ماذا يمكنك ان تفعل اذا كنت واحداً من كبار رسامي زمنك، ومن كبار المجددين في الفن التشكيلي في كل الأزمان والأمكنة، وطُلب اليك ذات يوم، وانت مُعيّن بصفتك "الرسام الرسمي للقصر الملكي" ان ترسم لوحة للملكة فيما أنت مقتنع تماماً بأن ليس ثمة في وجه الملكة الشاحب ونظراتها الحيادية ما يمكنه ان يعطي معنى للوحة نفسها؟ لا شك في ان فيلاسكويث الرسام الاسباني الكبير، والذي ينظر اليه عادة، في زمنه وحتى أزماننا هذه الى انه واحد من كبار الفنانين الذين عبروا عن الروح الداخلي لشخصياتهم في أعمالهم، قد طرح على نفسه هذا السؤال الحاسم، نحو العام 1652، حين كان قد عاد لوته من ايطاليا لينضم مجدداً الى القصر الملكي في اسبانيا، ويجد ان المهمة الأولى التي يكلف بها الآن انما هي رسم لوحة تمثل دونيا ماريانا النمسوية 1634-1696 ابنة فرديناند الثالث، امبراطور النمسا، التي كانت مخطوبة لولي العهد الاسباني بالتازار كارلوس، فلما مات هذا، زوجت الى فيليب الرابع ملك اسبانيا وارمل اليزابيث الفرنسية. في ذلك الحين كان دون دييغو رودريغز دي سيلفا إي فيلاسكويث، رساماً رسمياً للبلاط الملكي في اسبانيا... وكان قد خلد ذلك البلاط في لوحات رائعة صور فيها كل تفاصيل ذلك البلاط ورموزه من الامبراطور نفسه الى الاقزام العائشين في حرم البلاط، الى صغار الامراء وصولاً الى المهرجين والى الحيوانات الأليفة التي كان فيليب الرابع يهوى اقتناءها. وفي هذا السياق لم يكن يعصى على فيلاسكويث موضوع أو شكل. كان ما ان يبدأ بالعمل على لوحة ما، حتى يكتشف في ثنايا المشهد ما يبعث روحاً دافئة وانسانية فيه، وهكذا يحول الوانه واشكاله الى مكان تتجلى فيه تلك الروح. ولكن حين طلب منه ان يرسم لوحة لجلالة الملكة، كان العاهل يريدها ان تكون هدية يبعث بها الى البلاط النمساوي، وقف من دون ريب حائراً... انه يعرف الملكة جيداً، ويعرف حدود تعبيرها "كأنها قطعة جدار أملس" كان من شأنه ان يقول. ومع هذا ليس ثمة مجال لأي تردد: يجب عليه ان يحقق اللوحة. وهكذا، رسم مشروعه وراح ينفذه خلال شهور. وكانت النتيجة هذا العمل في لوحة يصل عرضها الى 126 سم وارتفاعها الى 211 سم. رسم فيلاسكويث اللوحة بعد فترة يسيرة من زواج الملكة. وهو لم يحقق لوحة واحدة فقط بل اكثر من واحدة: رسم الاصلية أولاً، فكان ان أعجب الملك بها، فطلب من الرسام ان يرسم واحدة ثانية تكون نسخة عنها، على أمل ان يبعث الثانية الى حميه امبراطور النمسا، فحقق فيلاسكويث الثانية بسرعة، لكن الملك اعجب بالثانية ايضاً وقرر الاحتفاظ باللوحتين طالباً من رسام آخر يعمل في القصر ويدعى ماتسو ان ينسخ لوحة فيلاسكويث لترسل النسخة الى النمسا، وهكذا كان، حيث ان ثمة، اليوم في متحف فيينا، نسخة ثالثة من هذه اللوحة. ونعود هنا الى المشكلة التي وجد فيلاسكويث نفسه يواجهها، والى الكيفية التي بها حل المشكلة. فهو اذ طرح على نفسه تقريباً، السؤال الذي ابتدأنا به هذا الكلام، كان في وسعه ان يحذو حذو الرسامين الهولنديين الذين كانوا في مثل تلك الحالات يعمدون الى ملء اللوحة بالتفاصيل والاكسسوارات المتعددة وذات الدلالة، حيث يخلقون من حول الشخصية المرسومة عالماً بأكمله هو في الأصل عالمه، أو عالم متصل به فتضيع حيادية الملامح، وسط زحام الدلالات. كان هذا حلاً يمكن اللجوء اليه. لكن فيلاسكويث كان يرى انه حل سهل للغاية، ومكشوف ايضاً، طالما ان اي خبير في اعماله السابقة كان يمكن ان يكشف الحيلة ويؤكد ان ثمة انتقاصاً في الامر من "قدرة جلالة الملكة" على التعبير. ثم ان فيلاسكويث نفسه لم يكن من الذين يهربون من مواجهة التحديات باللجوء الى حيل سهلة ومكشوفة. ومن هنا اتخذ قراره، بأن يكون الحل من داخل شخصية الملكة نفسها. من موقعها في اللوحة. من وقفتها. من ثيابها. ومن التقشف المطلق الذي سيجعله يحيط بها. وهكذا ولدت هذه اللوحة وولد معها اسلوبها الفذ. فالحال ان لدينا هنا لوحة يطبعها تناسق لوني متكامل يسيطر عليه اللونان الاسود والزهري. اما امحاء شخصية الملكة، انطلاقاً من خوائها الروحي نفسه ولكن ايضاً انطلاقاً من "السلوك الملكي" الذي يفرض عليها جدية تامة وصرامة لا متناهية، فلقد عبر عنه الرسام، وعوّض عليه بالحجم الضخم والاستثنائي الذي جعله لتمشيطة شعرها ولثوبها... اذ أتى هذان في ضخامة غير معهودة - ولكن تفي بالغرض في رأي الرسام، ثم في رأي الملك حين شاهد اللوحة وأعجب بها - ليؤطرا الوجه الشاحب الثقيل المملوء بكآبة المقام، والنظرات الباردة الميتة الخالية من اي معنى. ثم - وكما ذكرنا، على عكس ما كان يفعله عدد كبير من الرسامين الهولنديين الذين ارتبط بهم اسم فيلاسكويث وفنه - عرف رسامنا كيف يرسم شخصيته وكأنها ظهور وحيد متفرد في مكان محايد تماماً، صارفاً النظر عن الإطار الحياتي المعهود. وهكذا بدت اللوحة خالية من اي اكسسوارات تفسيرية تحاول ان تقول لنا شيئاً عن حياة الملكة. الاكسسوار الوحيد الذي ارتأى فيلاسكويث، هنا، ضرورة رسمه هو ساعة. وهو لم يضعها هنا على سبيل الترف كما يمكننا ان نخمن: ان الساعة موجودة في اللوحة لكي تذكر المشاهد. ولكي تذكر الملكة ايضاً، بأن كل شيء في هذه الحياة الدنيا عابر فانٍ... ولا سيما الحياة البشرية. والحال اننا لا ندري ابداً ما الذي كان عليه رد فعل جلالة الملكة حين شاهدت اللوحة، وشرح لها احد ما، او فهمت بنفسها، دلالة وجود الساعة كأكسسوار وحيد في ذلك العالم القاحل الذي لا يشغله سوى حضورها الفخم، المحايد. ولكن الآخرين احبوا اللوحة وأولهم الملك. اما فيلاسكويث فإنه، في عمله هذا، سجل مأثرة فنية حسبت له تاريخياً. حين رسم فيلاسكويث 1599-1660 هذه اللوحة كان في الثالثة والخمسين من عمره. وكان قد أمضى السنوات الثلاث السابقة في جولة ايطالية مهمته فيها شراء لوحات ومقتنيات لسيده الملك الاسباني. ولقد التقى فيلاسكويث خلال جولته الايطالية مواطنه الاسباني غاريفيرا الذي كان مقيماً في نابولي، كما انه زار القصر البابوي، حيث كلف برسم لوحة تمثل البابا اينوتشنتي العاشر، فحقق لوحة تعتبر من أجمل اعماله. وبعد ذلك عاد الى اسبانيا حيث التحق نهائياً بالبلاط وبدأ سلسلة لوحات هناك، كانت صورة الملكة اولها، ولكن كان اعظمها كما نعرف لوحة "لاس مينيتاس" التي شكلت خلوة انعطافية في تاريخ الرسم.