الاستثمار في صناعة المعرفة مسؤولية الجميع بقطع النظر عن حساسياتها الفكرية او السياسية او الحزبية، ذلك ان انتماءنا للأمة العربية هو اعز وأثمن المكاسب التي يوليها الجميع اهمية كبيرة، خدمة لمسار البحث العلمي. وهو يفرض علينا العمل على استقطاب الباحثين العرب والذين اكتسبوا شهرة دولية، وهم المقيمون في الخارج، وربطهم وطنياً بآليات جديدة لتفعيل الشراكة العلمية مع الفضاءات الاورو- اميركية - آسيوية، باعتبارهم الجسور المتينة، مع التركيز اساساً على الفضاء الاوروبي والذي سيصبح خلال العقدين المقبلين، أحد قطبي المعرفة والبحث العلمي على المستوى الدولي. إن التطورات التكنولوجية الحديثة وفرت الفرصة للجميع ليمسكوا بأسباب التقدم، غير انها من جهة اخرى، ادت الى بروز مجموعتين متمايزتين: مجموعة منتجة وأخرى مستهلكة. الاولى تمسك بخيوط التقدم وتوجهه أنّى ارادت، بما يناسب مصالحها ورؤاها وقيمها. والثانية تكتفي بدور المشاهد العاجز" فالأولى تحتكر انتاج وصناعة المعرفة والمعلومات وتمتلك تبعاً لذلك الثروة وتمسك بأسباب التنمية، والثانية لا شأن لها غير ترديد ببغائي لما يقع التكرم به عليها وبما يخدم المجموعة الاولى. ولا شك في ان الحدود بين تينك المجموعتين متداخلة ولا تخضع للتقسيمات الجغراساسية السابقة او الانتماءات العرقية والحضارية او الثقافية. ولنا في بلد كالهند خير مثال، إذ كانت الى زمن قريب تصنف طبقاً للمقاييس التي كانت سائدة، ضمن البلدان السائرة في طريق النمو او بلدان العالم الثالث، ولكن كل المؤشرات تدل حالياً الى انها استطاعت ان تكون ضمن المنتجين للتكنولوجيا وتتقدم على بعض البلدان المصنعة في تصدير برامج الكومبيوتر، وانه على ضوء ذلك خططت ألمانيا مؤخراً لانتداب اكثر من 6 آلاف متخصص هندي في صناعة البرامج وهذا اقوى دليل على نجاح التجربة الهندية على رغم ان هذا البلد ذا البليون نسمة، فقير جداً! إن مجتمع المعرفة يتطلب اذاً ان يكون افراده منتجين للمعرفة وليسوا مجرد مستهلكين لها. ومن هنا فإن الاستثمار في انتاج المعرفة، وجب ان يكون احدى اولوياتنا التخطيطية، حتى تتحقق النقلة النوعية بالمقياس الحضاري والاشعاع العلمي على المستوى الدولي. وان مجتمع المعرفة هو ورشة حقيقية يضطلع ويسهم في اطارها الجميع، كل من موقعه واختصاصه ونزعته الفكرية وانتمائه السياسي والايديولوجي، ذلك ان الثروة الحقيقية للأمم في القرن الحادي والعشرين، كما يؤكد بيتر دروركر تتمثل في الذكاء والاختراع وتوظيف الوسائط التكنولوجية الجديدة والتي يتوقف عليها بناء مجتمع المعرفة، وان هذه الوسائط تشكل المصدر الجوهري للرأسمال الثقافي والعلمي للانسان وهو الذي لا يمكن ان يقدر بثمن. اصل الآن الى جوهر اشكاليات ملف صنع المعرفة والسبل الكفيلة بتبني استراتيجية مستقبلية وخطة مدروسة على المدى البعيد لتنفيذ تلك الاستراتيجية، عبر المراكز والمؤسسات المشهود لها بالمصداقية والكفاية وبادارتها المهنية العليا ذات الاشعاع المعرفي وليس كما هي الحال اليوم في الكثير من المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية العربية، حيث لا تتوافر معايير النجاعة البحثية لأسباب لا سبيل لذكرها هنا، في حين كان يمكن ان تشكل واجهة مهمة في بلورة الاستراتيجية المستقبلية ومردودها الايجابي على مخططاتنا للاستثمار في المعرفة والبحث العلمي. اولاً: التشريع والقوانين هناك حقائق ثابتة وجب اخذها في الاعتبار اليوم واستخلاص الدروس والعبر منها في دعم صناعة المعرفة. ففي الولاياتالمتحدة الاميركية مثلاً يؤدي الخواص دوراً رئىسياً ومهماً جداً في دعم صناعة المعرفة. حتى ان اهم الجامعات والمختبرات والمراكز البحثية، هي غير حكومية وان اكثر من 80 في المئة من الدعم يتأتى من تمويل خاص اي من الافراد الواعين وهم الذين كانوا وراء انشاء الآلاف من المؤسسات والجامعات والمراكز البحثية. لقد سهل التشريع الاميركي عمليات الدعم من خلال خفض الضرائب، اذا سلم جزء من الأرباح لفائدة البحث العلمي. وعليه فإن مختبرات المعرفة في العالم الأورو-أميركي يقوم عليها اساساً القطاع الخاص، ومع ذلك فهي تدرج ضمن عمل استراتيجي شامل، يقوم على ثوابت وطنية واضحة ولا مجال للشك فيها، وهي تحقق انجازات مشهودة، بل يمكن القول إنها عماد التقدم العلمي والمعرفي في العالم الأورو-أميركي واليابان وبعض دول النمور الآسيوية. ففي ألمانيا وحدها هناك عشرة آلاف مؤسسة بحثية وهي غير الجمعيات، وتسهم في صنع المعرفة محلياً ودولياً. وأثناء تنظيمنا للمؤتمر الثاني للحوار البريطاني - المغاربي، في جامعة اكستير في ايلول سبتمبر الماضي، احاطني نائب رئىس الجامعة علماً ان احد البريطانيين الاثرياء اهدى مؤخراً لجامعة اكستير ثروته التي تقدر ب15 مليون جنيه! وقس على ذلك بالنسبة الى الآلاف من الناس الذين وجدوا التشريع والقوانين التي منحتهم صلاحية القيام بذلك. وعلى ضوء ذلك نقول إن اهم التحديات التي ستواجهها الأمة العربية هي ايجاد القوانين والتشريعات لبعث المؤسسات الاكاديمية الخاصة، وانه آن الأوان لأن نكف عن مطالبة الدول العربية بتأمين كل شيء. وعليه وجب السعي الى توفير القوانين والتشريعات الخاصة في هذا المجال لتوجيه وإقناع الخواص من افراد وشركات ورجال اعمال وتشجيعهم على الاستثمار في المعرفة، اذ ان اسهامهم حتى اليوم ضئيل جداً. وقد تطرقنا الى هذا الامر في كتابنا "أزمة البحث العلمي في تونس والبلاد العربية". وعليه فإن تقنين ذلك سيحفز ظهور شبكة كبيرة منها، تشمل كل المجالات البحثية، وانما تتجه نحو ربط علاقات شراكة وتعاون مع المراكز والمؤسسات المماثلة في البلدان الأخرى، وسيكون لذلك تأثير في احتلال امتنا موقعاً طلائعياً على المستوى العربي والدولي. ثانياً: الدعم المحلي والدولي واستراتيجية الشراكة المعرفية ان مسؤولية الاستثمار في المعرفة والاسهام في صنعها، هي مسؤولية الجميع. وفي هذا المجال نذكّر بتشريع حصل في دولة عربية عندما سنت قانوناً تقتطع بموجبه نسبة 5 في المئة من جملة الارباح العامة لكل الشركات والبنوك لفائدة البحث العلمي، وهذا ما كان وراء قيام مؤسسة تعد اهم مركز علمي لصناعة المعرفة وقد حققت الكثير من الانجازات. وفي هذا المجال فإنني اقترح سن قانون ينص على اقتطاع 1 في المئة فقط نعم 1 في المئة من جملة الارباح على كل الشركات والبنوك العربية والأجنبية للاسهام في الاستثمار في المعرفة في كل بلد عربي. إن وضع استراتيجية لتفعيل الاستثمار في المعرفة يتطلب استشرافاً عميقاً وواعياً لملف البحث العلمي ويمكننا ذكر العناصر التالية لتحديد معالم تلك الاستراتيجية: - العمل على تبني خطة مدروسة ذات مراحل وأهداف آنية وأخرى بعيدة المدى وتقوم على تنفيذ هذه الاستراتيجية مراكز ومؤسسات بحثية مشهود لها بالكفاية والمصداقية والتأثير وتكون ذات اشعاع دولي. ذلك ان المؤسسات البحثية التي ظهرت في بداية استقلال الدول العربية تدرج ضمن استكمال مؤسسات الدولة، ولم يكن مطلوباً منها آنذاك، أداء ادوار كبيرة خصوصاً على المستوى الدولي، إلا انه منذ تبني خيار الخصخصة، كان لا بد من ظهور مؤسسات بحثية جديدة تقوم بأدوارها بأكثر نجاعة في صناعة المعرفة. - العمل على توفير مناخ الحرية الاكاديمية لكل الباحثين سواء في العلوم الصحيحة او العلوم الانسانية والاجتماعية خصوصاً، ذلك ان العلماء يحرصون على ذلك حرصاً شديداً. وانه لا يضر في شيء منح الحرية الاكاديمية للمتخصصين العاملين في هذا الوطن، شريطة عدم ارتباطهم بأي ولاءات اجنبية مهما كان نوعها ومصدرها. - تأطير نظام تعليمي متكامل قادر على تكوين اجيال مهيأة لاستيعاب ومواكبة التطورات التكنولوجية والعلمية والابداع فيها، وفي الوقت نفسه تكون تلك الاجيال مغروسة في تربتها ومتشبعة بالحس الوطني. - تخصيص حصص تلفزيونية للتعريف بالباحثين اللامعين في تخصصاتهم واجراء حوارات معهم عن آخر مستجدات بحوثهم وكتبهم وبث محاضراتهم المتميزة لتوكب عربياً ودولياً. وما زلت اتذكر انه اثناء دعوتي من اهم جامعة خاصة في الشرق الاوسط وهي جامعة بلكنت التركية، ان هذه الجامعة مرتبطة بأهم الجامعات الاميركية وانها تقوم ببث اهم المحاضرات لأكبر الخبراء الاميركيين في الكثير من التخصصات، ويا حبذا لو فكرنا في تصيد ومعرفة اهم المحاضرات المتميزة وبثها على قناة تلفزيونية متخصصة في مجال الاستثمار في المعرفة. ان هذه العناصر مجتمعة من شأنها ان تضمن ارساء ونجاح بنية اساسية متينة ومتكاملة لتصنيع المعرفة. والمعرفة هنا لا يجب حصرها في قطاع دون آخر، كما لا يمكن خلالها التمييز او المفاضلة بين العلوم الصحيحة والعلوم الانسانية والاجتماعية، فلكل منها مكانته ومجالات ابداعه وإشعاعه. ذلك ان الكفة رجحت وما زالت خلال اربعين سنة لفائدة العلوم الصحيحة او التطبيقية، وانها تتمتع عرضياً ب90 في المئة من الموازنة المخصصة للبحث العلمي في البلاد العربية، بل انها تحتكر النظرة الى العلوم والمعرفة ولم يبق للعلوم الانسانية إلا حيز ضئيل من الاهتمام والدعم والنشر، في حين ان العلوم الانسانية والاجتماعية تشكل مجالاً خصباً وبكراً للابداع والاضافة والتنمية، ومن خلالها يمكن تحقيق انجازات كبرى، ومضاهاة ما تقوم به مختبرات المعرفة في البلدان الغربية. ان تصنيع المعرفة كل لا يتجزأ، وقد بينت التجربة الغربية ذلك ولا يمكن بأي حال تطوير جانب منها وإهمال جانب آخر. دور الكتاب وأوعية المعلومات في تصنيع المعرفة يشكل نشر الكتاب بلغات عدة الحجر الاساس في صناعة المعرفة ومن هنا تأتي ضرورة الاهتمام بهذا القطاع تعريفاً وترويجاً. ثم ان ما يطبّق على الكتاب يطبّق على اوعية المعلومات الاخرى وخصوصاً منها الالكترونية من اقراص "مليزرة" وغيرها. اما وسائط الانترنت فقد استوجب تعميمها للجميع بقطع النظر عن انتماءاتهم العرقية او الثقافية او الحضارية او السياسية، انها علامة العولمة المعرفية بامتياز، بما حققته من سرعة فائقة واختراق الحدود، وبالتالي تسهيل الوصول الى مصادر المعلومات في اوقات قياسية. ذلك ان صناعة المعرفة تتناقض تماماً مع سلوك المستهلكين السلبيين او للدعاية الفجة، بل ان الانترنت تعني الدخول الى الآخرين حيث هم وإقناعهم بنظريات جديدة وتعريفهم بتجارب مبتكرة. هناك عدد آخر من الاشكاليات لا سبيل الى التوقف عندها إذ ان ذلك يتطلب تحليلاً موسعاً، ولكن اود ان اختتم كلمتي بالقول إن في استطاعة الأمة العربية ان تسهم في حسن تصنيع المعرفة والاستثمار فيها، اذا تبنت الاستراتيجية الفاعلة والتي سعينا هنا الى تحديد إطارها العام. * كاتب ومؤرخ تونسي.