في حلقة امس تحدث عبدالجليل التميمي عن المشترك التاريخي بين العرب والعالم التركي وذكر ان 60 في المئة من مجموع الالفاظ العثمانية المتداولة قبل تتريك اللغة جاءت من العربية. ويتحدث في حلقة اليوم عن سياسة الاتاتوركية وتعارضها مع توجهات الانفتاح التي تعتبر سمة رئيسية من سمات العالم المعاصر. غير أن هذا الانفتاح لم يكن خلواً من بعض التوترات التي تعود أساساً الى: أولاً: اتجاه الاطار السياسي الذي يجمع بين الأتراك والعرب الى الضعف بسبب الهزات الداخلية والخارجية والتي ما فتئت تهدد وجوده منذ القرن الثامن عشر. وتسارعت تلك الوتيرة في القرن التاسع عشر، مع سقوط أجزاء كبيرة من الأراضي العثمانية العربية تحت النفوذ الغربي، فأصبحت الدولة العثمانية تفقد جزئياً شرعيتها كحام لأطرافها العربية. وتوالت النكسات والمواقف الضعيفة للدولة العثمانية عندما عجزت تماماً عن الحفاظ على وحدتها الترابية وبالتالي على وحدتها السياسية. ثانياً: بروز قطب جديد على الساحة الدولية وجعل من العرب والأتراك مجرد مجال هامشي على المستوى الدولي، وأصبح النموذج الغربي في العلم والثقافة كما في الاجتماع والسياسة والحضارة والفكر الابداعي مثالاً للنخبة الثقافية والسياسية العربية والتركية على حد سواء. وفي هذا الاطار فقدت استنبول دورها المركزي لصالح المراكز الأوروبية النشيطة بما يعنيه ذلك من بداية فك الروابط القديمة وبداية التأسيس لروابط جديدة، وصولاً الى حدوث القطيعة الفكرية والسياسية بين الدائرتين العربية والتركية وهو ما سوف نتناوله الآن بايجاز. 2- ايديولوجية القطيعة: ساهم الموقف السياسي والايديولوجي الذي ساد في بدايات القرن العشرين في سد قنوات الاتصال المعرفي وتوقف التبادل الثقافي بين الدائرتين العربية والتركية، فبرزت القطيعة كأهم معالم خطوط التماس بين الجانبين. والحقيقة أن جذور هذه القطيعة تمتد بعيداً في التاريخ المشترك ذاته، اذ منذ بدايات القرن الثامن عشر بدأ التوجه نحو الغرب داخل الطبقة الحاكمة في استنبول مع ما يعنيه ذلك آنذاك من وجود زمنين مختلفين أحدهما عربي حافظ على وتيرته، والآخر تركي بدأ في التشكل. وتوازيا مع ذلك التوجه أخذت اللغة التركية تتعزز على حساب العطاءات اللغوية الشرقية، العربية منها والفارسية على الخصوص، مقابل إحلال اللغة الفرنسية لدى الطبقة الحاكمة باستنبول مكانة مميزة كلغة ديبلوماسية وعلم وفن وتراث وابداع وفكر. ولا شك في أن هذه التحولات التي حدثت بهدوء ما فتئت تتعزز شيئاً فشيئاً الى أن حدثت القطيعة بين الدائرتين والثقافتين مع بدايات القرن العشرين. كان للانقلاب الدستوري الذي قاده الاتحاديون سنة 1908 تأثيره الحاسم في تسريع الخطى نحو فض الوشائج بين العرب والأتراك، اذ صاحب تلك التحولات السياسية طموح قومي الى تتريك غير الأتراك والعرب منهم على الخصوص. وازاء ذلك الموقف الايديولوجي، ظهر رد فعل ايديولوجي في الاطار العربي ينادي بالتحرر من الهيمنة التركية العثمانية على البلاد العربية. ولا شك في أن التدخل الأوروبي لعب دوره الفعال في هذا الاتجاه وذاك. وفي هذا الاطار كان مؤتمر باريس الأول سنة 1913 للزعامات العربية المناهضة للاتحاديين، ثم اعدام جمال باشا لعدد من هؤلاء الزعماء في دمشق وبيروت في أيار 1916، قد أدى دوراً مهماً في بلورة موقف مضاد للأتراك وانطلاق بدايات زخم القومية العربية والثورة العربية، وهو ما ساهم ولا شك في تداعي الجبهة الخلفية العربية للدولة العثمانية آنذاك. وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، كانت الدائرتان العربية والتركية قد انفصلتا تماماً عن بعضهما وبدأت كل منهما تبني ايديولوجيتها القومية وتبلور معالمها على حساب الأخرى. وفي هذا الاطار الايديولوجي سحب العرب الفترة الاتحادية على التاريخ العثماني بأكمله واعتبروا الحضور العثماني في البلاد العربية "استعماراً تركياً" مغلفاً برداء الدين كما جاء على لسان جمال عبدالناصر وكذلك في كتابات مؤرخي المد القومي العربي الى فترة قريبة جداً، وهو موقف ضعيف جداً وشعاراتي ولا يصمد أمام المحك التاريخي والنقد العلمي. كما حكم الأتراك على الثورة العربية بأنها طعنة لهم من الخلف وما زالوا يعتقدون ذلك حتى اليوم وكتاباتهم ومواقفهم وصحفهم لا تفتأ تذكر بذلك كلما حانت الفرص على صعيد اللقاءات والتحاليل السياسية أو المقالات الصحافية المشبعة بالنزعة الكمالية المتسمة دوماً باتخاذها موقفاً ضد العرب. والحقيقة ان هذه الشعارات المقولبة لم تعكس الا جانباً صغيراً من الهوة الايديولوجية التي ما فتئت تتسع بين الطرفين. اذ مع مصطفى كمال أتاتورك، انبنت القومية التركية على تمثل القيم العلمانية الغربية والعداء للشرق ومنظومته التعدينية والاصلاحية. وفي هذا الاطار جاءت الاصلاحات التي قادها بين 1924 و1928، والتي استهدفت التخلص من الإرث الشرقي الاسلامي، ممثلاً سياسياً في مؤسسة الخلافة وثقافياً في الأبجدية العربية وفي تبني مظاهر اللباس والسلوك والتحرر الاجتماعي على النمط الأوروبي. في حين بدأت تبرز الايديولوجية القومية العربية في اتجاه معاكس يقضي باستعادة العصور العربية المجيدة. وإذ اتجهت القومية التركية نحو الغرب لتصبح تركيا جزءاً من المحيط الأوروبي واحدى الأمم الأوروبية، ولدت القومية العربية في اطار مناوئ، فكانت حركة مضادة للاستعمار وبالتالي للغرب، ونداء من أجل الحفاظ على الشخصية الثقافية والتاريخية التي يتهددها ذلك الاستعمار. وحتى بعد التحرر حافظت القومية العربية في مراكزها الكبرى، مصر والعراق وسورية، على عدائها للغرب. والنتيجة أن الأتراك كانوا ينأون بأنفسهم عن العرب والاسلام في سبيل أن يجدوا لهم مكاناً في العالم الغربي، والعرب كانوا يعلنون عداءهم للغرب ويتباعدون بالتالي عنه. ولا شك في أن سياسات الطرفين بعد ذلك انبنت على التوجه الايديولوجي لكل منهما وهو ما زاد في تعميق القطيعة العميقة بطبيعتها. وفي هذا المناخ الايديولوجي المشحون، ساهم العدد الأكبر من المثقفين والمفكرين العرب والأتراك معاً في تغذية عوامل التوجس والريبة في العلاقات العربية - التركية وذلك اعتماداً على مواقف الطرفين بدءاً من الفترة الاتحادية والحرب العالمية الأولى حتى اليوم. وانعكس ذلك على الكتب المدرسية والصحافة، وهو ما ساهم في تشكيل صورة سلبية عن الآخر في هذا الجانب وذاك، وغذى بالتالي منطق القطيعة عوض التواصل. ونتيجة كل ذلك يتميز المشهد المعرفي والثقافي بين الجانبين اليوم بما يلي: أولاً - انسداد قنوات الحوار العلمي والثقافي والجامعي اذ انعدمت المؤسسات العربية - التركية للنشر العلمي المشترك والقيام بترجمة أعمالها الابداعية في كل المجالات وهو ما أثر سلباً على منظومة التعاون والتفاهم والتثاقف بينهما الا ما ندر. بل لا يوجد اليوم في جميع البلاد العربية ولا مركز ثقافي تركي واحد كما لا يوجد في كامل الفضاء التركي ولا مركز عربي واحد. ومن جهة أخرى فإن المركز التركي الوحيد الذي أنشئ سنة 1984 من قبل وزارة الخارجية التركية في عهد وزير خارجيتها السيد خلف أوغلو لتعميق الحوار الثقافي والعلمي والاقتصادي والسياسي مع العرب، وقام ببعض الأنشطة الجزئية يومئذ، سرعان ما حيد به عن فلسفة انشائه وأهدافه الأساسية بعد حرب الخليج الثانية، وقبرت كل الآمال المعلقة عليه وتحول بقرار سياسي الى مركز يهتم بدول البلقان وجميع بلدان الشرق الأوسط... ثانياً - سيطرة النظرة السلبية والعدائية لدى الأوساط النافذة سياسياً واعلامياً ونقابياً وهو ما يحول دون الاستثمار المعرفي والانفتاح الثقافي بين المجالين في جميع المجالات التي بامكانها أن تؤثر ايجاباً في مسار منظومة التعاون. بل نسجل في هذا الاطار عدم وجود لجان ثقافية أو مسرحية أو سينمائية مشتركة تسعى الى توظيف الرصيد الحضاري المشترك لصالح العالمين التركي والعربي، بل أن الفيلم العربي "اخوة التراب" الذي بث أخيراً أثار استياء الأتراك الشديد بل وغضبهم، وقد ساهم هذا الفيلم في عملية التعتيم الثقافي والتاريخي وتعميق الخلافات بين الشعبين. ولا تسل عن المسلسلات التركية التي شوهت صورة العربي وهي عديدة. وعليه فإن المناخ العام غير ايجابي للقيام بأية حركة بناء مستقبلي للتعاون والتكامل وازاء ذلك أي مصير للاتفاقات الثنائية؟ ان جميع ما ابرم من اتفاقات ثنائية بين العرب والأتراك كان حبراً على ورق، وهو يخدم فقط الظرفية السياسية الطارئة من دون إيمان به مطلقاً من الطرفين، وسرعان ما ينسى في رفوف الوزارات المعنية ولا يطالب أحد بتنفيذ بنوده بحكم سريته وعدم معرفة القارئ العربي والتركي بمتن بنوده مطلقاً. ثالثاً - سيطرة النظرة الايديولوجية على الاختيارات المعرفية والعلمية لكلا الجانبين، وقد ساهم المثقفون والجامعيون بدورهم في نحت هذه الايديولوجية وما زالوا يدعمونها في عديد من المجالات بعدم اهتمام العرب بتركيا الكمالية مثلاً وعدم اهتمام الأتراك بالمتغيرات في الوطن العربي، حيث لا نعثر على رسائل جامعية عربية عن الكمالية وما أحدثته من انقلابات جذرية في المجتمع التركي، كما أننا لم نسجل في الجامعات التركية منذ ثلاثين سنة أي اهتمام جدي ومتواصل بالوطن العربي، وحتى اللقاءات العلمية العربية - التركية خارج مؤسستنا، لم يكتب لها الاستمرار وتوقفت تماماً. ناهيكم عن التوصية الصادرة عن المؤتمر العربي - التركي الذي عقد ببيروت سنة 1993 والتي نصت على عقد المؤتمر الثاني باستنبول سنة 1995، فإن تلك التوصية لم تؤخذ بالاعتبار ولم تنفذ بسبب قرار سياسي تركي بحت يقضي بالغاء تنظيم هذا المؤتمر هناك. وفهم يومئذ على أنه رد فعل لأحد التدخلات من مشارك لبناني عرضي، عندما طالب الأتراك بالتخلي عن الايديولوجية الانقطاعية الكمالية والرجوع الى الأبجدية العربية وهو ما اعتبر انتهاكاً واضحاً لاختيارات الدولة التركية الحاسمة والتي لا تقبل التدخل من طرف أي كان خصوصاً من العرب أنفسهم. اني أذهب الى الاعتقاد بأن العرب يتحملون جزءاً كبيراً من تبني سياسة القطيعة وعدم فهمهم لتركيا الكمالية اليوم على الاطلاق. رابعاً - عدم مساهمة رأس المال العربي والتركي في تصنيع وتشجيع الحوار العلمي والأكاديمي بين هاتين الدائرتين، اذ هما غائبان عن ادراك أهمية وحتمية التفاعل الثقافي والحضاري بين الأمتين حاضراً ومستقبلاً. ان تخليهما عن القيام بهذا الدور المستقبلي أفسح المجال واسعاً أمام مؤسسات أورو - أميركية عدة لاستقطاب النخبة المثقفة العربية والتركية في مدار مسارها البحث لفهم كل المتغيرات الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية التي يعيشها المسرحان التركي والعربي على حد سواء، وان نظرة سريعة على البحوث التي أشرفت عليها ودعمتها مؤسسة فورد الأميركية بالقاهرة مثلاً تعكس مدى حضورها البحثي أمام غياب المؤسسات المالية العربية أو التركية لأخذ مثل هذه المبادرات الرائدة والفاعلة في نحت جديد لمستقبل العلاقات العربية - التركية. وهكذا فإن التلاقح والتزاوج الثقافي والمعرفي والعلمي الذي استمر لأكثر من أربعة قرون قد آل في الأخير الى قطيعة شبه تامة وهو ما يتعارض مع التوجهات الحالية على المستوى الدولي والتي تتميز ب: 1- التوجه الثابت والشامل نحو العولمة وبالتالي اشتراك حتى أبعد الأطراف في المصالح فما بالك بأقربها من بعضها. 2- ثورة الاتصالات والمعلومات التي جعلت من الجميع مواطنين عالميين وجيراناً وان تباعدوا فانهم يتأثرون ويؤثرون في بعضهم البعض. 3- التوجه نحو مزيد الاهتمام بكل الفضاءات الثقافية والعلمية والمعرفية والسعي الى تشجيع الخوصصة، وهو التوجه الذي لا يهم القطاعات الاقتصادية فقط وانما أيضاً قطاعات استراتيجية أخرى ومن بينها البحث العلمي والتعليم والمسرح والسينما وكل التراث الفكري والأثري المشترك. وهكذا فمن مصلحة الأتراك اليوم أن لا يقطعوا مع العمق العربي لبلادهم وهذا لا يتنافى مع توجههم نحو الكمالية والغرب. ثم ان الوطن العربي هو الآخر وجب عليه أن يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى ضرورة قبوله أمر تركيا الكمالية من دون محاولة التأثير في اختياراتها التاريخية. ان هندسة العلاقات العربية - التركية العلمية والثقافية والفكرية تتوقف على طرح ومناقشة كل هذه الاشكاليات السياسية والثقافية والحضارية بين مجتمع الباحثين العرب والأتراك، فهم الماسكون بآليات التغيير المستقبلي لما هو أنفع وأجدى وأبقى للأمتين التركية والعربية.