عاش الرسام بيار بول روبنز حكاية حب كبيرة، في السنوات الاخيرة من حياته، وهو توج ذلك الحب يومها بالزواج، لكن الزواج لم يخفف ابداً من قوة ذلك الحب، وما اللوحات الاخيرة التي رسمها روبنز خلال العقد الاخير من عمره سوى الشاهد الحي على ذلك الغرام الذي قام صاخباً بين روبنز الذي هيمن على فن الرسم في اوروبا طوال القرن السابع عشر، وتلك الحبيبة التي بالكاد كانت خرجت من سن المراهقة، هيلين فورمان. والحكاية بدأت في بداية ثلاثينات ذلك القرن، حين بدأ ارتباطه بهيلين في فترة انهماكه في تحقيق لوحاته الباروكية واعماله ذات المسحة الدينية الخالصة، وكان روبنز وصل في ذلك الحين الى اعلى درجات الشهرة وصار حقاً رسام الملوك والامراء وكان لا يكف عن التنقل في اوروبا راسماً بلاطاتها، معاشراً كبارها، فارضاً اساليبه الفنية على رساميها. في خضم ذلك كله ظهرت، فجأة، لوحته المعنونة "هيلين فورمان" وسيقول الدارسون إن الامر احتاج الى تحول روبنز الى عاشق حقيقي ليرسم تلك اللوحة، وقد تجاوزت فيها روح هيلين وجمالها كل السمات التي كانت تسبغ في اللوحات على هيلين الاخرى، الطروادية، هيلين التاريخ والاسطورة التي كانت قبل ذلك ملهمة لروبنز. إذ، عبر هيلين حبيبته الجديدة تلك، وفي اللوحة التي رسمت بين العامين 1630 و1631، عرف روبنز كيف يستعيد اسطورة المرأة الخالدة ويمجد جمال المرأة عبر ما يتسم لديها بأقصى درجات الاغواء واثارة القلق. لقد توافق المؤرخون ليقولوا عن هيلين إنها كانت شديدة الذكاء وقادرة على طرح حوار مساجل وجدّي مع زوجها، حتى حين يتحدث عن تمثال قديم او كتاب تاريخ او عن كنيسة باروكية. كانت قادرة على مزج الثقافة بالحب، ومن هنا وجد روبنز ان افضل ما يفعله لتخليد هذه المرأة هو جعلها ملهمة ايامه الاخيرة وبطلة الكثير من لوحاته، وهكذا، إذا تبحرنا اليوم في اعمال المرحلة الاخيرة من حياة روبنز نجد هيلين حاضرة، بمفردها او وسط مشهد عائلي حميم، أو كمجرد حضور مشع في وسط مشهد لا يبدو اصلاً انه رسم من اجلها، ويمكننا ان نذكر هنا، مثلاً لوحة "هيلين وطفلاها" 1636 - 1638 و"هيلين مرتدية الفراء" 1636 - 1638 و"روينز وهيلين فورمان في الحديقة" 1635 - 1638، ولكن يمكن التوقف خصوصاً عند الاشهر والاجمل بين اللوحات المشهدية العامة التي توجد فيها هيلين، من دون ان يكون المقصود جعلها محور اللوحة، هو لوحة "حديقة الحب" التي رسمها روبنز في العام 1635 تقريباً، وهي الاكبر حجماً بين اللوحات "الهيلينية" كافة، إذ يبلغ ارتفاعها نحو مترين وعرضها 283 سم، وهي موجودة الآن، مثل معظم لوحات روبنز الاساسية في متحف برادو في مدريدباسبانيا. في هذه اللوحة التي تشغل هيلين ووراءها روبنز طرفها الايسر حيث نراهما كالمسرعين للانضمام الى المشهد، يعود روبنز الى واحد من تلك المشاهد الفلامندية التقليدية، التي نراها كثيرة الحضور لدى آل بروغل بيتر والاخرين ايضاً كما نرى روبنز في لوحات مبكرة له، ونعرف ان تلك اللوحات الجماعية، كانت تصور فلاحين يعيشون لهوهم وأمسياتهم في شكل عام، وسط حقول قراهم او ساحاتها، ما يشكل مشهداً جماعياً مملوءاً بالحياة، وإن كان هناك دائماً - لدى بروغل مثلاً - حزن وقلق يبدوان كالقناع المحيّر وسط سعادة المهرجان. غير ان هذا كله لن نجد له اثراً في لوحة "حديقة الحب". فروبنز فضّل ان يبدل الفلاحين والبائسين بسادة وسيدات من شرائح عليا في المجتمع منهمكين في احاديث ودية ومزاح هادئ، وغزل متقاطع يصعب معه تحديد من هو حبيب من في نهاية الامر، ومع هذا لا بد من القول إن تلك الشخصيات التي تملأ اللوحة، إنما كانت من بنات خيال الرسام، ومجرد تعبير عن رؤية خاصة به، وهو ما اكد المؤرخون الذين اعلنوا دائماً استحالة التعرف على اي من الشخصيات المرسومة باستثناء هيلين وروبنز في المكان الذي اشرنا اليه. في هذه اللوحة بالذات، ولئن كان في وسعنا ان نلمح سمات دينية ملقاة بأناقة وخفر هنا وهناك، نجدنا جد بعيدين عن تلك التكوينات الدينية الخالصة التي تنبع في ذلك العهد بالذات، من روح الاصلاح الكنسي- المضاد، وهي روح كانت مسيطرة تماماً على لوحات روبنز قبل ذلك، ويمكننا ان نعود اليها في لوحات مثل "انتصار الكنيسة" 1627 و"العائلة المقدسة مع القديسة آن" 1626 - 1630. هنا يبدو عمل روبنز اكثر عقلانية - من ناحية المضمون - واكثر عودة الى روح الاساطير الرومانية حضور ملائكة الحب وآلهته من ناحية الشكل - لقد ابتعد عن اللوحات الدينية، ليعطي لوحاته طابعاً اكثر شخصية وذاتية بكثير، فهل يمكننا ان نقول انه كان، مع غرامه الاخير هيلين، عاد الى مبدأ اللذة، يرسم من اجل لذة الرسم نفسها، يرسم وقد صارت رغبته ان تجيء اشكاله في ايقاع متوازن، وفي مناخ تغمره السعادة. في اختصار، كان يمكن لمؤرخي الفن امام مثل هذه اللوحة ان يقولوا: إن بيار بول روبنز لا يسعى هنا الى الدفاع عن اي موضوع، بل يريد ان يقدم باليهاً متكاملاً برقصته الاساسية التي يؤديها المهيمنان على الجانب الايمن من اللوحة. هذه اللوحة التي رسمها روبنز في وقت توقف فيه عن أي نشاط ديبلوماسي، وتضاءل اهتمامه باللوحات الدينية لحساب اللوحات التي تضج بالحياة، اشتراها على الفور الملك فيليب الرابع، في وقت لم يكن بقي لروبنز من سنوات عمره سوى نزر يسير، إذ انه مات في العام 1640 بعد خمس سنوات تقريباً من انجاز "حديقة الحب"، وهو رسم من بعدها عدداً قليلاً جداً من اللوحات، لكنها تدور حول الحب والمهرجانات والاساطير القديمة. وروبنز الذي مات عن 63 عاماً، كان ولد العام 1577 في كولونيا في ألمانيا لاسرة كانت فرت من بلاد الفلاندر هولندا / بلجيكا هربا من اضطهاد الغزاة الاسبان. ولقد نما باكراً، اتجاهه الى الرسم، وبدأت لوحاته تظهر، وهو بعدُ في العشرينات من عمره، واهتم من فوره باللوحات الدينية، كما راح يرسم البورتريهات ويزين الكنائس، معيداً اختراع فن الباروك، مدخلاً فيه الواناً وخطوطاً غير مسبوقة. تجول روبنز طوال حياته بين بلدان عدة، رساماً وديبلوماسياً في الوقت نفسه، ومن هنا نجد لوحاته منتشرة، منذ البداية بين اسبانيا وفرنسا وهولندا والمانيا، وهو هيمن على زمنه تماماً.