لم يكن المؤرخون المسلمون في العصر الوسيط بالغافلين عن منهج البحث التاريخي وسبله، وهم طبقوا فعلاً على ما تحصل لديهم من مادة تاريخية المبادئ العلمية نفسها التي ابتدعها ونماها علماء الحديث في دراستهم للأحاديث المنسوبة الى النبي صلى الله عليه وسلم. وما من شك في أن المؤرخين المسلمين حققوا إنجازات رائعة خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، والتزموا المعايير العلمية الدقيقة التزاماً لا يزال المؤرخون الغربيون يغبطونهم عليه الى يومنا هذا. غير أنه بمضي السنين، وبازدياد تحررهم من تأثير الفقهاء ورقابتهم، أثاروا عداوة هؤلاء الأخيرين وريبتهم، وهما عداوة وريبة تحولتا الى حرب مريرة على المؤرخين في عصور الانحطاط الفكري في الدولة الإسلامية. وأسفرت هذه الحرب عن انتصار الفقهاء، وعن اضطرار المؤرخين الى تبني موقف من أحداث الماضي شبيه بموقف الفقهاء منها. وأضحى الهدف من الكتابات التاريخية هو الهدف الذي حدده الفقهاء للمؤرخين، ألا وهو أن يكون علم التاريخ وسيلة من وسائل غرس القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية الرفيعة والمثل العليا لا تسجيل الحقائق بعد تمحيص ما تجمع منها. ومن هنا بدأت تتكون نظرة المسلمين الرومانسية الى تاريخهم وأبطال ماضيهم، وأضحت للحقيقة التاريخية مكانة تقل في الأهمية كثيراً عن هدف تعزيز الإيمان والوعظ وبيان نماذج السلوك التي ينبغي على المتقين أن يحذوا حذوها أو يتجنبوها. وكانت ثمرة ذلك أن بات المسلمون ينظرون الى الخليفة عمر بن عبدالعزيز مثلاً على أنه من أعظم خلفاء الإسلام لمجرد ورعه وتقواه وموقفه العادل من العلويين وبني هاشم، في حين لم تجلب سياسته المالية غير خراب ميزانية الدولة. كذلك تكونت لديهم صورة ثابتة شوهاء من الصعب تغييرها عن يزيد بن معاوية لمجرد أن جيشه قتل الحسين بن علي وصحبه، غير آخذين في الحسبان كفاءة يزيد الإدارية المتميزة ولا الآثار التي كان لاپبد وأن تعود على الدولة الإسلامية من جراء ثورة الحسين. وهم دائماً منحازون في عواطفهم الى المأمون في حربه ضد الأمين بتأثير القصص التي رواها المؤرخون عن تهتك الأمين في مسلكه الشخصي ووقار مسلك المأمون، من دون أن يلقوا بالاً الى حقيقة نيات أنصار المأمون وهم الفرس الذين ساءهم تغليب الأمين، الخليفة العربي القح، للعنصر العربي عليهم، وأمّلوا أن تكون لهم الهيمنة على مقاليد الحكم بتولية المأمون نصف الفارسي، وهو ما حدث فعلاً. على أي الأحوال، فإن مثل هذه النظرة الى التاريخ وشخصياته التي لا تعرف فاصلاً بين التقوى والسلوك الشخصي وبين اعتبارات السياسة والمصلحة العليا للدولة ومقتضيات الإدارة الحازمة الرشيدة، لا يمكن أن تخدم الفهم السليم لمجريات الأمور والأحداث التاريخية، ولا يمكن أن تتمخض إلا عن تمجيد سطحي لهذا وحط من قدر ذاك، وحنين الى الماضي من الصعب تبريره أو الدفاع عنه. ثم جاء الغزو العثماني للأقطار العربية بما صحبه من موات فكري، فانصرفت غالبية المسلمين عن القراءة إلا في كتب الأدعية والحديث والحكايات الشعبية، وأدارت للمؤلفات التاريخية ظهرها حتى نسيت ماضيها أو كادت. وتلاشى التأثير السيئ الذي كان لهذه المؤلفات في ما يتصل بالنظرة الرومانسية الى الأحداث والشخصيات. وإذ بزغت مع القرن التاسع عشر بوادر نهضة فكرية جديدة كان جرجي زيدان من أبرز حاملي شعلتها، كان المفروض أن يتولى هو وأقرانه مهمة تصويب هذا الخطأ. وكان من السهل عليهم جميعاً - نظرياً على الأقل - أن يغرسوا بكتاباتهم في التاريخ الإسلامي نظرة جديدة الى ذلك التاريخ وأبطاله في أذهان قرائهم الذين باتت غالبيتهم جاهلة كل الجهل به وبهم، بحيث اعتمدوا اعتماداً كلياً على المؤلفين المحدثين في تحصيل معارفهم. غير أن هؤلاء القادة لم يفعلوا وتبنوا النظرة نفسها والقيم والمفاهيم نفسها التي كانت للأسلاف، وكانوا أعجز من أن يطبقوا معايير جديدة مستنيرة في الحكم. وكان جرجي زيدان، في رأيي، أقدر أهل ذلك الجيل على توفير هذه المعايير المستحدثة بدليل ما حفل به كتاباه "تاريخ التمدن الإسلامي" و"تاريخ آداب اللغة العربية" من نظرات صائبة. لكن يبدو أن وقته كان أضيق من أن ينميها ويوفرها في رواياته التاريخية، وأن تأثير روايات والتر سكوت بتصويرها الرومانسي الخالص لأحداث التاريخ الأوروبي كانت عنده فوق كل تأثير. ولقيت روايات زيدان هذه نجاحاً ورواجاً منقطعي النظير لدى جمهور القراء، واستمرت إعادة طبعها لا تنقطع الى يومنا هذا. واطلع هذا الجمهور على أحداث تاريخه في رواياته ربما للمرة الأولى، وتكيفت نظرته وتكوّن حكمه على هذه الأحداث وأبطالها وفق النظرة والحكم الواردين في هذه الروايات. فكان أن كُتبت الحياة من جديد لمعايير القدماء، وهيمنت مقاييس الموتى على الأحياء. لم يعن زيدان إذن في رواياته التاريخية بأن يخرج على الناس بصورة أكثر موضوعية وأوفر أبعاداً لشخصياتها المعروفة لنا. فلو أنه، وهو في سبيل كتابة رواية "الحجاج بن يوسف" مثلاً، راعى أن الكتب التاريخية الإسلامية كافة التي وصلت إلينا إنما كتبت بعد انهيار الدولة الأموية، وفي ظل حكم أعدائها، وأن روايات أهل الشام المناصرين للأمويين أغفلت تماماً من هذه الكتب بحيث كانت الكلمة الأخيرة والحكم النهائي فيها لأعدائهم، ولو أنه كلف نفسه عناء النظر في كتب التاريخ النصرانية، خصوصاً كتاب "الصلة لتاريخ إيزيدور"، التي احتفظت بالمأثور من روايات أهل الشام والتي يظهر الأمويون فيها في ضوء مغاير كل المغايرة لكتب المؤرخين العباسيين، لأحجم في تقويمه للخلفاء الأمويين وولاتهم وعصرهم عن قبول شهادة الأعداء من دون تمحيص وارتياب في البواعث، ولعلم أن شانئيهم من المؤرخين طمسوا معالم الصورة الحقيقية عن عمد وسوء نية، مضخمين لنقائض دولتهم ومقللين من شأن إنجازاتها. ولقي الحجاج بن يوسف بالذات من هؤلاء المؤرخين إجحافاً عظيماً يؤسف له، ولم يعد من السهل الآن تصحيح صورته في أذهان العامة أو حتى المثقفين. وقد صوره زيدان في روايته على أنه حاكم ظالم سفاك للدماء ثقيل الوطأة على رعاياه، في حين صور عدوه عبدالله بن الزبير في صورة الرجل الصالح عظيم التقوى، يقضي لياليه إما قائماً أو راكعاً أو ساجداً الى الصباح، ويصوم الدهر كله إلا ثلاثة أيام يفطرها في كل شهر. أما حقيقة الأمر فهو أن الحجاج كان مسلماً غيوراً، نقي السيرة، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وما ان أخمد الفتن حتى كان همه الأول أن يضمد الجراح التي اصابت رخاء الدولة الإسلامية إثر حروب دامت عشرين عاماً. فإذا هو وقد بات شغله الشاغل بناء المدن وتحسين الزراعة وحفر القنوات الجديدة وإصلاح القنوات القديمة وتعديل نظام الضرائب والنقد والمقاييس واستحداث النظم الإدارية الكفيلة بإرساء دعائم العدل والاستقرار. وقد أبدى في كل ذلك نشاطاً جماً وعزيمة لا تفتر. وكان له - علاوة على كل ذلك - فضل عظيم على اللغة العربية، فهو الذي عمل على إحلالها محل اللغات المحلية في الأقطار المفتوحة، وهو الذي ابتدع في كتابتها النقط والشكل ليحول دون التصحيف ودون اللحن في قراءة القرآن. فأما عن فصاحته فقد ذاع أمرها، وحفظت لنا كتب التاريخ ودواوين الأدب شواهد كثيرة عليها بحيث أضحى بعض خطبه ورسائله وأقواله من مآثر الأدب العربي. وروايات زيدان مليئة بالعيوب التي غفلت عنها غالبية أهل زمانها، والتي لا تخطئها عين القارئ في يومنا هذا ولو كان حدثاً أو محدود الخبرة والدراية. فقد بتنا اليوم أقل سذاجة وأكثر إحاطة بمتطلبات الرواية الجيدة من أجدادنا الذين كان تعرّف معظمهم على الفن الروائي للمرة الأولى من خلال قراءتهم لروايات زيدان. من هذه العيوب ذلك الضعف الملحوظ في رسم الشخصيات، حتى الرئيسية منها، والاعتماد في الحديث عنها على الوصف المباشر لا على إظهار سماتها من خلال التصرفات أو الحديث. وهو تصوير يفتقر الى الفروق الدقيقة وإلى الظلال المتدرجة، وما من لون يستخدم فيه سوى الأسود والأبيض. فالمرء هنا إما شيطان أو ملاك، ونادراً ما يكون بين بين. فإن كان بين بين فهو شخصية باهتة لا حياة فيها. لقد وصفت الشاعرة الاميركية ماريان مور الرواية بأنها "حديقة من نسج الخيال، تسعى فيها حشرات حقيقية". ويكاد عكس هذه المقولة ينطبق على معظم روايات زيدان التاريخية. فهي عادة حدائق حقيقية تسعى فيها حشرات من نسج الخيال! فمؤرخ التمدن الإسلامي أكثر احتفالاً بوقائع التاريخ ومظاهر حضارة الإسلام في حقبه المتتالية منه برسم الشخصيات التي تشغل مسرح رواياته. فإن نحن قارناه بألكسندر ديماس الأب، بل وحتى والتر سكوت والكثيرين غيرهما من أساطين الرواية التاريخية في أدب الغرب، رأينا زيدان أحرصهم على الالتزام بالواقع التاريخي، وأعزفهم عن العبث بهذا الواقع من أجل خدمة القصة التي يروونها. فلقدسية التاريخ عنده المقام الأول، وتكاد تكون القصة بعد ذلك - بعناصرها الغرامية وغير الغرامية - إضافة أقحمها إقحاماً لتشويق القارئ العربي إلى المتابعة، في حين لا يهدف المؤلف إلا إلى تعريف هذا القارئ بماضيه. وبالتالي فإن زيدان لم يفلح قط، في أي من رواياته، في خلق شخصية ترمز في تكاملها وحيويتها الى دارتنيان في "الفرسان الثلاثة" أو فابريزيو في "دير بارم" لستندال، وغالباً ما تصلح العقدة في إحدى رواياته عقدة لغيرها من دون مساس بالغرض، وذلك بالنظر الى افتقار العقدة الى الصلة العضوية بالأحداث التاريخية التي تشكل خلفية لها. وزيدان - على رغم أنه كان دائماً في عجلة من أمره - لا يضن بجهد من أجل البحث والتنقيب في مراجع شتى عن مختلف مظاهر الحضارة الإسلامية وأنماط العيش فيها ووصف القصور أو الآثار الباقية. فمن "صبح الأعشى" للقلقشندي نراه يقتبس وصف هيئة سعاة البريد واللوح النحاسي الذي يعلقونه على صدورهم لإثبات مهمتهم، وعن "كتاب البلدان" لليعقوبي يأخذ وصف مدينة المنصور وقصر باب الذهب، وعن "معجم البلدان" لياقوت وصف القصر المأموني، وعن كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير وصف سفن الأمين، وعن "مروج الذهب" للمسعودي وصف ملابس جواريه، وعن كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الاصفهاني وصف حذاء زبيدة! كل هذا وغيره من شأنه أن يضفي على الرواية جواً من الواقعية والأصالة، وأن يحقق للمؤلف غرضه التثقيفي الذي كان يتوخاه قبل أي غرض آخر. إن أوجه الضعف في روايات زيدان لم تكن نتيجة عجز أو قصور في الموهبة أو العلم، وإنما هي العجلة والإحساس الذي لم يفارقه قط بفداحة المهمة الثقافية التي فرض على نفسه أن يؤديها في مجتمعه العربي المتخلف في بحر سنوات معدودات. وما الحديث عن هذا الضعف إلا كحديث المستهزئ الساخر بطائرة الأخوين أورفيل وويلبور رايت في ضوء ما شهده من طائرات الجامبو والكونكورد: حديث المنكر لفضل الروّاد وعظمتهم، وللصعوبات الفائقة التي واجهوها إذ يشقون طريقاً لم يسلكه أحد من قبلهم قط. غير أني أبادر فأنفي أن يكون قصدي من هذا القول الإيحاء بأن رواياته كانت مجرد فتح رائع رائد يُشكر الرجل عليه، ولكنها ليست اليوم أهلاً لأن يوليها أحد اهتماماً. فالروايات على عيوبها الخطيرة، مادة جيدة، وعنصر التشويق فيها من القوة بحيث لا يمكن للملل أن يتطرق الى نفس قارئها صبياً كان أو كهلاً. وفي اعتقادي ان أبصرت عين بمواطن الضعف فيها لاپبد ستضطر اضطراراً الى التغاضي عنها تغاضي المحب عن نقائص معشوقه إزاء ما يلمسه فيها من إخلاص وجدية وسلاسة وعرض جذاب، وإزاء روح المؤلف التي تطالعنا دائماً من وراء صفحاتها وهي الجديرة حقاً بكل ودّ وتقدير. إن روايات زيدان لا تزال الى يومنا هذا من خيرة ما يمكن أن يقدم لشبابنا العربي من كتب، كتب تزيد من علمه، وتقوّم من لغته، وتبصّره بتاريخه، وتوفر له - في الوقت نفسه - وجهاً من وجوه التسلية جدّ رفيع. * كاتب مصري.