"كان جرجي زيدان من رواد التنوير العربي على النمط الغربي"، هذا ما قاله مؤرخ مصري في تقديمه لكتاب صدر حديثاً عنوانه "رحلة جرجي زيدان الى الآستانة عام 1909". وإذا كان تعبير "رواد التنوير العربي" لا يوقظ إلا اسئلة مطروقة، فإن صفته اللاحقة: "على النمط الغربي" توحي باستنكار مضمر، يرسل بالرجل وتنويره الى محكمة حراسها شديدو العبوس. وواقع الأمر ان قيمة زيدان 1861 - 1914، تنويرياً كان على النمط الغربي ام واعظاً اخلاقياً على الطريقة الشرقية، لا تختصر الى "موقف عقائدي"، يعتنق "الأصالة" او يتجنّبها، انما تتكشف في حياته الفكرية الرحبة والآثار المتعددة التي تدل إليه. فهذا اللبناني، الذي ولد في بيروت وتطور في القاهرة، يحيل عادة الى "الرواية التاريخية" التي اقتبس ملامحها، ربما، من الإنكليزي "والتر سكوت"، فإن توسّع تعريفه جيء على ذكر مجلة الهلال، التي اصدرها عام 1892 وأشرف عليها وكتب فيها حتى نهاية حياته. تنطوي حياة هذا "التنويري على النمط الغربي" على وجوه خصيبة عدة، كما لو كان قد حرر مكانه من زمانه الضيق، او اضاف الى حياته القصيرة ازمنة سرية. فبعد ان منعه عسره المادي من دراسة الطب في القاهرة، انتقل الى دراسة الأدب والتاريخ واللغة العربية، واختير عضواً في المجمع العلمي الشرقي، قبل ان يكمل الخامسة والعشرين. لكنه عني، في الوقت ذاته، باللغات الشرقية، مثل العبرية والسريانية، وأجاد الأولى منها، وباللغات الغربية، مثل الفرنسية والإنكليزية، والأخيرة تمكن منها في خمسة اشهر، كما يقال، وحاول ان يضع قاموساً انكليزياً - عربياً. وهذه التعددية اللغوية التي توائم عقلاً متعدد المواضيع افضت به الى حقل غير مألوف ترجمت بكتاب عنوانه "كتاب الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" - 1886، وقادته الى تفسير متعدد العناصر للحضارة العربية. بيد ان زيدان، الذي لم يختصر "آداب اللغة العربية" الى البلاغة المتوارثة، كشف عن تعدديته، مرة اخرى، في ميدان حديث عنوانه: الصحافة، فعمل في جريدة "الزمان" القاهرية، ثم في جريدة "المقتطف" الى ان استقر، بعد اربع سنوات، في مجلته "الهلال". كان بديهياً ان ينجذب عقل ادمن المساءلة الى الرحلات، وأن يدمن اكثر على وضع دروس الرحلات في كتب، مثل رحلته الى الآستانة، التي انتهت الى كتاب كثيف المعلومات، ورحلته الى أوروبا التي استقرت في كتاب آخر. كان قبل هاتين الرحلتين سافر الى انكلترا وفرنسا وسويسرا، وخرج من سفره بما يرضي العقل المشدود الى نداء المعرفة، إن لم يكن نداء المعرفة هو الذي أبحر به الى جهات مختلفة. كان على هذه الاتجاهات ان تترجم فضول العقل الحديث، الذي يرى في السياسة مقدمة للحداثة، ويرى في الديموقراطية مقدمة للسياسة، ذلك ان السياسة، وبعيداً من اللغة الفارغة، هي جمالية المفرد، التي تتيح للإنسان الذي استقل بإرادته ان يرفض وأن يقبل وأن يحلم وأن يعتقد ان حلمه سائر الى التحقق. ولعل هذا العقل الحديث هو الذي جعل جرجي زيدان يكتب عن السياسة والتمدن والحضارة والحرية والاستبداد، وينقد حكم السلطان عبدالحميد الى تخوم المقت والكراهية، ويدافع عن جمعية "الاتحاد والترقي" التي اطاحت بالسلطان، وينظر الى الحضارة العثمانية بفتور كبير. لا يدور السؤال حول نظر صحيح او نظر غير مبرّأ من الخطأ والمكابرة، إنما يدور حول التجرؤ على عادات النظر، تلك العادات المطمئنة الراسخة الراكدة، التي تصيّر الزمن الى فراغ عقيم. بهذا المعنى كان جرجي زيدان تنويرياً، من دون ان يحتاج الى نعت او صفة، ذلك ان التنوير هو التجرؤ على المعطى، هو المجازفة في طرح السؤال، لا بحثاً عن متعة فكرية انانية، بل احتجاجاً على انهيار لا يحتمل. تجلّت حداثة جرجي زيدان في تعدديته اللغوية - الثقافية، وتكشفت في اسئلة تبدأ من السياسة وتعود إليها، واستظهرت في مقارعة العادة وإقلاق البداهات. لكنه آثر، فوق هذا وذاك، ان يكون مؤسساً نوعياً للرواية التاريخية، مجيداً كان في عمله ام محدود الإجادة، وأن يكون أنموذج الإنسان المنتج بامتياز. فوفقاً لما جاء به د.محمد حرب، الذي اشرف على نشر "رحلة جرجي زيدان الى الآستانة عام 1909"، كتب زيدان 40 رواية تاريخية، ترجم معظمها الى الفارسية، وترجم بعض منها الى التركية او لغات اخرى. اما تحت عنوان "مؤلفات جرجي زيدان مرتبة تاريخياً" فيقع القارئ على اثنين وخمسين عنواناً. فإلي جانب الروايات توجد عناوين كثيرة عن "التاريخ العام منذ الخليقة، تاريخ مصر من الفتح الإسلامي الى الآن، تاريخ انكلترا منذ نشأتها الى هذه الأيام، تاريخ التمدن الإسلامي، تاريخ اللغة العربية باعتبار انها كائن حي تام خاضع لناموس الارتقاء، تاريخ آداب اللغة، مصر العثمانية...". عيّن زيدان التاريخ موضوعاً علمياً، واشتق منه رواية تاريخية، واشتق من الموضوعين معاً فلسفة حديثة، تنشد التمدن والارتقاء. بهذا المعنى، فإن زيدان لم يكن يستورد التنوير كما تستورد السيارات والآلات الكهربائية، بل كان يقتفي آثاره في ميادين معرفية اعطاها حياته القصيرة - الطويلة، ملتمساً معنى محدداً، يطاوعه مرة ويراوغه مرة اخرى. ولهذا فإن تعبير "التنوير العربي على النمط الغربي" لا يقدم جواباً، من المفترض ان يقدمه مؤرخ محترف نبيه، بل يمثّل هرباً غير دقيق من سؤال خطير ودقيق، ذلك ان في مسار زيدان احتشدت اقدار عدة، تبدأ برفاعة الطهطاوي ولا تنتهي مع نجيب محفوظ، الذي افاد من توماس مان وغيره، وهو يعطي العرب جنساً ادبياً جديداً "وافداً" على "اصالتهم الأدبية". يتضمن كتاب "رحلة جرجي زيدان الى الآستانة" تسعة فصول، تعالج وجوه "المدينة العليّة" المختلفة. لكن الفصل الخاص بالقصور هو الأكثر جمالاً وفطنة وإدهاشاً من بين الفصول جميعها. لأنه يصرّح، بطلاقة كبرى، بأمرين: فهو المرآة الفصيحة التي تذيع موهبة صحافية عريضة، ترى الى الأشياء في تفصيلها وتستنطق روح الأشياء بتفاصيل الألوان والدقائق والمساحات والصور، كما لو كان الصحافي يوقظ الروائي فيه، او كما لو كان الروائي والصحافي والإنسان الذي يجمعهما قد تحوّلا الى عين نافذة وإلى قلم يخلق موضوعه ولا يخطئ. فالقصور واسعة رحبة شاسعة، 400 غرفة في قصر يلدز الذي بناه السلطان عبدالحميد وأنفق عليه نحو مليوني جنيه، مترفة وشديدة البذخ والترف، ستائر مذهبة وتماثيل من ذهب وسجاجيد معشّقة بالزمرد وحبال من لؤلؤ وتيجان مرصعة بالألماس وخشب اسود منزّل بالذهب والسقوف والكتابة والسرر والأواني ذهبية ومزخرفة بالذهب... في ذلك الوصف الدقيق للقصور السلطانية يعلن زيدان عن موهبته الصحافية، لكنه يفصّل تفصيلاً معنى "التنويري على النمط الغربي" الذي كانه، الذي ينكر تلك المعادلة البائسة القديمة المستجدة التي تساوي الحكم بالذهب والسلطة بالثروة، ويستنكر "ولع الكم" الذي يصاحب السلطات المستبدة، حيث السلطان هو ذهبه وحيث الذهب خليل سرير السلطان واسطبله. غير ان زيدان، الذي يرى وراء البطر العميم قهراً لا يطاق، يلمح سريعاً وراء "الولع بالكم" الرعب الذي استقر في عيون الحاكم المتبطر وأحلامه، فالسلطان عبدالحميد، الذي كان مولعاً بالساعات وخزائن الحديد، يلبس "درعية" اذا مشى ولا ينام ليلتين في غرفة واحدة ولا ينام في سريره بل بين الأثاث حتى يكاد لا يُرى والباب المفضي الى "حريمه" مرآة تسمح له ان يرى ما هو وراءه، وعلى من يمثل بين يديه ان يخفض عينيه حتى لا يرى الى عيني السلطان اللتين فارقتهما نعمة الهدوء. عالم من الذهب والخوف واللؤلؤ والقلق والزمرد وأطياف الهلاك. بهذا المعنى يكون وصف القصور الدقيق احتجاجاً صارخاً وتعبيراً عن موهبة واستنكاراً اخلاقياً وشرحاً لمعنى "التنوير" لا نقصان فيه. في نشره لكتاب "رحلة جرجي زيدان الى الآستانة عام 1909" يقدم المؤرخ المصري محمد حرب وثيقة نادرة، يستحق عليها الشكر، خصوصاً انه اضاف اليها معلومات غزيرة تضيء قراءتها، بأسلوب موضوعي لا تعمّل فيه ولا اصطناع. يبقى سؤال "التنوير على النمط الغربي"، كما "التنوير على النمط الشرقي"، الذي يدخل في باب حرية الفكر وقناعة الاختيار.