءة الحسابات والمعادلات الدقيقة والمستحيلة لردود فعل السلطات العليا تجاههم، حتى لا يتعرضوا إلى العزل والإقصاء من وظائفهم الإدارية، والتي غدت تشريفاتية بحتة. وعليه فإن هاجسنا جميعاً وجب أن يتجه نحو المطالبة بالحرية الأكاديمية مهما كان الثمن. وتلك هي رسالة المراكز البحثية ذات السمعة الدولية وكذا مؤسسات المجتمع المدني المؤمنة بدورها في توليد وتجديد المعرفة، وربطها بآليات المواكبة المعرفية الدولية لمعالجة قضايا أمتنا الحاسمة والمصيرية... وليس كما هو الشأن الآن، حيث لا يرجع إليها البتة ولا تستشار في شيء، وهو ما يفسر كيف أن اتخاذ القرارات يتم وفقاً لمعايير وضوابط غير شفافة ولا هي نزيهة ووطنية، بل ولم تتم نتيجة الاستشرافات الضرورية للباحثين على مختلف توجهاتهم الفكرية وقناعاتهم المبدئية. وعليه فإن الإسراع بتبني التشريعات والقوانين لبعث المؤسسة البحثية الأكاديمية الخاصة، تحتمه طبيعة التحولات السريعة في جدلية التعامل المعرفي مع المؤسسات البحثية الدولية والتي تشاركنا الهموم والمشاغل نفسها. - إنه على الدول العربية أن تعترف للباحث العربي بموقع جديد وفاعل يمنحه الثقة باعتباره الرأسمال الحقيقي في ديناميكية الإنجازات والاختراعات والتكوين الجامعي للأطر في شتى المجالات، باعتبار الجامعة هي حاضنة التقدم وراعيته الأولى وأنه من الواجب توفير أسباب النجاح المختلفة، لإجراء البحوث من دون أية قيود وأن ليس هناك محرمات أو موانع، تصده عن ذلك وتحد من التمتع بالحرية المطلقة في معالجته لتلك الملفات مهما كانت دقتها أو حرجها. وعليه نحن مدعوون إلى رعاية الكفاءات والخبرة والذكاء عبر التشجيع على الإبداع العلمي في مختلف الاختصاصات. وهو ما من شأنه أن يحقق الحصانة المعرفية الفعلية لمجتمعاتنا العربية ويرسي توازنها الداخلي وكذا توازنها في علاقاتها مع المجتمعات الأخرى المجاورة منها والبعيدة. - إنه لم يتم حتى اليوم، تبني أية شراكة لحوارات التنمية المعرفية الحقة المنتظمة على مستوى البلاد العربية. فهناك لقاءات تتم من حين لآخر في بعض الفضاءات العربية، وتخضع للظرفية العابرة والمنعزلة عن طبيعة المتغيرات المعرفية الدولية، كما أنه من المؤسف حقا أن تقريري الأممالمتحدة قد استندا وفي شكل أساسي، إلى البيانات والإحصاءات الدقيقة التي أنجزتها منظمة الأممالمتحدة نفسها، في حين لم تتوافر لدى المؤسسات والمنظمات العربية بيانات أو إحصاءات شبيهة، وتبقى اللقاءات العربية بعيدة عن تبني استراتيجية بحثية على المدى البعيد، وهو ما يفسر عدم احترامها للأسس والقواعد المعروفة دولياً، ثم عدم تطويرها إلى مشاريع بحثية قارة تهم آليات التنمية المعرفية، وأن الأفضل هو العدول عن المشاريع ذات الآفاق الضيقة والقطرية والتي تصرف عليها الملايين من الدولارات، من دون أي طائل بنيوي معرفي جاد وفعال في الهيكلية المعرفية. ولعل مهزلة ما حصل هذه الأيام، بخصوص معرض فرانكفورت للكتاب لسنة 2004 والجدالات البائسة والاختيارات الاعتباطية للمشاركين وإقصاء عديد الشخصيات والنخب المعرفية العربية الحقيقية، هو أبلغ الأدلة على فشلنا الذريع في حسن إيجاد منابر للحوار الحقيقي واكتفينا بسياسة الشعارات البراقة والتضليل المتعمد... - لنذكر هنا بفلسفة واستراتيجية المؤسسات والمراكز الأوروبية الجادة وبطبيعة مشاريعها التي خططت لمعالجة أمهات الإشكاليات المتصلة بواقعنا البحثي والتربوي والسياسي والحضاري والديني، وحيث خصصت لها موازنات عالية جداً! فالمفارقة إذاً كبيرة بل وخطيرة جداً، وتستوجب من الجميع الوعي الدقيق بكل تداعياتها، للعمل على إرساء شراكة وجسور حقيقية لتطوير الحوارات الأكاديمية المنتظمة بين المؤسسات والمراكز البحثية العربية الحكومية منها والخاصة من جهة، ومن جهة أخرى المراكز الدولية التي ترسخت لديها أسس الانفتاح والتواصل مع الآخر، لتعميق استراتيجية التفاهم والتوافق والانسجام والسلم بين الأفراد والأمم والشعوب. وهناك عديد الملفات المرتبطة مباشرة بالاستثمار في صناعة المعرفة، إذ نحن أمة لم نحسن الاستثمار في هذا القطاع بطريقة ذكية وواعية، الأمر الذي كان مثار سخرية المؤسسات البحثية الدولية حقاً منا، ومن مشاريعنا ومخططاتنا الظرفية العابرة، على رغم توافر وقود ذلك الاستثمار. إلا أننا فضلنا الاستثمار في أشياء عدة أخرى في الفضاءين العربي والدولي ومولنا المراكز الأجنبية وحتى المحلية من دون الأخذ في الاعتبار لعديد العوامل الفاعلة في حسن تفعيل مردوديتها. بل أننا أهملنا تماماً إيجاد جسور التواصل وإرساء تقاليد منابر الاستشرافات الذكية بين البلاد العربية نفسها. وهو ما يفسر الوضعية البائسة التي لحقت مؤسسات البحث العلمي والباحثين والمجتمع المعرفي، وتلك إشكالية أخرى تتطلب حواراً بناء وفاعلاً عبر حسن التخطيط والجدوى. * كاتب تونسي. مؤسس ومدير "مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات".