السودان، البلد الافريقي الأصيل، اصيب بأمراض قاتلة حين توطدت فيه ثلاثة فيروسات مزمنة وقاتلة. فقد اصيب بفيروس الظلم، ثم فيروس العنصرية. وعندما اشتد به المرض اصيب، اخيراً، بفيروس عدم المصداقية. أولاً، الظلم. فمنذ استقلال السودان ومعظم الشعب السوداني فرح بنشوة الحرية، متفاعل بالمستقبل. ولكن بعض القوميات والتكتلات رأت في الاستقلال وحرية الشعب إضعافاً لسلطتهم وتسلطهم. فعملوا على تكريس جهودهم على خلق استعمار داخلي حتى يحفظ لهم السيطرة والسلطة التي عمدوا الى سرقتها من الشعب السوداني سواء كان على النهج الإيديولوجي او الطائفي، مع الاحتفاظ بشعار الاثنية والقومية العربية التي تملأ لهم من مؤتمرات القومية العربية، ومهددات الأمن القومي العربي في الخفاء. فسيطرت هذه القومية على مقاليد السلطة في السودان حتى عهد الإنقاذ. وعمدت الى تطبيع نهج واحد ألا وهو التنمية والتقدم في الشمال، حيث بطون القومية العربية، وترك جنوب وغرب السودان وشرقه في مرارة الجهل والتخلف، مع إصرار النخبة الشمالية على عدم تنمية تلك المناطق، وقطع كل مشاريع التنمية عنها عمداً، ونهب ثروات المناطق التي يقطنها الأفارقة، بعد تعيين احد الشماليين والياً عليها كي يؤمن سرقة واستغلال الموارد، تحت إشرافه، الى بطانته في الخرطوم، مع قهر المواطن الافريقي عند اعتراضه على ظلمهم. فأصبح الظلم فيروساً اصاب السودان من قبل الجبهة الإسلامية والإيديولوجيات الطائفية ومدّعي القومية العربية في السودان. فالسودان لن يشفى من هذا المرض إلا بإزالة كل مسبباته. ثانياً، العنصرية. ان فيروس العنصرية اشد بطشاً في المجتمع من اي مرض آخر يصيب المجتمع. ففيروس العنصرية اما يقتل المجتمع بأكمله، او ان يصلحه بعد الشفاء منه، كما اصلح بعض المجتمعات في انسانيته. فالسودان مقتول بفيروس العنصرية. وبكل وضوح فإن الإنسان العربي في السودان لا يعترف بالافريقي كإنسان. هذا هو جوهر الخلاف. فكل الحروب الدائرة في السودان شرارة وقودها العنصرية، وعدم الاعتراف بالآخر. فالعناصر العربية توطدت في السلطة، منذ عهد بعيد، وتعمل حتى الآن على طمس الهويات الافريقية، وإغلاق كل الأبواب امام القوميات الافريقية كي يثبتوا هويتهم ووجودهم. وإن تركوا واحداً من الأفارقة في السلطة ليس إلا لمصلحتهم الخاصة، أو كطعم كي يصطادوا به الآخرين في ادعاء الإثبات على خطابهم السياسي للمجتمع الدولي. ففي ايام ازمة حزب الأمة مع الجيش الآتي من اريتريا، قرأت مقالاً لإحدى قياديات بيت المهدي تقول: "ان جيش الأمة وصل من اريتريا وكل من يريد خادماً يجده في مسجد الخليفة بأم درمان كي يأخذ ما يريد من الخدم". ويا لعسفي! لو عرفت ان كل هذا الجيش من ابناء الغرب والنوبة، عند مطالبتهم بحقوقهم كجيش في حزب الأمة! ولا أظن ان كثيراً قرأوا مقال تلك القيادية. ولو قرأوه لا أظن انهم ادركوا بواطن هؤلاء القوم. كلهم يختلفون ايديولوجياً وفكرياً، ولكن هدفهم الحقيقي هو السودان العربي بإثنيته وعنصريته العربية. وأن جهر احد الأفارقة بظلمهم، فأول رد يسمعه هو ان يوصف بالعنصرية، قبل ان يصفهم به. فلا اظن ان الأفارقة يستطيعون العيش مع العرب في السودان ما لم يوضع منهج يحمل معاني الإنسانية، وصفة الإنسان بعيداً من اي فكر ايديولوجي يدرس للقوميات العربية في السودان، حتى يتخلوا عن افكارهم الهدامة للمجتمع. ثالثاً، عدم الصدقية. هي الفيروس الأخير الذي اصاب قيادات السودان. ولكن هذا المرض اشتد في عهد الإنقاذ، فأصبح كل قيادي جبهجي او طائفي يتمتع بهذه الصفة. فعند بوادر عهد الاستقلال، تعهد نخبة الشمال بمنح الجنوب الحكم الذاتي، بشرط ضم اصواتهم الى صوت الشمال حتى يتم الاستقلال. فبعد ان صوّت الجنوبيون للاستقلال، نقض الشماليون عهدهم بمنح الجنوب السلطة المستقلة. وفي عهد ايار مايو أبرم اتفاق اديس ابابا، في 1972، مع الحركات الجنوبية. ولكن بعد مدة من الزمن نقض الشماليون العرب عهدهم، ما ادخل السودان في حروب دامية حتى الآن. وفي آذار مارس 1997 وقّع اتفاق الخرطوم للسلام، بواسطة عناصر الجبهة الإسلامية مع بعض الحركات الجنوبية. ولكن نقضت ايضاً. هذه عهود بارزة نقضت. وهناك عهود غير بارزة، في عهد النخبة الشمالية، لم يوفَ بها كخرق وقف اطلاق النار مع الحركة الشعبية لتحرير السودان مرات عدة، والهدنة الأخيرة مع حركة تحرير السودان بدارفور خرقت من قبل حكومة الجبهة الإسلامية. وأمثلة كثيرة على صدقية هؤلاء القوم. وعلى صعيد الأحداث في دارفور فإن ما تناقلته التصريحات الحكومية بوصف مطالب مناضلي دارفور بالتعجيزية، ما هو إلا تنصل من الحكومة، وعرقلة لأي طريق يؤدي الى حل مشكلة دارفور. فمطالب مناضلي دارفور هي ان يبقى لهم جيش مستقل مدة انتقالية تمتد ما بين السنتين والأربع، والسيطرة الكاملة للقيادة كي يحموا ارواح اهاليهم من قتل الحكومة لهم، وحرق قراهم، والتطهير العرقي للإثنيات الافريقية من قبل القوميات العربية وميليشيات الجنجويد. ومطلبهم وزارات سيادية واقتصادية كي يضمنوا عدم الظلم الاجتماعي والاقتصادي، ونائب للرئيس. هذه ابسط مطالب انسان مظلوم في كل الحقب الماضية من عمر السودان. فمن المفترض المطالبة باستقلال دارفور عن السودان، او الحماية الدولية له من القتل وظلم الشمال. فكيف يثق المظلوم بعد كل هذه الحقب، من الظلم من قيادات شمالية تسعى بكل جهدها حتى الآن للتسلط والسلطة؟ فالاتفاقات الثنائية التي تسعى وراءها الجبهة الإسلامية وقادتها، لم تشفِ السودان من امراض الظلم والعنصرية وعدم الصدقية التي توطنت فيه بفعلهم، وما لم يصبحوا مواطنين ليروا العدل على يد اخوتهم الأفارقة. القاهرة - مهندس محمد رحمه ابكر عضو التحالف الفيديرالي الديموقراطي السوداني