«ولما كنا في حيفا الصيف الماضي كان هذا الغور معروضاً للبيع وقد احتج أعيان الوطنيين على الحكومة لما بلغهم عزمُها على بيعه لبعض الأجانب أو اليهود فتوقفت الحكومة عن بيعه مؤقتاً وشاهدنا في يافا مستعمرة إسرائيلية اسمها تل أبيب شادتها شركة يهودية لسكنى اليهود». هكذا تحدث جرجي زيدان، ويمكن تلخيص حياته بالقول انه ذلك الرجل المسيحي الديانة الإسلامي الثقافة والذي استطاع من خلال رواياته أن يقدم التاريخ الإسلامي بسهولة ويسر، وأن يضع يده على عناصر التسامح والعقلانية في التاريخ الإسلامي، فكان بذلك جسراً في التواصل الحميد بين الشرق والغرب. وإذا كان التاريخ الإسلامي يعد المصدر الأول للرواية التاريخية الإسلامية والذي لجأ إليه الكتاب، يستقون من منبعه روافد أعمالهم القصصية والأدبية، فإن في مقدم هؤلاء يأتي زيدان، ذلك أنه من أوائل من كتبوا روايات تاريخية مستمدة في إطارها العام من التاريخ الإسلامي، بل إن كثيراً من النقاد يعدونه رائداً للقصة الإسلامية التاريخية في عالمنا العربي. لم ينتظم الكاتب في السلك الدراسي المدرسي، غير أنه لم يكن بعيداً من القراءة والاطلاع بنهم وشغف، إذ كان يبدي ميلاً قوياً منذ حداثته الى المعرفة، وشغفاً بالأدب على وجه الخصوص، وازدادت تطلعاته المعرفية بمصاحبته رجالاً من أمثال يعقوب صروف وفارس نمر وسليم البستاني، وغيرهم ممن كانوا يدعونه للمشاركة في احتفالات الكلية الأميركية في بيروت، فهفّت نفسه على الالتحاق بها مهما كلفه الأمر أو بذل من مشقة وجهد، وإذ به يترك العمل نهائياً، ليلتحق بكلية الطب والتي كانت تسمى مدرسة الطب في ذلك الوقت ثم يهجرها الى مدرسة الصيدلة ولاحقاً يغادر إلى القاهرة على أمل استكمال دراسة الطب، غير أن القدر كان يعد له طريقاً مغايراً عما رسمه لنفسه، وليجد نفسه محرراً في صحيفة «الزمان» اليومية التي كان يملكها ويديرها رجل أرمني الأصل يدعى علكسان صرافيان. كان ذلك في العام 1883. وبين هذا التاريخ والعام 1892موعد إصدار جرجي زيدان العدد الأول من مجلة «الهلال» تنقل بين وظائف عدة فعمل مترجماً للحملة الانكليزية في السودان ومديراً لمجلة «المقتطف» ومدرساً للغة العربية، ومع العدد الأول من المجلة الذي صدر في ربيع أول 1310ه 1892م كانت بداية النهضة والانطلاق لواحدة من أعرق دور النشر في مصر: «دار الهلال»، وبداية المسيرة التاريخية لرجل الرواية التاريخية الإسلامية. عمد زيدان لأن تكون «الهلال» مجلة علمية تاريخية صحافية أدبية وقد وجدت قبولاً طيباً في الحياة المصرية، ذلك أنه لم تمض سوى بضع سنوات حتى كانت أوسع المجلات انتشاراً وها هي اليوم ناهزت المئة عام، ووجد عمالقة الأدب والفكر في مصر والعالم العربي طريقهم إليها ينشرون ما يكتبون ويقولون ما يعتقدون، وكان زيدان نفسه ينشر كتبه على هيئة فصول في هذه المجلة والتي عاونه على إصدارها ابنه إميل زيدان بعدما شبّ عن الطوق، ويمكننا تقسيم كتب زيدان منذ بدأ رحلته مع التأليف عام 1889 إلى ثلاثة أقسام: تاريخية ولغوية وأدبية. أما عن التاريخ فكتب «مصر العثمانية» و «التمدن الإسلامي» و «تاريخ مصر الحديث» و «تاريخ العرب قبل الإسلام». كما ألّف: «تاريخ الماسونية» و «رحلة جرجي زيدان إلى أوروبا» وكتب كتاباً مهماً في إطار الروح الكونية سماه «التاريخ العام منذ الخليقة إلى الآن». وإضافة إلى هذه الكتب ذات العلاقة بالمنطقة العربية والإسلامية، وضع: «تاريخ انكلترا منذ نشأتها إلى هذه الأيام» و «تاريخ اليونان والرومان». وفي ما يخص اللغة العربية وآدابها كتب: «تاريخ آداب اللغة العربية» و «تاريخ اللغة العربية» و «أنساب العرب القدماء» و «الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية» و «مختارات جرجي زيدان في فلسفة الاجتماع والعمران». ومن الروايات ذات الصلة بالتاريخ العربي والإسلامي، وهو المجال الذي أبدع ولعب فيه دور الجسر بين المسيحية والاسلام، رواية: «أرمانوسة المصرية» و «فتاة غسان» و «عذراء قريش» و «السابع عشر من رمضان»، إضافة إلى روايات: «غادة كربلاء» و «الحجاج بن يوسف وفتح الاندلس» و «شارل وعبدالرحمن». وأبدع زيدان على وجه الخصوص في روايات: «ابو مسلم الخراساني»، و «العباسة أخت الرشيد» و «الأمين والمأمون» و «عروس فرغانة و «أحمد بن طولون». كما أفرد أوراقه لشخصيات يذخر بها التاريخ العربي مثل صلاح الدين الايوبي والذي قدم له في رواية «صلاح الدين ومكائد الحشاشين»، إضافة إلى الرواية الشهيرة «شجرة الدر». والحق أن زيدان بذل جهداً كبيراً في ما كتب وصدق مع نفسه وقلبه فعرض التاريخ الإسلامي في أبهى صوره لا سيما في المواقع والمواضع التي تجلت فيها روح الإسلام والمسلمين السمحة، فعلى سبيل المثال في روايته «غادة كربلاء» يقوم برسم صورة مشرقة للكنائس والأديرة حيث نجدها دائماً مكاناً للأمن والطمأنينة. والمؤكد أن كتاباته تعد من قبيل الشهادة غير المجروحة للتاريخ الإسلامي وهو ما يجعله واحداً من أصحاب الجسور. وعلى سبيل المثال، فإن كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي» الذي أصدره في خمسة أجزاء في الفترة الممتدة من 1902 حتى 1906 يعد ثورة في التاريخ الإسلامي الحديث ومن أهم مصنفاته. وأفاد الرجل من قراءاته ودراساته في المؤلفات الغربية ومناهج التأليف في التاريخ والحضارة، فضلاً عن مطالعاته الواسعة في المصادر العربية، وكان من يكتبون تاريخ الإسلام ينهجون نهج رواة المسلمين القدامى مع شيء من التحسين، مثلما هو الحال في كتابات الشيخ محمد الحضرمي، ولم تكن لهم صلة بعالم الاستشراق أو وقوف على المناهج الحديثة. وكان أن أحدث الكتاب عند ظهوره جدلاً إيجابياً واسعاً وأقبل عليه الناس، ما دعا الجامعة المصرية في ذلك الوقت للتنبه الى مكانة زيدان وسعة علمه فدعته إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات في التاريخ الإسلامي وقد ترجم الكتاب إلى لغات شرقية عدة، كما ترجم المستشرق الإنكليزي مارجوليوث الجزء الرابع منه إلى الإنكليزية وعده عملاً أصيلاً غير مسبوق. والشاهد انه إذا كانت قضية فلسطين هي محور النزاع العربي - الإسرائيلي، وحجر الرحى منه، فقد كان زيدان من أوائل الذين وضعوا إصبعهم على الجرح، وشخّص كالطبيب النطاسي حالة الصهيونية في الأراضي الفلسطينية مبكراً جداً وقبل أي التفات من العرب وهو ما لم يحدث بالفعل حتى وقوع حادث البراق في العام 1929. كان زيدان قد قام برحلة إلى فلسطين قبل وفاته عام 1914 حيث زارها في صيف 1913 وقدم تغطية موسعة وموثقة لهذه الرحلة على صفحات مجلة «الهلال»، ابتداء من عدد كانون الأول (ديسمبر) 1913 حتى أيار (مايو) من العام التالي، ومهد لهذه التغطية بدراسة تاريخية عن فلسطين في عدد تشرين الأول (أكتوبر) 1913 ودراسة أخرى عن الصهيونية وتاريخها وأعمالها في عدد تشرين الثاني (نوفمبر) 1913 بدأها بالقول: «إن الصهيونية دعوة اجتماعية سياسية انتشرت في الأمة الإسرائيلية أواخر القرن الماضي، وكثر تحدث الناس فيها في الأعوام الأخيرة وقد همنا أمرها على الخصوص في أثناء رحلتنا بفلسطين». وأحسب أن زيدان كان من أوائل الأصوات الصارخة في براري العرب منذراً ومحذراً من أن غرض الصهيونية هو جمع الشعب الإسرائيلي في فلسطين وجعلها وطنا خاصاً به، ويكمل بالقول ان هذه الدعوة مبنية من الوجهة الدينية على آيات جاءت في سفر أرميا وهو أحد أسفار التوراة أو العهد القديم كما يطلق عليه. كان الكاتب ممن حملوا الراية الحمراء للتنبؤ بمأساة بيع الأراضي الفلسطينية لكن ألوان رايته الزاهية لم تلفت نظر الحكام والحكومات العربية في ذلك الوقت إما عن جهل أو عن فساد أو بسبب الأمرين معاً. ويحكي زيدان على صفحات «الهلال» هذه الواقعة إذ يقول: «ولما كنا في حيفا بالصيف الماضي كان هذا الغور معروضاً للبيع وقد احتج أعيان الوطنيين على الحكومة لما بلغهم عزمها على بيعه لبعض الأجانب أو اليهود فتوقفت الحكومة عن بيعه موقتاً». وتقودنا كتابات زيدان إلى القول ان أهالي المنطقة أو من يسميهم الوطنيين كانوا متنبهين إلى مخاطر إقدام اليهود على شراء الأراضي لكن أحداً من المسؤولين لم يتخذ الاجراءات الكافية فيقول: «ورغم احتجاج المسلمين والمسيحيين وغيرهم من الوطنيين على بيع الأرض لليهود، فإنهم يبتاعونها ويصلحونها ويغرسونها أو يبنونها ويعولون في استعمارها على أحدث الطرق الفنية من حيث الغرس وتشييد المنازل أو تنظيم الشوارع». وفي قراءته للمشهد اليهودي الناشئ تحذير مسبق من المشروع الذي جاء به المحتل، والذي استند إلى خبرات العالم الأوروبي الحديث فيما كانت الامبراطورية العثمانية تجثم على صدر العالم العربي جهلاً وفقراً وبؤساً. ونجده يصف ما شاهده فيقول: «شاهدنا في يافا محلة أو مستعمرة إسرائيلية اسمها «تل أبيب» أدهشنا ما رأيناه فيها من نظام الشوارع وإتقان البيوت في بنائها على الطراز الصحي». ويقدم وصفاً لتل أبيب.. شوارعها وبيوتها وأشجارها ثم يذكر: «وقد شادت هذه المحلة شركة يهودية لسكن اليهود وهي تؤجرهم إياها بطريقة الاستهلاك بشروط سهلة بحيث يصبح المنزل لساكنه بعد مدة غير طويلة». لكن أحداً في ذلك الوقت لم يأخذ تحذيرات زيدان مأخذ الجد ونظر إليه البعض «نظرة ملؤها الارتياب والشك بسبب هويته الدينية»، لكن قسماً أكبر في السنوات الأخيرة أرجع للرجل حقه وفضله، ففي أواخر كانون الاول (ديسمبر) من عام 2004 صرح محمد الشافعي رئيس تحرير «دار الهلال» في القاهرة بأن الدار ستعيد إصدار روايات تاريخ الإسلام والتي كتبها الأديب والمؤرخ اللبناني في محاولة منه لمواجهة ما وصفه بالتشويه المتعمد للتاريخ العربي. وأضاف الشافعي أن أعمال زيدان تتضمن إجابات عن كثير من الأسئلة المهمة التي تواجه العرب والمسلمين في الوقت الراهن الذي يتهمنا الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة بالإرهاب والتطرف، في حين أكد زيدان المسيحي المستنير في رواياته مدى تسامح الحضارة الإسلامية. وما لا شك فيه أن الحديث عن زيدان من منطلق هويته الدينية إنما يقودنا الى الحديث عن دور المسيحيين العرب في شكل أوسع كجسر وقنطرة مع العالم الغربي، ذلك أنه إذا كانت هويتهم الدينية تشارك نظيرتها في الغرب، فإن جذورهم وثقافاتهم وأنماطهم الحياتية هي مشرقية الهوى والهوية، بل إن هويتهم الشرقية هذه مستمدة من الحضور المسيحي المشرقي في العالم، والذي بدأ بميلاد السيد المسيح في أرض فلسطين قبل ألفي عام وحضورهم هو امتداد لحضور المسيح في المشرق ومنه حمل المسيحيون الأوائل رسالة المسيح والمسيحية إلى العالم أجمع، واليوم يبدو المشهد في حال مشابهة إذ تعلق في أعناقهم مسؤولية الدفاع عن شركاء الوطن إخوانهم في المبنى والمعنى، وقد قال الكثيرون منهم، اننا مسيحيو الديانة ومسلمو الثقافة، والتعبير هنا للسياسي المصري والقطب الوفدي الكبير مكرم عبيد باشا رحمه الله. والمقطوع به أن الدور الذي قام ويقوم به المسيحيون العرب يمتد في تاريخ العرب الحديث ولا سيما مع ظهور القومية العربية. وقد أثار هذا الدور الوطني للمسيحيين العرب الممثلين الأجانب فبادلوا أهالي المشرق من المسيحيين عداءً واضحاً صريحاً غير مريح، وهو ما يمكن تبينه بسهولة في الجزء الثاني من كتاب اللورد كرومر معتمد بريطانيا في مصر الحديثة، والذي خصص فيه 14 صفحة كاملة عن الأقباط، رماهم فيه بكل مذمة، فهو يرى أن مسيحيتهم محافظة شأنهم في ذلك شأن إسلام المسلمين من مواطنيهم على عكس المسيحية الغربية المرنة والتقدمية (كذا)، وأن الأقباط أحاطوا أنفسهم بالحواجز المانعة للتقدم شأن المسلمين، وقد استعان للتدليل على صحة ما ذهب إليه بكتابات الرحالة المشهور إدوارد لين وبتقارير القنصل البريطاني جون بورنج ويختتم حديثه بالاعتراف بأن الإنكليز وجدوا الأقباط معادين للاحتلال على وجه العموم منذ اليوم الأول الذي نزلوا فيه إلى البلاد. والواقع هو أن قافلة المسيحيين العرب لعبت دوراً فاعلاً ومؤثراً في إطار الاعتزاز بالقومية العربية في شكل واسع وبالمواطنة في صورتها الأصغر. ولعل السنوات التي قضيتها ما بين أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية قد دلتني إلى أي حد يمكن هؤلاء أن يلعبوا دوراً فائق الأهمية، ذلك أن التساؤل الذي كثيراً ما واجهته «أأنت مسيحي ومن بلاد عربية هي مصر؟ وكيف تعاملون هناك...؟ إلى آخر منظومة الأسئلة التي ينم بعضها عن جهل واضح والبعض الآخر يصب في مصلحة العمل السري الذي يحاول اختراق الكثير من هؤلاء، واستخدامهم كمخلب قط لتحقيق أهداف كولونيالية لا تخفى على أحد. ويبقى الرهان على إكمال مسيرة أسماء من عينة مكرم عبيد وميشال عفلق ونجيب الريحاني وجورج حبش ونايف حواتمة وجرجي زيدان، هو الأصل وما عدا ذلك يصبح استثناء. والمعروف أيضاً أن دولاً بعينها كلبنان ومصر قدمت عائلات مسيحية مرموقة قادت نهضة عربية لا شك فيها ولا غبار عليها ولعبت دوراً فاعلاً في الترجمة ونقل الخبرات وفتحت طريق التنوير واسعاً، ومن هذه العائلات: اليازجي ومعلوف والبستاني وتقلا، فضلاً عن عشرات الأسماء اللامعة في سماء التاريخ العربي بدءاً من جبران خليل جبران مروراً بميخائيل نعيمة وسلامة موسى وخليل مطران ولويس عوض وإدوارد سعيد وغيرهم من الرموز التي تمثل قوافل من المسيحيين العرب على مختلف طوائفهم ممن شاركوا بإيجابية في الحياة السياسية والثقافية للأمة العربية وانصهروا فيها وناضلوا من أجلها حتى أصبحنا أمام حقيقة يجب أن نعترف بها وأن نعيد حساباتنا العصرية على أساسها. * كاتب مصري