المتأمل في صيرورة المنظومة الحضارية العربية - الإسلامية، يقف اليوم مندهشاً أمام قوة أو غزارة التراث الفكري الذي تركه لنا أجدادنا والذي تجاوز ثلاثة ملايين مخطوطة محررة أساساً باللغة العربية ومبثوثة في أهم مكتبات العالم اليوم. أما ما أحرق منها أو ضاع أو لم يقع بعد اكتشافه لدى الخواص، فحدث ولا حرج. وإضافة الى ذلك فإن مدونة الآثار المعمارية الرائعة والتي ما زالت قائمة لتشهد على نبوغ عباقرة هذه الأمة وعلمائها ومفكريها وأدبائها، فهي دليل آخر على مدى الأهمية الحضارية لهذا التراث، ولنا في الحيز المكاني الأندلسي والمغربي والمشرقي والآسيوي عموماً، أروع الشواهد الناطقة على ذلك. كيف تسنى لهذه الأمة العربية - الإسلامية أن تحقق مثل هذه الإنجازات الخالدة في شتى الميادين؟ وهل كان ذلك هبة منحتها لنا العناية الربانية من دون تقديم أي جهد في ذلك؟ أم هو بالفعل حصيلة منطقية لنبوغ العلماء العرب - المسلمين وباحثيهم وهم الذين كانوا وراء هندسة تلك الإنجازات الحضارية والمعرفية التي تمت بفضل ما توافر من مناخ مشجع أمد مجتمع العلم والعلماء والباحثين بشحنات الإبداع الحضاري على الدوام وتمتعوا فيه باحترام وتقدير وتشجيع ليس فقط من الأمراء والخلفاء ولكن من مختلف شرائح المجتمع من أجل تقويم المعرفة والعلم وتطويرهما! إننا نذهب الى الاعتقاد ان حضارتنا العربية - الإسلامية لم تكن أبداً هدية من السماء، ولكنها واقعاً وحقيقة صيرورة حتمية لدور العلماء والباحثين والمبدعين المتواصل في هذا التتويج الحضاري والذي جرى في مناخ بناء من حرية التعبير والتقدير المطلق للكفايات والنبوغ والإبداع. وإننا اليوم في الوقت نفسه الذي تتراءى لنا بانوراما هذه الحضارة بثوابتها ومرتكزاتها وسجل إنجازاتها الكثيرة، يتبادر الى الذهن السؤال عن أسباب فشل امتنا خلال السنوات الخمسين الماضية بعدم توفيقها لتحقيق التحول الحضاري المنشود، وما هي الأسباب المباشرة في ذلك؟ إن المتتبع لتصريحات المسؤولين الجامعيين عن اهتمام الدول العربية بالبحث العلمي وبالعلماء وما يحظى به الباحثون لديها من عناية واهتمام، ثم بالرجوع الى الإحصائيات شبه الرسمية حول هذا القطاع، يخرج بانطباع براق وإيجابي جداً حول المكانة "اللائقة" التي يتمتع بها الباحثون والعلماء لديها. غير أن الواقع يترجم عكس ذلك تماماً. ومن دون ان ندخل في سرد الوضع السلبي للباحثين والعلماء العرب، يتبادر الى الذهن التساؤل المحرج الآتي: ما هو موقف الأنظمة السياسية تجاه هذه الشريحة من العلماء والباحثين العرب؟ وهل أدركت دورهم الجوهري في جدلية التنمية؟ ثم هل وفرت لهم المخابر والإمكانات المادية الضرورية وإنشاء المدن المعرفية وعلى الأخص العمل على تبني القوانين الملائمة وتعيين الأطر المسيرة لمؤسسات المعرفة والبحث العلمي في الوطن العربي؟ امام هذه التساؤلات المباشرة سنعرض هنا، بعض الأفكار التي حصلت لنا نتيجة مواكبتنا الأوضاع العامة لمسيرة البحث العلمي في الوطن العربي ومدى الإحباط الإداري والنفسي الذي يعيشه مجتمع العلماء والباحثين امام دقة وحرج وضعهم العام والذي يستحق اكثر من وقفة تحليلية: أ- إنه على رغم إعلان دول عربية عدة منذ عشرات السنين منحها قطاع البحث العلمي، الأولوية في اهتماماتها واستراتيجيتها المستقبلية وتوفير كل الظروف المادية واحترام حرية رأي الباحثين وتركها المجال لهم لتناول جميع القضايا والمسائل التي يستوجبها تحركهم البحثي وحرية نشر تلك البحوث، فإن هذه الطموحات الجميلة قد تعثّرت بحكم عوامل عدة. كذلك أعلنت اكثر من دولة عربية عزمها إنشاء فضاءات لمدن العلم والعلماء، إلا أنها لم توفق في إنجاز أو تحقيق ذلك. وحتى بعض الدول في المشرق والمغرب العربيين على حد سواء التي تمكنت من ذلك، أفرغت تلك المدن من أنشطتها وفاعلياتها وهياكلها وبرامجها البحثية وتم تهجير الباحثين منها لأسباب، لعلّ أهمها في نظرنا انعدام ممارسة حرية البحث العلمي فيها وسيطرة وتوجيه دواليب الحزب والدولة الرسمية على مشاريعها البحثية، ثم النزعة الحزبية التي ترفض منح الثقة للباحثين والعلماء الأكفياء والمستقلين سياسياً وفكرياً، لقبول نتائج بحوثهم حول القضايا الاجتماعية والسياسية والمعرفية وحتى تلك التي تمس حياتنا وسلوكنا ومشاعرنا الدينية بصفة خاصة. إن العقلية الإدارية التي ورثناها عن العهد الاستعماري الغربي، قضت بعدم السماح مطلقاً بتشريع المؤسسات العلمية الخاصة ومنحها صلاحية تبني المشاريع وإنجازها. وهو ما يعد خطأ فادحاً وخطيراً جداً خصوصاً في ظل العولمة الرهيبة التي أتت على كل المضامين والسياسات التقليدية التي طبقت في السابق وباءت بالفشل الذريع. وإنه لا مفر لنا البتة من تحرير البحث العلمي وإيجاد القوانين لإرساء المؤسسات العلمية الخاصة والتي يمكن اعتبارها البديل الوحيد والذي لا مفر لنا منه بالنسبة الى الوطن العربي برمته. لنتأمل في هذا المجال ونذكّر هنا بمؤسسات علمية يرثى لحالها في معظم الدول العربية، إذ لا رقابة علمية عليها، وكان الأجدر بالوزارات المعنية ان تحسن اختيار المسؤولين الباحثين على تسييرها، بل على العكس من ذلك، يتم وعلى مرأى ومسمع من مجتمع الباحثين والعلماء الجادين والعاملين، التمادي في الإساءة الى تلك المؤسسات باختيار أسوأ الإداريين الجامعيين الحزبيين والموالين وهم غير أكفياء تماماً، وليس لديهم سوى استراتيجية العلاقات المصلحية أو الانتماء الولائي الظاهري لا المبدئي والعقائدي أو الولاء العشائري والقبلي. ولعب المقربون من السلطة السياسية العليا، دوراً سلبياً خطراً جداً في اختيار وتعيين أولئك الإداريين غير الأكفياء تماماً والمتميزين بفراغهم الفكري وضحالة إنتاجهم العلمي وعدم إيمانهم بجدلية التواصل مع مجتمع الباحثين في الوطن العربي أنى كانوا، وهذا ما أسهم مباشرة في تهميش المؤسسات العلمية. ناهيكم عن التعيينات الاعتباطية الصارخة، كتعيين جنرالات في الجيش أو إداريين بيروقراطيين بعيدين من تلمس ومقاربة وفهم الإشكاليات الدقيقة لوزارات التعليم العالي أو مراكز البحوث العلمية المهمة في البلد الواحد! أين هي العقلانية في تبني هذه التعيينات الاعتباطية؟ وهل خدمت المصلحة الوطنية العليا للبلاد العربية؟ إنه الاحتقار الكامل والتحدّي الساخر والصارخ والذي يترجم مدى التهميش والإرهاب الإداري الذي مارسه بعض الأنظمة السياسية العربية تجاه المؤسسات العلمية والعلم والعلماء والباحثين وعدم ايلائهم المكانة اللائقة في منظومة التنمية الحقيقية للبلاد العربية، وهو ما يفسّر مدى فشل تلك المؤسسات البحثية، فشلاً ذريعاً وخطراً جداً، وكان وراء صرف الموازنات بطريقة بهلوانية وإضاعة الوقت والمجهودات من دون مردود علمي حقيقي. بل هناك كثير من المؤسسات ذات التوجه الإقليمي البحت كان مردودها وإشعاعها العلمي محدودين جداً، ولدينا في ذلك اكثر من دليل على هذا الفشل الذي لحق بمؤسسات عربية وأدى الى ممارسة سياسة الإخلال المتعمّد والاحتقار لمجتمع الباحثين والعلماء الذين يعدون النخبة المفكّرة والواعية، إذ هي القادرة على فهم أو شرح طبيعة وجوهر كل الاختيارات الظرفية الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تبنتها الأنظمة السياسية العربية. نذهب الى الاعتقاد ان الواجب يحتم على الدول تقدير علمائها وباحثيها ومنحهم الأولوية في سلم اهتماماتها وجعلهم يتمتعون بحرية التعبير الأكاديمية المسؤولة والوطنية في مجال تخصصاتهم المختلفة، أسوة بما حصل لعلمائنا وباحثينا في عصور ازدهار الحضارة العربية - الإسلامية الخالدة. إن تقدير العلماء والباحثين واجب الجميع، في حين يعمل رؤساء الجمهوريات والأمراء في الوطن العربي على استقبال المئات من لاعبي كرة القدم وتغطية مبارياتهم الكثيرة بمئات الملايين من الدولارات... إنه الزمن الصارخ بالتناقضات والتجاوزات والتي تتفاعل وتتكاثر كل يوم، لتجعل من الباحثين والعلماء عناصر غير مرغوب فيهما يجري التعامل معهم بحذر شديد ومراقبتهم هاتفياً وملاحقة كتاباتهم وأفكارهم داخلياً وخارجياً... وهناك المسائل الدقيقة المحرمة التي يستحيل على الباحثين معالجتها وحتى إثارتها في هذا الزمن الرديء الذي من أهم سماته تغييب الحقائق والملفات الكبرى وحرق الأرشيفات الرسمية وكمّ الأفواه وممارسة الرقابة الذاتية على أوسع نطاق. ومن جهة أخرى نؤكد ان جميع مجتمعات البلاد العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لم تعرف بروز هيئات أو مؤسسات لعلماء وباحثين حقيقيين ومستقلين داخل الوطن العربي، ممن كانوا وراء تبني المخططات الشاملة والوطنية لوضع فلسفة وأسس انطلاق تنمية البلاد العربية، وان هيكل أو محتوى التدريس في الجامعات العربية والقائمين عليه، لم ينتج علماء حقيقيين ولا باحثين متميزين في تخصصاتهم، إلا نادراً جداً وفي بعض الحالات الاستثنائية، وأن موقع الجامعيين العرب على صعيد الخارطة المعرفية الدولية ضعيف تماماً. فليست هناك مدارس فكرية تتميز بنظرياتها الأصلية والجديدة وباستقلال رأيها وممارسة حريتها الفكرية في كل القضايا. بل إن الذي نلاحظه بكل أسف هو الغياب الصارخ لموقع العلماء والباحثين العرب على الصعيد الدولي. والذي يؤكّد هذه الحقيقة المخجلة، هو عدم صرف مجتمع العلماء والباحثين الأجانب، أدنى عناية او اهتمام لما ينتجه الباحثون العرب في قطاع العلوم الإنسانية إلا نادراً جداً، وهو المجال الذي في إمكان العرب ان يبرزوا فيه. وهذا الأمر يفسر العدد المحتشم جداً من الدراسات والكتب التي نقلت من العربية الى اللغات الأجنبية. كذلك لنشرح الآن طبيعة هذا التسطيح المعرفي والفراغ الفكري ثم اللامبالاة والخوف القاتل الذي أصبح يهدد مجتمع الباحثين والعلماء من هذه الظاهرة الجديدة والقاضية بإعطاء الصلاحية القانونية لمنح درجة الدكتوراه لمن هب ودبّ على مستوى كليات لم تكتسب شيئاً من صناعة العلم والبحث وأصبح عشرات المئات بل الآلاف من حاملي درجة الدكتوراه العرب يصولون ويجولون ولا يهمهم إلا الكسب والربح بهذه الألقاب التي لاقت رواجاً في الفضاء الجامعي المشرقي بصفة خاصة، كما وجدوا لدى سماسرة المعلومات تشجيعاً كبيراً لكسب هذه الألقاب. والأشنع من ذلك اليوم هو تساهل الجامعات الأورو - أميركية وجامعات ما عرف بالمعسكر الشرقي سابقاً في منح درجة الماجستير والدكتوراه للطلبة العرب. لا بد من الإشارة الى جانب آخر من هذه الإشكالية التحقيرية لمجتمع الباحثين والعلماء في الوطن العربي ويتعلق أساساً بالظروف المادية البائسة التي يعيشها الباحث العربي في معظم البلاد العربية. فمعاشاتهم مزرية، ولا تمكّنهم من التركيز على مشاغل المعرفة والبحث العلمي. وقد منعوا قصراً من المشاركة في المؤتمرات العربية والدولية. وتطاولت عليهم الإدارات والبيروقراطية القاتلة، فنرى الباحث مضطراً لأخذ الموافقة للمشاركة في مؤتمر عادي، ويتطلب ذلك عشرات الإمضاءات من الإداريين، وهي الإمضاءات التي تستغرق شهرين الى ثلاثة، وهذا الى درجة بث الرعب واليأس لديهم وإحباطهم تماماً. وقد ذهب الأمر ببعض وزراء التعليم العالي العرب الى التهديد بغلق الجامعات ومراكز البحث وتركيع الباحثين والأساتذة الذين طالبوا ببعض الحقوق المادية البسيطة جداً! والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف السبيل للخروج من هذه الوضعية الحزينة والتي إذا تواصلت في مطلع هذه الألفية الثالثة، فلسوف تكون لها نتائج وخيمة أمام المتغيرات الرهيبة التي تعرفها منابر المعرفة الدولية، ذلك ان العمل على تغيير هذه الأوضاع هو مسؤولية الجميع، من جامعيين ومسؤولين وإداريين وهو ما يستوجب: - وجود معايير وقيم وثوابت وميثاق شرف يحدد المهام العليا للباحث والعالم وواجباته وكذلك واجبات الدولة تجاه مجتمع العلماء والباحثين من إتاحة المناخ الحقيقي في ظل حرية التعبير الأكاديمية المطلقة والمسؤولة ثم العمل على توفير الظروف المادية للباحثين الأصيلين والعاملين. - السعي الى إرساء حوار بين مجتمع الباحثين والسلطات الجامعية وإقناع الطرفين بحتمية ذلك، وان على الباحثين التخلي عن مركب الاستعلاء والغرور والتحدي، وعلى السلطات الأخذ في الاعتبار مجموعة من الثوابت والقيم الأساسية لدعم الباحثين والعلماء، بعيداً من سياسة الإقصاء والتهميش المتعمّد، إذ هناك مسافة شاسعة بين المخططات الحكومية وواقع البحث الفعلي، وهو ما أضاع فرص التنسيق والتشاور بين الطرفين. - إننا ننادي بتبني استراتيجية جديدة لتطوير آليات البحث العلمي والمعرفة، حتى يؤدّي الباحثون والعلماء دوراً جديداً اليوم، يتلاءم مع طبيعة التحديات الحضارية الخطرة التي نواجهها. ولن يتمكنوا من ذلك إلا بعد ان يضعوا أنفسهم في مواقع المسؤولية الحضارية. - وفي هذا الإطار، أوَليس الأجدر بالدول العربية السعي الى إرساء هيئات عليا تقطع مع الفشل الذريع الذي سجلته المنظمات المهتمة بالمعرفة والثقافة والعلوم منذ أكثر من ثلاثين سنة، فتكون وظيفة هذه الهيئات العلمية تقديم الخبرة الفنية للمؤسسات. * مؤرخ تونسي.