أحدث التصريح الذي أدلى به دوف فايسغلاس، كبير مستشاري ارييل شارون، صدمة سياسية لدى الدول المعنية بالشأن الفلسطيني لأنه كشف النقاب عن الهدف الحقيقي لخطة فك الارتباط. وكان فايسغلاس أدلى بحديث مثير إلى صحيفة"هآرتس"قال فيه إن خطة الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة تهدف إلى إلغاء أي حل يقود إلى انشاء دولتين. ولقد أحدث هذا التصريح المفاجئ موجة من الاستياء في الأردن، الأمر الذي دفع وزير الخارجية مروان المعشر، إلى طلب ايضاح من الحكومة الإسرائيلية حول الجانب المبهم من إعلان يناقض مشروع"خريطة الطريق". والمؤكد أن هذا التصريح المقلق كشف من جديد عن النية المبيتة التي حجبها شارون عن الأردنيين مدة عشر سنوات، أي منذ تولى منصب وزير البنى التحتية، يومها اختبره أحد الصحافيين بسؤال حول مشروعه المريب الذي سوّقه في الولاياتالمتحدة وأوروبا تحت شعار:"الأردن هو فلسطين". وأجاب شارون بصيغة غامضة لا تدل على القبول أو النفي. قال إن الشعبين الفلسطينيوالأردني لم ينفصلا إنسانياً وديموغرافياً، ولو أن الانتداب البريطاني فصلهما جغرافياً. واعتبرت عمّان هذا التصريح مطمئناً، خصوصاً بعدما كرر شارون هذا الموقف اثر توقيع اتفاق وادي عربة في 26 تشرين الأول اكتوبر 1994. وفجأة، جدد رئيس وزراء إسرائيل مشروعه السابق وإنما بصيغة مختلفة لا تسمح بإقامة دولة ثالثة بين الأردن وإسرائيل. وحجته أنه ليس في الجانب الآخر قيادة قادرة على تمثيل غالبية الشعب الفلسطيني، وان اتفاق أوسلو دُفن نهائياً بعد مقاطعة ياسر عرفات واعتباره في نظر واشنطن عنصراً مخرباً لا يصلح لإكمال مفاوضات السلام. والملفت أن قرار المقاطعة لم يتخذه جورج بوش فقط، وإنما جاهر به المرشح الديموقراطي جون كيري، علماً أن سلفه بيل كلينتون استقبل عرفات 28 مرة خلال ولايته. ولقد حذرت صحيفة"نيويورك تايمز"من مخاطر اهمال الرئيس الفلسطيني، وقالت إن تنافس بوش وكيري على كسب ودّ شارون، سيؤدي إلى انهيار مفجع لمسيرة السلام. كذلك حذرت جريدة"ذي غارديان"من تشجيع الإدارة الأميركية المنتخبة لاحقاً - لا فرق أكانت جمهورية أم ديموقراطية - من النتائج السلبية التي ستظهر على الساحة الفلسطينية بسبب التأييد الأعمى لفكرة إلغاء الدولة الفلسطينية. أي الفكرة التي طرحها شارون معتبراً أن التخلي عن قطاع غزة هو أقصى ما تستطيع إسرائيل التنازل عنه. ومثل هذا التفكير المنغلق دفع الرئيس الفلسطيني إلى الترحم على عهد بنيامين نتانياهو الذي وقّع اتفاقات عدة مع السلطة الفلسطينية كان أبرزها اتفاق الخليل. وكما اختلف الموقف الفرنسي عن الموقف الأميركي بشأن مبررات الحرب ضد العراق، كذلك اختلفت باريس مع واشنطن حول التجاهل المتعمد الذي تظهره ادارة بوش نحو خطة"خريطة الطريق". فهي من جهة تفاخر بأنها اول ادارة اميركية تعلن تأييدها لانشاء دولة فلسطينية، ولكنها من جهة اخرى تدعم شارون في سعيه لنسف كل مقومات بناء الدولة. وتحاشياً لأي التباس بين الموقفين الاوروبي والاميركي، ارسل الرئيس جاك شيراك وزير خارجيته ميشال بارنييه في مهمة محددة تتلخص في ضرورة احياء المفاوضات المجمدة، مشترطاً ان تكون خطة فك الارتباط جزءاً من مشروع"خريطة الطريق". واكد الوزير الفرنسي تمسك بلاده بعملية قيام دولتين فلسطينية واسرائيلية تعيشان في امن جنباً الى جنب. وقال لشارون ان الانسحاب من قطاع غزة فقط سيحول هذه الرقعة الصغيرة من فلسطين اشبه بغيتو منغلق على نفسه حيث يعيش مليون ونصف المليون انسان، ومن الطبيعي ان ينتج عن هذا القهر مزيد من العنف ومزيد من الانتحاريين الذين ينتمون الى"حماس"و"الجهاد الاسلامي"و"كتائب القسام". وقال ايضاً ان بلاده تستنكر العمليات الانتحارية لانها تبعد فرص حل الدولتين، ولكنها من جهة ثانية تعترض على مسار جدار الفصل لأن هذه الوسيلة لا تسمح بإقامة الدولة الفلسطينية. ادعى شارون في رده بأن واجبه كرئيس حكومة يقتضي الحفاظ على سلامة المواطنين، وبأنه اضطر الى اقامة جدار الفصل لمنع الانتحاريين الفلسطينيين من التسلل الى الداخل لقتل الآمنين في المستوطنات والمدن. ثم انتقد الاتحاد الاوروبي لانه يسهل مهمة"الارهابيين"عن طريق التصدي لمشروعه الخاص بالانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية واخلاء المستوطنات منها. وقال ان هذه العملية ستنفذ خلال ثلاثة اشهر على ان يبدأ العمل في شهر ايار مايو 2005. النقاش الحاد بين شارون وبارنييه تمحور حول نقاط الاختلاف بشأن مسار جدار الفصل والحصار المضروب حول مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله. واعرب الوزير الفرنسي عن وجهة نظره بأن المرء لا يختار خصمه، وان السلام يبرم مع الخصم تحديداً وليس مع الصديق. واعترض على مسار جدار الفصل لانه التهم آلاف الدونمات من اراضي الدولة الفلسطينية المزمع انشاؤها. واكد بارنييه ان ارقام القتلى من الاسرائيليين ازدادت بعد بناء الجدار، الامر الذي يثبت ان فلسطينيي الداخل يتعاطفون مع اخوانهم في الضفة وغزة وان الظلم سيجعل من كل فلسطيني شريكاً في صنع الانتفاضة. وانتقد فكرة الغاء الدولة الفلسطينية لأن هذا الخيار في رأيه سيقوي تيار الاصوليين ويسحق تيار عرفات، أي التيار المعتدل الذي يقبل بالتفاوض بعد 35 سنة من النزاع المرير. زيارة الوزير الفرنسي لم تبدل في قناعات شارون، ولم تغيّر في خطته بشأن فك الارتباط والانسحاب من القطاع. ولقد اوصى منذ شهرين بضرورة وضع كل المستوطنات تحت تصرف السلطة الفلسطينية 18 مستوطنة بحيث تنقل اليها الفي شخص من سكان المخيمات. ويبدو ان ضغوط المتشددين في ليكود اجبرته على التراجع عن هذه التوصية فاذا به يضيف فقرة على برنامج الاستفتاء تطلب من المواطنين الموافقة على هدم منازل المستوطنين وأبنية المعابد. ولكنه اقترح من جهة اخرى ان يصار الى تسليم ارض المستوطنات الى هيئة دولية مؤلفة من الولاياتالمتحدة وكندا والاتحاد الاوروبي واليابان والبنك الدولي. وعلى هذه الهيئة ان تدرس كيفية تحويل هذه المواقع الى مدارس ومستشفيات. بقي السؤال الاهم: هل يسلم ارييل شارون من الاعتداء بعد الفتوى التي اصدرها ستون حاخاماً تدعو الجيش الاسرائيلي الى التمرد على اوامر الحكومة باخلاء مستوطنات القطاع؟! مكتب الامن التابع لشين بيت قدم تقريراً لشارون يصف فيه موجة الغضب التي تعصف بالمستوطنين بأنها تشبه موجة التحريض ضد اسحق رابين. ويقول التقرير ان المقالات المثيرة التي كتبها اوري اليتزور، رئيس تحرير صحيفة"نيكودا"الناطقة باسم المستوطنين، تعتبر من اهم وسائل التحريض على القتل. وبما ان الصحافي أوري عمل في السابق مستشاراً لدى بنيامين نتانياهو، وكان بمثابة البوق الذي نفخ نار الحقد ضد رابين سنة 1995، فان مقالاته في هذه المرحلة تعتبر وسيلة التشجيع على اغتيال شارون. خصوصاً أن رئيس الحزب"الوطني الديني"ايفي ايتام، دعا الى نسف خطة الانسحاب لأنها في نظره، صادرة عن شخص مجنون. شمعون بيريز من جهته حذر شارون من اهمال معالجة موجة الاستياء، وقال ان عملية الاخلاء القسري قد تدفع بأحد الغاضبين الى ارتكاب حماقة ثانية. واعرب بيريز عن مخاوفه من تنامي مشاعر التمرد الجماعي داخل صفوف الجيش، خصوصا بعد صدور فتوى من كبير الحاخامات شبيرا وستون، يحرم فيها اجلاء المستوطنين. وربما تكون هذه هي المرة الاولى التي تختلف فيها المؤسسة العسكرية مع الاحزاب الدينية والحاخامات حول موضوع يتعلق بمستقبل الدولة العبرية، لذلك طالب رئيس الاركان الجنرال موشيه يعالون بعدم إقحام الجيش في الجدل الدائر حول خطة الانسحاب من غزة. ونقلت اجهزة الاستخبارات لرئيس الوزراء معلومات تؤكد احتمال تجاوب جنود مع دعوات رفض تنفيذ أوامر باخلاء مستوطنات، الأمر الذي يشكل خطراً حقيقياً على تماسك الجيش ووحدته. حيال هذه الصعوبات يسعى ارييل شارون حاليا الى اختبار موقف الرأي العام الاسرائيلي عن طريق ابلاغه بطريقة غير مباشرة، ان خطة الانسحاب تحول دون قيام دولة فلسطينية مستقلة. لذلك أوعز الى مستشاره وكاتم أسراره فايسغلاس بأن يظهر الهدف الحقيقي من وراء ابعاد كل حل يؤدي الى قيام دولتين. وبما ان كوندوليزا رايس اعطته الضوء الاخضر لتفسير مشروع"خريطة الطريق"، لذلك ادعى انه ينفذ الجزء الاول منها. في حين طالبه الوزير الاردني الدكتور مروان المعشر والوزير الفرنسي بارنييه بضرورة اعتبار فك الارتباط جزءاً من عملية شاملة، وليس كما قال فايسغلاس بأنها خطة تقود الى إلغاء الدولة الثالثة بين الاردن واسرائيل. وزير الخارجية الاميركي كولن باول علق على تصريح فايسغلاس بالقول ان كلام المستشار غير ملزم، وانما التزام شارون يبقى هو الموقف الرسمي. وكان بهذا الكلام يشير الى وعد شارون بالتزام"خريطة الطريق". ولكن الصحف الاسرائيلية تؤكد ان المستشار لا يعقل ان يدلي بمثل هذا الحديث الخطير من دون أخذ موافقة معلمه أولا، وكوندوليزا رايس ثانياً. ويرى ياسر عرفات المنتظر دوره لتطبيق خريطة الطريق، انه من المفيد مراجعة مذكرات شارون، لعل ذلك يساعد على اكتشاف الاهداف الكامنة وراء رفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية. ففي تلك المذكرات يعترف شارون بأن مفاوضة الفلسطينيين ستصطدم دائما بالقرار 242 وبالانسحاب الى خطوط 1967، وبحل قضية اللاجئين على أساس قرار 194. وبما ان قيام الدولة الفلسطينية يمثل دائما الخطر الديموغرافي المتاخم لحدود اسرائيل، فإن الانسحاب الاحادي الجانب ينقل الخطر الى الأردن باعتباره يمثل الوطن الفلسطيني البديل في نظر شارون! * كاتب وصحافي لبنان