استعاد الاقتصاد الأردني عافيته في الأشهر التسعة الأخيرة من عام 2003 بعد تباطؤ نموه في الفصل الأول. وتشير التوقعات إلى أن معدل النمو الحقيقي لعام 2003 قد يكون في حدود 3.3 في المئة. وأخذ عدد كبير من المستثمرين بالنظر الى الأردن بمعزل عن عوامل عدم الاستقرار التي تحيط به، وبدأ يركّز على ما يتمتع به من استقرار اقتصادي وقدرات نموه الداخلية. وانعكس مجمل الإصلاحات الاقتصادية وعودة الثقة إلى السوق المحلية جلياً بارتفاع مؤشر أسعار الأسهم بما يزيد على 50 في المئة في 2003، فضلاً عن تطبيق سياسات مالية ونقدية توسعية والنمو المضطرد في الصادرات، خصوصاً إلى السوق الأميركية واستمرار تدفق المساعدات الدولية إلى المملكة، بالإضافة إلى ارتفاع حجم التحويلات التي يرسلها الأردنيون العاملون في الخارج وتراجع عوامل عدم اليقين في المنطقة. كل هذه العوامل ستساعد الأردن على تحقيق معدلات نمو اقتصادي بالأسعار الثابتة في حدود 4 - 5 في المئة في 2004. ولقد استطاع الأردن العام الماضي أن يعوض عن النفط الذي كان يستورده من العراق بأسعار تفضيلية، بنفط مجاني من المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية، حيث قامت هذه الدول مجتمعةً بتزويد الأردن بحاجاته من النفط في حدود 120 ألف برميل يومياً. كذلك قدمت الحكومة الأميركية للأردن مساعدات إضافية في 2003 بقيمة 700 مليون دولار، إضافة الى المساعدات الاقتصادية السنوية والتي هي بحدود 250 مليون دولار. ودفعت الولاياتالمتحدة من المساعدات الإضافية هذه مبلغ 500 مليون دولار في أيار مايو 2003، على أن يُدفع المبلغ المتبقي 200 مليون دولار في 2004. كما صادقت الحكومة الأميركية أخيراً على تقديم مساعدة إضافية أخرى بقيمة 100 مليون دولار مخصّصة لخطة التحويل الاقتصادي الاجتماعي. من جهته، قدّم الاتحاد الأوروبي مساعدات اقتصادية للأردن بقيمة 210 ملايين يورو. وعلى رغم أن هذه المساعدات لم تكن كافية لتعويض الأردن خسارته للسوق العراقية والتي كانت تستوعب 20 في المئة من إجمالي الصادرات الأردنية، إلا أنها ساعدت المملكة على التأقلم مع الوضع الجديد وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مقبولة العام الماضي. ووفقاً للأرقام الرسمية، حقق إجمالي الناتج المحلي في الربع الأول من 2003 نسبة نمو في حدود 2.8 في المئة بالأسعار الثابتة، و3 في المئة في الربع الثاني و3.2 في المئة في الربع الثالث، ليصل معدل النمو الاقتصادي في هذه الفترات الثلاث من العام الى 3 في المئة. ويُتوقع أن يصل معدل النمو الاقتصادي لعام 2003 ككل إلى نحو 3.3 في المئة. وهذه النسبة أقل من معدلات النمو المتحققة في الأعوام الماضية والتي كانت في حدود 4.9 في المئة عام 2002 و4.2 في المئة في كل من العامين2000 و2001. إلا أنها تفوق التوقعات المتشائمة التي كانت سائدة خلال الأشهر الأولى من 2003. وإذا أخذنا في الاعتبار معدلات النمو السكاني التي هي في حدود 2.8 في المئة، فإن معدل دخل الفرد الأردني لم ينم سوى بنسبة 0.5 في المئة العام الماضي. أما إجمالي الناتج القومي، والذي يُعرّف بالدخل المتحقق للأردنيين سواء كانوا يعملون داخل أو خارج المملكة، فهو أعلى من إجمالي الناتج المحلي، أي الدخل المتولد محلياً. ويعود السبب في ذلك إلى ارتفاع حجم التحويلات التي يرسلها الأردنيون العاملون في الخارج والذي وصل إلى 1514 مليون دينار، أي ما يعادل 2134 مليون دولار عام 2002 ويتوقع له أن يكون قد ارتفع بحدود 3 في المئة العام الماضي. وعلى رغم أن مستويات المعيشة بمقياس الدخل القومي الإجمالي للفرد قد ارتفعت بنسبة 20 في المئة خلال الأعوام الستة الماضية من 1365 ديناراً أو ما يعادل 1924 دولاراً عام 1996 إلى نحو 1650 ديناراً عام 2003، إلا أنها ما زالت منخفضة جداً حسب المعايير الدولية ولا تتعدى 138 ديناراً في الشهر أو ما يعادل 195 دولاراً شهرياً. ولقد قام البنك المركزي الأردني باتباع سياسة نقدية توسعية أدت إلى تراجع أسعار الفائدة على الدينار تماشياً مع تراجعها على الدولار. وشجع ذلك المصارف التجارية على تقليص فائدة الإقراض بشكل مضطرد، حيث تراجع سعر الفائدة على القروض المقدّمة لأفضل العملاء إلى نحو 6 في المئة أخيراً، في حين أن سعر الفائدة على نافذة الإيداع لليلة واحدة لدى البنك المركزي قد انخفض إلى 2 في المئة. ومن المرجح ان تبقى أسعار الفائدة على الدينار حول مستوياتها الحالية المتدنية في النصف الأول من 2004 قبل أن ترتفع في شكل تدريجي وبطيء في النصف الثاني. وسيكون ذلك ملائماً للظروف الاقتصادية، وقد يشجع البنوك على التوسع في التسهيلات الائتمانية، ما سينعكس إيجاباً على قطاعات الاقتصاد الأكثر تأثراً بأسعار الفائدة، مثل الإنشاءات والتمويل الاستهلاكي والعقارات والسوق المالية. وأظهرت الموازنة العامة لسنة 2004 أن الحكومة ماضية في اتباع سياسة مالية توسعية، فالنفقات العامة قُدرت بمبلغ 2.59 بليون دينار، أي بارتفاع نسبته 5.9 في المئة عن النفقات التي أعيد تقديرها لعام 2003 وجاءت في حدود 2.446 بليون دينار، ما يعني توقع عجز في الموازنة العامة في حدود 293 مليون دينار أو ما نسبته 3.9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي المقدر لسنة 2004. يعود معظم النمو الاقتصادي العام الماضي إلى النمو المتحقّق في قطاعات العقارات والإنشاءات وخدمات المال والتأمين والاتصالات والنقل والخدمات الحكومية. ويُعزى النمو في قطاع الإنشاءات والعقارات إلى زيادة مشاريع البنية التحتية التي يجري العمل بها حالياً في منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة وفي مناطق أخرى من المملكة، وإلى الارتفاع الذي سُجل في زيادة المساحات المرخّصة للبناء. ومثل هذا النمو انعكس إيجاباً على قطاعات اقتصادية أخرى مرتبطة بقطاع الإنشاءات. كما انه رفع الطلب على مواد البناء والأثاث والأجهزة المنزلية وأدوات استهلاكية أخرى. غير أن التحسن والنمو الاقتصادي الذي سُجل العام الماضي، لم يشعر به بعد المواطنون كافة. فلقد شهد قطاع الصناعة التحويلية تباطؤاً كبيراً، حيث نما بنسبة 1.1 في المئة خلال الأرباع الثلاثة الأولى مقابل 12.1 في المئة في الفترة نفسها من العام الماضي. ونتج هذا التباطؤ عن تداعيات الظروف الإقليمية غير المواتية، خصوصاً تراجع الصادرات الأردنية الى السوق العراقية. كما أن أصحاب المرتبات والأجور الثابتة، لاسيما العاملون في القطاع العام تأثّروا سلباً بارتفاع الضرائب غير المباشرة. ويُعتبر العبء الضريبي في الأردن مرتفعاً، حيث يشكل ما بين 20 - 25 في المئة من دخل الفرد. وجاء الأداء المميّز لسوق عمان المالية العام الماضي ليزيد من ثروة أولئك الذين يستثمرون في الأسهم بنسبة تتجاوز 50 في المئة، إذ ارتفعت القيمة السوقية للأسهم المدرجة في البورصة إلى نحو 6.8 بليون دينار. ودعم هذا التوجه أيضاً التحسن الذي طرأ أخيراً على أسعار العقار، حيث ارتفعت أسعار الأراضي خصوصاً في منطقة عمان الغربية ومنطقة العقبة الخاصة في حدود 20 في المئة العام الماضي. وسينعكس ارتفاع الثروة هذه إيجاباً على معدلات الاستهلاك والاستثمار في المملكة في 2004. وما زال الأردن يواجه تحديات كبيرة تشمل تواضع معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات النمو السكاني وتزايد مستويات الفقر والبطالة بالإضافة إلى الاختلالات الكبيرة في سوق العمل وارتفاع خدمة الدين ومخصصات التقاعد لموظفي القطاع العام وتزايد العبء الضريبي على المواطن واستمرار العجز في الموازنة العامة، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع المديونية. وقد يجد الأردن نفسه مضطراً السنة الجارية أن يستورد النفط بالأسعار العالمية ما سيزيد الفجوة التمويلية ويضع أعباء إضافية على المستهلك. وهناك أيضاً عوامل عدم اليقين والاضطرابات التي تتعرض لها المنطقة خصوصاً في العراق وفلسطين. وكل هذه العوامل خارجة عن سيطرة الحكومة. ويُلاحَظ أن موازنة سنة 2004 تسمح لبند النفقات الجارية بالارتفاع بنسبة 7.3 في المئة، ليصل إلى 2.133 بليون دينار في حين أن الإيرادات المحلية قُدرت بمبلغ 1.825 بليون دينار، أي أن الحكومة لا تزال عاجزة عن تمويل نفقاتها الجارية من إيراداتها المحلية بحدود 308 ملايين دينار. ولو لم يكن هناك منح ومساعدات أجنبية لكانت الحكومة قد اقترضت لتمويل نفقات جارية لا تأتي بمنافع تُذكر على الاقتصاد. وتشمل النفقات الجارية هذه الرواتب والأجور وخدمة الدين والتي تشكل كلها نحو 84 في المئة من إجمالي النفقات الحكومية. وكان يُتوقع أن تُظهر موازنة 2004 قيام الحكومة بعملية ترشيد للنفقات الجارية وتقليص الهدر وإيجاد طريقة للتعامل مع المخصصات الشهرية المرتفعة المرصودة لتقاعد موظفي القطاع العام، بالإضافة إلى الخفض التدريجي للأعداد الكبيرة العاملة في هذا القطاع. كما كان يتوقع لخدمة الدين أن تتراجع في شكل أكبر بسبب شراء بعض الديون، مثل الاطفاء المبكر لسندات بريدي وتنفيذ عمليات مبادلة الديون والتراجع الكبير المتحقّق في سعر الفائدة. وفي ضوء التطورات التي شهدتها المديونية الداخلية والخارجية، بلغ صافي الدين العام في نهاية تشرين الأول اكتوبر 2003 ما مقداره 6.924 بليون دولار، أي ما نسبته 94 في المئة من إجمالي الناتج المحلي المقدّر للعام الماضي. ووصل الدين العام الخارجي إلى 5.505 بليون دينار أي 7.762 بليون دولار أو ما نسبته 74.9 في المئة من الناتج المحلي المقدّر لعام 2003. وهذه النسب ما زالت تُعتبر مرتفعة بالمقاييس العالمية. وتبقى معدلات البطالة المرتفعة والبطالة المقنعة من أهم المشاكل التي يعاني منها الأردن. فقد وصلت معدلات البطالة حسب الأرقام الرسمية إلى 15 في المئة. ولم ينعكس حتى الآن التحسن في الأوضاع الاقتصادية على مستويات الفقر والبطالة، إذ أن عدد الداخلين إلى سوق العمل يزداد بنسبة 5 في المئة سنوياً، أي بأسرع من معدلات النمو الاقتصادي. و لا يُمكن حل مشكلة البطالة عن طريق زيادة التوظيف الحكومي، بل على العكس، المطلوب هو التقليص التدريجي في عدد موظفي القطاع العام من أجل خفض النفقات الحكومية، وبالتالي تمكين الدولة من خفض الضرائب. ولا يمكن حل مشكلة البطالة إلا عن طريق خلق فرص عمل إنتاجية في القطاع الخاص. ويتطلب ذلك استثمارات جديدة في مشاريع تعتمد على العمالة المكثفة Labor Intensive. فالمطلوب إذاً جذب المزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية من أجل تحقيق معدلات نمو اقتصادي لا تقل عن 5 في المئة سنوياً، وخفض معدلات النمو السكاني الى أقل من 2.5 في المئة. وحتى لو استطعنا تحقيق كل هذا، فإن الأردن سيحتاج لسنوات عدة قبل ان تنخفض معدلات البطالة إلى مستويات مقبولة. * الرئيس التنفيذي جوردانفست