حتى السنوات الأخيرة من حياته كان الرسام الانطباعي الفرنسي الكبير ادوار مانيه، يعتبر رسام الطبيعة الصامتة والحياة الباريسية الصاخبة. كان الفنان الذي اهتم بالشكل ليجدد فيه. وكان تجديده في مجال التلوين هو الذي سيعتبر دائماً صاحب أفضل "ملوّنة" في تاريخ الفن الانطباعي. غير ان اهتمام مانيه بالتلوين لم يمنعه من أن يستخدم، وأحياناً بإفراط، اللون الأسود في خطوط لوحاته أو خلفياتها، ما كان يعتبر تجديداً كبيراً. والحال أن مانيه سار، في استخدامه الأسود عنصراً درامياً أحياناً، وأحياناً عنصراً بديهياً في لوحاته "الليلية"، ثم أحياناً عنصراً يستخدم لتقوية الألوان الأخرى في اللوحات الزاهية، سار على منوال الرسامين الاسبان، ولا سيما فيلاسكويت وغويا، فهما بدورهما سارا في ذلك على منوال الايطالي الرائد كارافاجيو. ولئن كان مانيه اعتبر، كما أشرنا، رسام الحياة الزاهية والطبيعة الصامتة، فإنه عاد لاحقاً، لا سيما بعد أن زار اسبانيا وبدأ يستقي بعض مواضيعه من الحياة الاسبانية نفسها لوحة "مصارع الثيران الميت" مثلاً، عاد ليري الناس جانباً لم يكن متوقعاً من شخصيته: الجانب السياسي والتراجيدي. وهذا الجانب بدا واضحاً من خلال لوحات مصارعي الثيران، ولكن أيضاً من خلال لوحة من أهم أعماله، رسمها في العام 1867، أي بعد عام واحد من تحقيقه لوحة "عازف الناي" التي يرى كثر أنها الأشهر، كذلك يرون أنها اللوحة التي - انطلاقاً من استيعاب دروس فيلاسكويت - أدخلت لغة الرسم الاسبانية في الفن الفرنسي. واللوحة التي نعنيها هنا هي "اعدام ماكسيميليان". منذ البداية يمكن القول ان هذه اللوحة ما كان يمكنها أن توجد لولا أن مانيه كان، في اسبانيا، شاهد لوحة رسامها الكبير غويا "3 أيار/ مايو 1808". ذلك ان التأثر، بل الاقتباس المباشر من ناحية الموضوع، واضح هنا تمام الوضوح. والحال أن أوهام مانيه من ناحية التنوعية اللونية - على طريقة القسم الأول من تاريخ الانطباعية - كما من ناحية حيادية الفن، كانت انتهت بعد زيارته إسبانيا في العام 1865. وهكذا نجده وقد قرر أن يخوض في وصف باريس والحياة المعاصرة بواقعية تتطابق مع واقعية المعلمين الاسبان الكبار الذين اهتموا أول ما اهتموا برسم لوحات تمثل حياة الشعب وأحداث التاريخ. وهو لئن كان حين عودته آثر ألا يقحم نفسه في الموضوعات الاسبانية، فإنه تعمد أن يجعل الاسبان يؤثرون فيه في اختيار مواضيعه. ومن هنا كانت لوحة "إعدام ماكسيميليان"، تلك اللوحة التي لفرط اهتمامه بها، جعل لها نسخاً كثيرة. ثم كانت اللوحة من العنف والاستفزاز بحيث رفض المعرض الدولي في باريس عرضها، كما رفض لوحات واقعية لغوستاف كوربيه، فعرض الاثنان اعمالهما في شكل مستقل. وماكسيميليان في اللوحة هو السياسي المكسيكي، المجنون الى حد ما، والذي كان نابوليون الثالث أجبره في العام 1863 على اعلان نفسه امبراطوراً، ليصبح دمية في يد الفرنسيين. غير ان الضغوط السياسية لا سيما تلك التي مارستها الولاياتالمتحدة الأميركية على نابوليون الثالث، كما على المكسيكيين أنفسهم دفعت الأمور الى الهاوية، وأجبرت الامبراطور الفرنسي على التخلي عن صنيعته، في لفتة غدر غير معهودة. فأوقف امبراطور فرنسا دعمه العسكري والمالي لماكسيميليان، ما جعل المكسيكيين أنفسهم، من الذين لم يستسيغوا ان تفرض فرنسا امبراطوراً عليهم، يثورون عليه ويعتقلونه ومن ثم يحكمون عليه بالإعدام وينفذون الحكم. واللوحة التي رسمها مانيه، بعد الحادث بأربع سنوات تمثل كيفية تنفيذ الحكم، بالطريقة نفسها التي كان بها غويا صور تنفيذ حكم الإعدام بالأمير "بيوماونتن" إثر معركة باب الشمس، التي حاول فيها الاسبان مقاومة زحف نابوليون الأول عليهم. من الناحية الفنية البحتة، كما من ناحية سبر السمات السيكولوجية للحدث وتأثيره في المعنيين به، في اللوحة، لا يمكن القول ان لوحة مانيه ترقى الى المستوى الابداعي والتعبيري الذي وصلت اليه لوحة غويا. ولكن من ناحية التأثير السياسي، كان فعل لوحة مانيه أكبر بكثير من فعل لوحة الأستاذ الاسباني الكبير. ذلك أن الشعب الفرنسي كان أصلاً شعر بالصدمة إزاء تخلي نابوليون الثالث عن صنيعته المكسيكي، ما أدى الى اعدام هذا الأخير. وزاد من حدة غضب الفرنسيين ان اعدام "الامبراطور" المكسيكي أدى أيضاً الى جنون زوجته الشابة... ورأى الفرسيون أن نابوليون الثالث هو السبب في هذا كله. ومانيه، ذو النزعة الجمهورية الذي كان أصلاً يكنُّ عداء كبيراً للامبراطور الفرنسي، وجد في التعبير عن تلك الفاجعة مجالاً للتعبير عن موقفه هذا. وكان التذكير بلوحة غويا، جزءاً من موقف مانيه، وإن كان الناظر الى اللوحتين، يشعر بأن البعد العاطفي والدرامي المكثف، موضوعاً وشكلاً، في لوحة غويا، ترك المكان، في لوحة مانيه لقدر هائل من البرود والحيادية في التعبير عن موقف الفنان ازاء المشهد الذي يرسم، خصوصاً ان الجندي الخالي وجهه من أي تعبير أو تأثر بما يفعل، والذي رسمه مانيه يحشو بندقيته في الجانب الأيمن للوحة، بدا لافتاً نظر مشاهدي اللوحة أكثر حتى من الامبراطور الذي ينظر بشيء من البرود الى الجنود الآخرين وهم يطلقون النار عليه وعلى رجاله. كما ان الفنان نفسه يبدو مهتماً بلباس الجنود وتفاصيل هذا اللباس، أكثر من اهتمامه بمصير الامبراطور ورفيقيه. والحال أن هذا كله جعل مانيه، يُتهم من مناوئيه، باللامبالاة أو بكونه اتخذ موقفاً موضوعياً الى درجة بدت معها ريشته وألوانه وكأنها "كاميرا" مراسل صحافي يصور حدثاً لا يبدو انه معني به. ولكن هذا لم يكن صحيحاً بالطبع. ذلك ان مانيه، في هذه اللوحة، بدا أميناً لمبادئه الفنية حيث نجده غير راغب، خارج اطار مجرد التذكير بما حدث وتخليده بصفته صفعة على وجه الامبراطور الفرنسي الذي غدر بالامبراطور المكسيكي، غير راغب في أن يضع مشاعره الخاصة على اللوحة. إذ انه كان يرى أن الرسم، إذا تحرر من أي ثقل خارج عنه، يصبح من حقه أن يبدو غير حامل أي رسالة قسرية. وفي هذا الاطار يمكن القول ان هذه اللوحة انما تبرهن لنا - بحسب مؤرخ الفن بيار شنايدر - عدم التوافق بين الرسم والحكي، حيث ان "صمت الرسم" يظل أقوى من منظر الدم وارغام المشاهد على الاحساس بالاستياء. ادوار مانيه 1832 - 1883 هو واحد من كبار فناني بدايات الانطباعية الفرنسية... ولد في باريس ابناً لمحام ثري، ودخل باكراً الى كلية البحرية، لكنه سرعان ما شاء خوض فن الرسم فقبل أبوه بذلك وألحقه بمحترف رسام المشاهد التاريخية توما كوتور حيث بقي عنده ست سنوات تأسيسية. وكان أول ظهور كبير له عبر لوحة "الابسنت" التي رفضها صالون العام 1859، على رغم تبني ديلاكروا لها. ومنذ ذلك الحين لم يغب مانيه عن الحياة الفنية وكان من مؤسسي الانطباعية التي امتزجت لديه بالبعد التراجيدي الاسباني. وساهم بودلير في إطلاقه حين كتب عنه مقالاً مهماً في العام 1862. ومن أبرز أعمال مانيه "الغداء على العشب" التي أثارت استياءات المشاهدين منذ عرضها الأول، وهناك أيضاً "الموسيقى في حديقة التويلري" و"صورة اميل زولا" و"أولمبيا" و"الشرفة" و"حانة الفولي برجير".