عندما توفي جرجي زيدان في العام 1914، لم يكن ليعلم ان الحرب التي كانت قد بدأت لتوها، سوف تؤدي الى انفراط عقد الامبراطورية العثمانية. اما العرب الذين آمن برسالتهم وبمستقبلهم وبلغتهم وآدابهم وتاريخهم، فانه لم يكن يدري ان خيباتهم ستكون ثقيلة الوطأة بعد ان أملوا، في البداية، خيراً من انفصالهم عن الامبراطورية. كان جرجي زيدان، وعلى الأقل منذ وصل الى مصر، وطنه الثاني بعد وطنه الأول لبنان، رجل نهضة حقيقياً، وكانت نزعته النهضوية ذات اتجاهين كان يراهما متلازمين: اتجاه تطويري يسعى الى استعادة العرب لمجدهم القديم من دون تنكرهم لاسلامهم المتجمع من حول الامبراطورية العثمانية. ولقد كان جرجي زيدان كاتباً عمومياً. كان كل ما كتبه رسالة ودرساً ونوعاً من استنهاض الهمم. ولئن كانت روايات تاريخ الاسلام، هي الأشهر بين نتاجات جرجي زيدان، فانه ترك لنا ايضاً العديد من الكتب في اللغة، كما في الفكر والتاريخ. ومن بينها "تاريخ التمدن الاسلامي" و"العرب قبل الاسلام" و"تاريخ آداب اللغة العربية" و"تاريخ اللغة العربية باعتبارها كائناً حياً" و"تراجم مشاهير الشرق". غير ان العمل الأهم بين نتاجات جرجي زيدان يبقى مجلة "الهلال" التي احتفلت قبل ثلاثة اعوام بالذكرى المئوية الاولى لصدور عددها الاول. والغريب ان لا شيء في طفولة وصبا جرجي زيدان كان يشير الى ان الرجل سوف يكون يوماً، من اساطين الفكر النهضوي العربي، ورائداً في القصة كما في الصحافة كما في الدراسات اللغوية. فجرجي زيدان ولد في قرية "عين عنوب" بالجبل اللبناني لأسرة تعود جذورها الى منطقة حوران في الجنوب السوري. ولقد اضطرت اسرته للانتقال الى بيروت، وهو بعد صبي، طلباً للرزق. وعلى عكس ما كان أبوه قد قرر له، حيث كان يريده ان يصبح اسكافياً، كان جرجي في العشرين من عمره حين توجه لدراسة الطب، بعد دراسته اللغة الانكليزية فانتسب الى الكلية الاميركانية، لكنه بدلاً من ان يمضي اربعة اعوام في دراسته اضطر لمغادرة الكلية بعد عامين مفصولاً إثر اضراب طالبي سببته محاضرة لاستاذ حول نظرية داروين في النشوء والارتقاء. وفي العام 1883 سافر جرجي زيدان الى القاهرة ليكمل دراسته في القصر العيني ولكن "كان الأمر صعباً من كل جهة، خاصة الجهة المادية". كما قال في مذكراته، "فانصرفت الى الصحافة. وكان عملي الأول في جريدة "الزمان" التي كانت الوحيدة الصادرة في القاهرة في ذلك الحين، لأن الاحتلال الانكليزي الوافد حديثاً إثر الثورة العرابية كان قد عطل كافة الصحف الاخرى". بعد ذلك اتجه زيدان الى السودان مترجماً في ركاب الحملة البريطانية، وبعد عودته من هناك توجه الى بيروت حيث مكث اشهراً درس خلالها عدداً من اللغات الشرقية ومن بينها العبرية والسريانية، ووضع على اثر ذلك واحداً من اول كتبه حول الالفاظ العربية والفلسفة اللغوية. وكانت اهتماماته الأدبية قد بدأت في ذلك الحين تنمو وتتطور. وهو بعد ان مكث فترة في لندن عاد الى مصر حيث عمل في مجلة "المقتطف" التي تركها في العام 1888 لينصرف الى الكتابة والتأليف حتى كان العام 1892 الذي شهد من جهة صدور اولى رواياته التاريخية "المملوك الشارد"، ومن جهة ثانية اصداره العدد الأول من مجلة "الهلال". في كل ما انتجه جرجي زيدان، كما اشرنا، كان يخدم غرضاً له علاقة مباشرة بيقظة العرب، على حد تعبير مترجم سيرته الاميركي توماس فيليب الذي يقول ان زيدان قد جاء في مرحلة يقظة العرب عند اواخر القرن التاسع عشر، فكان احد ابرز المساهمين والمشاركين في تلك اللحظة. ولعل ابرز مسألتين خاض فيهما زيدان ووقف عليهما انتاجه، مسألة التأقلم العربي مع الحياة العصرية الجديدة التي بدأت اوروبا تدخلها الى العالم العربي. ومن الواضح ان زيدان كان يرى بأن النهضة العربية، في تطورها الفعال وصولاً الى الاستقلال العربي، تستدعي الابقاء على الامبراطورية العثمانية، بدلاً من تعريض العرب لصدمة الالتقاء السياسي والعسكري بأوروبا، في وقت كانوا فيه لا يزالون غير معدين لتلقي تلك الصدمة بما يكفل استفادتهم منها مع ابقائهم على هويتهم في الوقت نفسه. وهذه النظرة هي التي تفسر لنا موقفه الايجابي من السلطنة العثمانية.