بدأ السباق لمعركة الانتخابات الرئاسية الجزائرية المقررة مطلع سنة 2004 مبكراً مع احتدام المواجهة بين حزب الغالبية البرلمانية "جبهة التحرير الوطني" بزعامة رئيس الحكومة السابق علي بن فليس ومؤيدي الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي يطمح للترشح لولاية رئاسية ثانية. وإذا كان بن فليس لم يعلن ترشحه رسمياً، إلا أنه ترك المجال واسعاً لهذا التوجه مع إعلان الجبهة في 22 أيار مايو الماضي في تجمع عقد في مدينة سيدي بلعباس 400 كلم غرب تزكية ترشحه للاستحقاقات الرئاسية المقبلة. وتحمل هذه التزكية بعداً رمزياً واضحاً إذ أن بن فليس من ولاية باتنة 400 كلم شرق وإعلان دعمه جاء من ولايات الغرب الجزائري التي تشمل ولاية تلمسان على الحدود مع المغرب وتعتبر معقل الرئيس بوتفليقة. وبدأت معركة الانتخابات الرئاسية مع إعلان بن فليس بصفته أميناً عاماً ل"جبهة التحرير الوطني" في نهاية كانون الثاني يناير الماضي أن مؤتمر الحزب لن يبحث في ملف الاستحقاقات الرئاسية، وهو التوجه الذي أكده المؤتمر الثامن في آذار مارس، إذ فشل مؤيدو الرئيس في تمرير عريضة تزكي ترشحه للاستحقاقات المقبلة وفي الحصول على عضوية اللجنة المركزية التي تعد أعلى هيئة قرار بين مؤتمرين. وتقرر عقد مؤتمر استثنائي للحسم في موضوع الانتخابات يعتقد أنه سيلتئم قبل نهاية أيلول سبتمبر المقبل. وعلى رغم أن تعيين بوتفليقة أحمد أويحيى الأمين العام ل"التجمع الوطني الديموقراطي" رئيساً للحكومة جاء انتقاماً من تخلي بن فليس عنه، إلا أن أويحيى امتنع في المؤتمر الذي عقده التجمع أخيراً عن ترشيح بوتفليقة لولاية جديدة. وتؤكد مصادر حزبية أن كلاً من "حركة مجتمع السلم" و"حركة النهضة" لا تنوي تجديد الائتلاف الذي تشكل مطلع 1999 بين هذه الأحزاب الأربعة لدعم ترشيح بوتفليقة، "رجل الإجماع" الذي بات يواجه شبه إجماع على رحيله. كما أن المنظمات الأساسية مثل "منظمة أبناء الشهداء" و"أبناء المجاهدين" التزمت الصمت ورفضت إعلان ولائها أو دعمه للتجديد للرئيس، وأعلن "الاتحاد العام للعمال الجزائريين" وهو أهم تنظيم نقابي في البلاد تأييده لبن فليس خلال المؤتمر الأخير ل"جبهة التحرير"، ما أثار غضب المحيطين برئيس الجمهورية، وأمر بوتفليقة أخيراً بصرف مبالغ مالية مهمة لبعض التنظيمات القريبة منه لكسب دعمها لترشيحه مثل "الكشافة الإسلامية" وعشرات النوادي الرياضية التي تلقت مساعدات مالية كبيرة من شركة النفط الحكومية "سوناطراك" بأمر مباشر من رئيس الجمهورية. وثمة معطيات سياسية واقتصادية أسهمت في شكل كبير في التعجيل في كشف دلائل سقوط الدعم الذي كان يحظى به الرئيس. وربما كان سقوط "إمبراطورية الخليفة" والملاحقات القضائية ضد بعض المصارف الخاصة وكبار رجال الأعمال أبرز معالمها. والواقع أن الحرب التي بدأت بين بوتفليقة وبن فليس أخذت بعداً آخر عندما خرج رئيس الحكومة المقال عن صمته واتهم مسؤولاً في رئاسة الجمهورية بمساومته على البقاء في منصبه في مقابل إعلان دعم "جبهة التحرير" ترشح الرئيس لولاية جديدة. ولم تشهد هذه المواجهة المحتدمة هدوءاً حتى في أصعب الأوقات التي مرت بها الجزائر أخيراً. إذ عمد وزير الداخلية يزيد زرهوني، في خضم كارثة الزلزال العنيف الذي هز ولايات وسط البلاد وأدى إلى خسائر جسيمة، إلى اتخاذ قرار مثير أبعد بموجبه ناخبي الأحزاب السياسية وعلى رأسهم ممثلو "جبهة التحرير" الذين يحوزون الغالبية في المناطق المنكوبة وأحلّ مكانهم نحو 450 إدارياً جيء بهم من الولايات الداخلية بهدف "تجنب استغلال عمليات التكفل بالمنكوبين لتحقيق مكاسب سياسية جديدة"، بحسب وزير الداخلية. لكن بن فليس نجح على ما يبدو في إدارة الجبهة الداخلية في حزب الغالبية البرلمانية الذي يقوده عندما نظم سلسلة من التجمعات لأكثر من 7000 ناخب يمثلون مختلف الولايات لشرح ظروف تنحيته والتوجه الجديد للجبهة في المشهد السياسي المستقبلي. ومع بروز مؤشرات الطلاق بين الرجلين عمد محيط رئيس الجمهورية إلى استعمال القوة كاستراتيجية أساسية من خلال احتلال مقرات الحزب في الولايات والبلديات وإصدار سلسلة من البيانات التي تدين قيادة الحزب، وهي العملية التي أشرف على تنظيمها قريبون من الرئيس بدعم من شخصيات مؤيدة له داخل "جبهة التحرير" مثل عما تو رئيس سلطة الضبط في قطاع البريد والاتصالات والسعيد بوحجة وعبد القادر حجار وهم من منطقة الغرب الجزائري وموجودون حالياً خارج الهياكل الأساسية للحزب. كما يساعد هؤلاء وزراء ومستشارون غالبيتهم من ولاية واحدة هي تلمسان على الحدود مع المغرب وتطلق عليهم عبارة "جماعة وجدة"، ما يعني أن ورقة الجهوية ستكون أيضاً معطًى في المعركة الرئاسية المقبلة. أدوات الصراع ربما أسهم دور الجيش في الاستحقاقات الرئاسية التي جرت عام 1999 في تغيير أدوات الصراع مع انسحابه من اللعبة السياسية منذ وصول بوتفليقة إلى الحكم. ونقلت الصحافة المحلية مرات عدة عن مصادر "مؤكدة" أن قائد أركان الجيش الفريق محمد العماري رفض مرات عدة التدخل لحل خلافات سياسية بين بوتفليقة وبن فليس، كما رفض لعب أي دور سياسي في منطقة القبائل "احتراماً للمسؤوليات الدستورية لكل هيئة وطنية". لكن البارز في مواقف المؤسسة العسكرية هي التصريحات التي أدلى بها العماري في كانون الأول ديسمبر الماضي لمجلة "لوبوان" وأكد فيها أن الجيش "مستعد لأن يعمل تحت نظام يقوده مرشح إسلامي"، وهي إشارة فسرها سياسيون بأنها تعني شيئاً واحداً وهو أن "الجيش لا ينوي تقديم صك على بياض للرئيس بوتفليقة"، فيما رأت فيها الأوساط الإعلامية إعلاناً بأن "الجيش رفع الدعم عن بوتفليقة". ويجدر التذكير هنا أن علاقة الرئيس بقادة المؤسسة العسكرية شهدت في الأعوام الأخيرة سلسلة من التوترات بدأت مبكراً في تشرين الأول أكتوبر 1999 عندما طلب بوتفليقة صراحة من الشعب مساعدته في التخلص من بارونات التجارة الخارجية وهم كما أوضح 15 جنرالاً "تحسبونهم أسوداً لكنهم في الواقع مجرد قطط"، فضلاً عن وصفه وقف المسار الانتخابي عام 1992 بأنه "عنف غير مقبول" وإعلانه بأنه لا يتحمل التجاوزات التي قام بها الجيش في مجال حقوق الإنسان خلال إدارته الحرب ضد الجماعات الإسلامية المسلحة. وتشير تقارير إعلامية واردة من الولايات إلى أن الرئيس عوّض عن دور الجيش بجهازين ينوي استعمالهما لتحقيق طموحه في الحصول على تزكية شعبية واسعة، هما الإدارة وجهاز الأمن الوطني التابعين لوزارة الداخلية بقيادة العقيد يزيد زرهوني، وهو أحد قدامى جهاز الاستخبارات العسكرية في السبعينات ومحل رفض واسع في مؤسسة الجيش بسبب سوابق مهنية. وكانت الإدارة اعتادت على تزوير العملية الانتخابية كما حدث في الانتخابات التشريعية والمحلية عام 1997 التي فاز بغالبية مقاعدها "التجمع الوطني الديموقراطي" وكانت محل إدانة لجنة برلمانية تولت التحقيق في الموضوع. غير أن ثمة معطيات جديدة برزت في المشهد السياسي في الأشهر الماضية قد تضعف إلى حد بعيد دور هذا الجهاز في تحقيق النسب نفسها من التزوير في الاستحقاقات المقبلة. إذ إن غالبية المجالس الشعبية البلدية والولائية يقودها منتخبون عن جبهة التحرير الوطني وهم يتولون، بحسب قانون الانتخابات، تحرير محاضر فرز الأصوات ومتابعتها. أما المعطى الثاني فهو أن تجربة التزوير وفّرت للأحزاب السياسية وممثليها في الولايات في الأعوام الأخيرة "خبرة ميدانية" وثقافة مهمة في الميدان، ما يقلص من هامش المناورة الذي كان يحوزه ممثلو الإدارة في السابق. ولم يبقَ للرئيس في الوقت الراهن إلا الاعتماد على جهاز الاستخبارات العامة الاستعلامات العامة التابع للمديرية العامة للأمن الوطني هيئة تحت وصاية وزارة الداخلية للتضييق على "جبهة التحرير الوطني" ومرشحها بن فليس. ونشرت صحف محلية أخيراً أن عميد شرطة يتولى منصب رئيس أمن ولاية سيدي بلعباس 450 كلم غرب قرر فتح ملف عضو في قيادة جبهة التحرير الوطني ورئيس بلدية يدعى عزي بن ثابت بسبب دعمه ترشح بن فليس. دور الخارج حرص الرئيس الجزائري منذ توليه الحكم في نيسان أبريل 1999 على صيانة صورته الشخصية بالموازاة مع سعيه إلى رفع الحصار الذي كان مفروضاً على الجزائر خلال العقد الأخير. وهو لهذه الغاية زار أكثر من 90 دولة في أكثر من 169 رحلة خارجية. واعترف قريبون من الرئيس الجزائري أن هذه الزيارات لم تفض بعد إلى تحقيق رغبته في الحصول على دعم كل من واشنطن وباريس لإعادة ترشحه. وتناوب على تنفيذ هذه "المهمة الخاصة" في الخارج كل من وزير الطاقة والمناجم الجزائري شكيب خليل وسفير الجزائر في واشنطن إدريس الجزائري. وبررت الأطراف الخارجية في اللقاءات المتعددة التي جرت منذ الخريف الماضي امتناعها عن إعلان دعمها لبوتفليقة إلى رغبتها في رؤية "انتخابات حرة ديموقراطية تكون فيها السلطة لمن يكون له تمثيل وقاعدة انتخابية واسعة". ملفات المعركة ويعتقد الكثر من السياسيين أن المعركة الرئاسية المقبلة ستحمل اهتمامات السكان كأولوية من خلال رفع برامج تشمل تلبية الحاجات الأساسية وتحسين الحياة الاجتماعية. وإذا كان بوتفليقة دخل معركة الرئاسة عام 1999 بمشروعي "العزة والكرامة" و"الوئام المدني" الذي أكسبه تأييد تيار واسع من الإسلاميين بعد عودة أكثر من ستة آلاف عنصر إلى ذويهم، فإن عجزه عن الارتقاء بمشروع الوئام إلى مصالحة وطنية فعلية أفقده هذا الدعم في شهور قليلة، خصوصاً أن أنصار جبهة الإنقاذ المحظورة كانوا يراهنون على إطلاق زعيمي الحزب عباسي مدني وعلي بن حاج في أشهر من توليه الحكم. وفي مقابل ذلك، عمّق تفجر الأوضاع في منطقة القبائل وعجز بوتفليقة عن إيجاد حل نهائي لهذه الأزمة الدامية، القطيعة التي كانت بدأت بين الرئيس وسكان منطقة القبائل خلال الحملة الانتخابية، عندما رشقه متطرفون بالحجارة أثناء تجمع انتخابي. ويشير عجز الحكومة حتى اليوم عن تنظيم الانتخابات المحلية الجزئية في غالبية بلديات منطقة القبائل إلى وجود حال من الطلاق مع السلطة السياسية ورموزها وعلى رأسهم وزير الداخلية الذي حمّله رئيس الحكومة مسؤولية إدارة عمليات مكافحة الشغب في المنطقة والتي خلفت 116 قتيلاً وإصابة أكثر من خمسة آلاف بجروح في مواجهات دخلت عامها الثالث. وبالمثل، فإن جمود برامج الخصخصة وعدم توافر شروط النمو الاقتصادي وتأمين فرص عمل جديدة للشباب كلها عوامل ستلقي بثقلها على الانتخابات المقبلة، وخصوصاً على رئيس الجمهورية الذي سيجد نفسه أمام أسئلة كبيرة يتوجب عليه تقديم أجوبة عنها خصوصاً أن سلسلة أعمال الشغب والتخريب التي طاولت أكثر من 40 ولاية عام 2001 بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية مرشحة للعودة مجدداً في أي لحظة. ويعتقد خصوم الرئيس الجزائري أن تعرض موكبه الرئاسي إلى الرشق بالحجارة في ثلاث مناسبات في أقل من عامين كان آخرها في بومرداس الشهر الماضي، مؤشرات كافية على حال التذمر من أداء بوتفليقة والمحيطين به من وزراء ومستشارين رهنوا العمل الحكومي في تصفية الخلافات الشخصية مع أطراف في الحكم والمعارضة. مستقبل مفتوح ويؤكد قريبون من الرئيس الجزائري أن تأخر إعلان مختلف القوى السياسية أو المنظمات النقابية أو الجماهيرية دعمها لترشحه لولاية رئاسية ثانية من شأنه أن يدفعه إلى التخلي عن طموحه في إعادة الترشح. ونقلت صحف محلية أخيراً عن قريبين من بوتفليقة تأكيده في لقاءات خاصة أنه لا ينوي الترشح ما لم يكن في حوزته تأييد الأحزاب الوطنية وهي "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديموقراطي". وفي انتظار الحسم، فإن الصراع بين الرئيس ورئيس حكومته السابق قد يشهد في الأسابيع المقبلة تطورات مثيرة، نظراً إلى أن الصراع بين الرجلين هو في النهاية صراع بين جيلين، جيل الثورة الذي يرفض التنحي عن مؤسسات الدولة باسم "الشرعية الثورية" وجيل الاستقلال الذي حاول في الأعوام الأخيرة التغلغل داخل مختلف مؤسسات القرار لكسب تأييد واسع لبناء دولة حديثة ترتكز على الشرعية الديموقراطية بعيداً من الخلافات العاصفة بين أبناء الثورة.