أزمة جنوب السودان.. كانت ولا تزال إحدى القضايا الشائكة والمعقدة التي عصفت باستقرار السودان ردحاً من الزمن.. فعلى مدار خمسين عاماً عاش هذا البلد الجريح أفدح وأشرس قتال راح ضحيته ما يزيد عن مليوني شخص.. وتشريد أكثر من أربعة ملايين لاجئ. وبعد فشل العديد من مبادرات السلام لوقف شلالات الدماء.. جاء اتفاق نيفاشا.. ليشكل اختراقاً مهماً للحرب الأطول في القارة السمراء. ذلك السلام الذي أعطى الجنوبيين لأول مرة حق تقرير المصير باعتباره الحل الأمثل لإيقاف لهيب الحرب المستعرة.. التي خلفت الموت والدمار.. والبؤس والشقاء لسكان الجنوب والشمال معاً. فهل هذا السلام المدعوم إقليمياً ودولياً كفيل بإعادة تشكيل السودان سياسياً وإدارياً واجتماعياً واقتصادياً بصورة تنهي الحرب الأهلية؟. وهل يزيل حالة الاحتقان الذي يهدد بالانفجار مرة أخرى بعد أن مارست الحكومات المتعاقبة سياسة الإقصاء والتهميش ضد الجنوب إما باسم الدين أو في كثير من الأحيان بمنطق العرق واللون والثقافة!! وهل يمكن أن يبسط السلام جناحيه على السودان المنهك والمرهق بعد ظلمة الصراع والقتل والاقتتال؟ خصوصاً وان فرقاء سياسيين من الجنوب والشمال على حد سواء لم يشتركوا في صياغة بنود الاتفاقية.. بعد تفرد حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية بها.. في ظل مجريات واحداث معقدة كالتي تحدث في بلد المليون ميل. هل يمكن أن يعيش بسلام وأمان؟؟ «الرياض» ذهبت إلى جنوب السودان لتستشرف الآفاق والمستقبل.. والتقت الأطراف والعناصر الفاعلة في مشهد الأزمة هناك.. فسلطت الضوء على الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية.. وتأثير كل ذلك في تأجيج الصراع. وبعد التوصل إلى اتفاق أنهى حقبة زمنية سوداء في تاريخ السودان المعاصر.. فهل فعلاً انبثق به فجر السلام الموعود؟؟! التاريخ وجذور المشكلة لا يعرف عن تاريخ جنوب السودان قبيل عام (0281) إلا النذر اليسير ولكن بعد عام (0581) بدا كثير من الأوروبيين رحلاتهم لاكتشاف منابع النيل، وقد حاول (محمد علي باشا) أن يمد نفوذه جنوباً بإنشاء نقاط على النيل حتى البحيرات الكبرى وقد استعان (خديوي مصر) بخدمات كثير من الأوروبيين لتحقيق هذا الهدف وعيّن بعضهم كمديرين للاستوائية مركز الجنوب. وتعرف الحقبة التي سبقت (5881) بالتركية، والحقبة بعدها حتي (8981) بالمهدية، وكان لهاتين الحقبتين أثر مباشر في قضية الجنوب إذ انتشرت خلالهما تجارة الرقيق وغارات جلب من هو ذو عرق افريقي، والتي أدارتها جهات أجنبية واشترك في تنفيذها كثير من الشماليين، مما أحدث شعوراً بالكراهية الشديدة تجاه الشماليين والخوف منهم. ولم تتوقف هذه التجارة إلا بعد انتهاء الحقبة المصرية الانجليزية حيث انتهى الرق ووحد القطر السوداني رسمياً. ففي فبراير (3591) تم اعطاء السودانيين حق الحكم الذاتي وتم تكوين أول برلمان، ثم نال السودان استقلاله في يناير (6591)، في فترة التحضير لإعطاء السودان استقلاله قامت بريطانيا بتركيز كل الخدمات المدنية والإدارية في أيدي الشماليين وعُزل الجنوبيون بصورة واضحة من الحكومة، فيما وعد القادة الشماليون الجنوب بحكم فيدرالي بعد الاستقلال. خلال فترة الحكم الإنجليزي المصري، تم فصل السودان إلى وحدتين إداريتين، شمال وجنوب، وكانت تدار الوحدتان بصورة منفصلة، كما طبقت سياسة «المناطق المغلقة» في جنوب السودان وجبال النوبة ومنطقة جنوب النيل الأزرق وذلك لمنع تجارة الرقيق وانتشار الهيمنة العربية الإسلامية على تلك المناطق. ولكن هذا القرار القاضي بإدارة الشمال والجنوب كوحدتين منفصلتين، على العكس مُرسخ فعلاً العروبة والإسلام في الشمال وشجع تطور الجنوب في اتجاه الافريقية مع ادخال التعليم التبشيري المسيحي وبعض أساسيات الحضارة الغربية لتحديث الجنوب، وحورب التعامل والاتصال مع المجموعتين بضراوة. في الوقت الذي استثمرت فيه الإدارة البريطانية بسخاء واضح من أجل التطور السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي والثقافي في الشمال، بقي الجنوب معزولاً ومهمشاً ومتخلفاً. كان الهدف الرئيسي للاستعمار في الجنوب الحفاظ على الأمن والاستقرار، تركت سياسة الإدارات المنفصلة للشمال والجنوب، الخيار مفتوحاً لامكانية ضم الجنوب في النهاية لاحدى المستعمرات في شرق افريقيا. ولكن فجأة، وقبل تسع سنوات فقط من الاستقلال أعاد البريطانيون النظر في سياسة التطور المنفصل، ولكن لم يكن لديهم الوقت الكافي ولا العزيمة السياسية لوضع ترتيبات دستورية لحماية الجنوب في إطار السودان الموحد. ثم بذلت محاولات شرسة للسيطرة على الجنوب لأسلمته واستعرابه منذ الاستقلال، الشيء الذي اتسمت به سياسات الحكومات المتعاقبة، وبنفس القدر، تواصلت مقاومة الجنوب ضد الهيمنة العربية الإسلامية والاستيعاب، وما زالت النتيجة حرباً متبادلة وطاحنة في الرؤى. اندلعت حرب الرؤى بين الشمال والجنوب في أغسطس (5591)، أي قبل أربعة أشهر فقط من إعلان الاستقلال، حيث أعلنت وحدة عسكرية تمردها في منطقة توريت بالاستوائية واختفى أفرادها بأسلحتهم داخل أدغال الغابة، معلنين بداية الحرب الأولى في جنوب السودان وذلك بعد تجاهل مسودة الدستور الدائم للنظام الفيدرالي مما اعتبره الجنوبيون نقضاً للعهود. نظام عبود وجاء نظام عبود وحظرت الأحزاب السياسية وعطل النشاط السياسي وحرم المناداة بالفيدرالية، وصدر قانون الجمعيات الكنسية التبشيرية لعام (2691) وتم إبعاد (003) مبشر مسيحي ونقل كثير من الموظفين والمعلمين الجنوبيين وتفاقم التمرد في الجنوب ودفع بالسياسيين إلى المنفى في الدول المجاورة منهم القس (ساكرينو لاهوري) و(جوزيف ادوهو) و(ماركو رم) و(مايكل طويل) و(اقري جادين) و(وليم دينق) و(أكون اتيم) وواجهت عندها الحكومة التمرد بالعنف المسلح. قامت حركة انيانيا بمحاولة فاشلة في يناير (4691) بقيادة (برناردو ماوماو) لاحتلال مدينة واو وعندها انتبهت حكومة عبود إلى تنامي التمرد في الجنوب فكونت لجنة برئاسة (أحمد محمد يس) وهو عضو اتحادي بارز للنظر في أسباب التمرد والتقدم بالتوصيات لتصحيح الوضع، ذلك أتاح قيام اللجنة لإقامة حوار علني فيه كثير من النقد لسياسة الحكومة، والإعلان بأن الطريقة لحل مشكلة الجنوب هو ازالة الحكم العسكري وإقامة نظام ديمقراطي وقد أدى ذلك لقيام انتفاضة أكتوبر (46) وإسقاط الحكم العسكري. (حكومة اكتوبر) وعند قيام حكومة (سر الختم) الخليفة الانتقالية تمسكت جبهة الجنوب بحق اختيارها لوزرائها في الحكومة ومجلس السيادة وكان لها ما ارادت وتم تعيين (كلمنت امبورو) و(امبروز وول) وزراء و(لويجي ادوك) عضواً في مجلس السيادة وقد قوبل هذا الاختيار بالرضا لاختيارهم بواسطة الجنوبيين انفسهم. صحيح ان حدة التوتر وسياسات القهر خفت ولكن الى حين، ففي صباح الاحد (6) ديسمبر (4691) شهدت الخرطوم اعمال شغب واسعة قام بها الجنوبيون احتجاجاً على التميز العنصري، وامتدت هذه الاعمال الى المدن الثلاث في الشمال، تحطمت فيها كثير من الممتلكات واريقت فيها الدماء قتل فيها سبعة اشخاص مما دفع الحكومة الى تجميع الجنوبيين بداري الرياضة في الخرطوم وام درمان حفاظاً على ارواحهم. وفي العاشر من ديسمبر اعلن مجلس الوزراء العفو العام عن كل المواطنين في المنفي والغابة وعملت الحكومة على عودة اللاجئين ودعت الى عقد مؤتمر يسوي المسائل السياسية ويحل المشكلة العويص. وفي اطار ذلك انعقد مؤتمر المائدة المستديرة بتاريخ (6) مارس (5691)، في جو تميز في صفوف الجنوبيين بالانفعال العاطفي والغضب وعدم الثقة بالشماليين، ومثلت في المؤتمر كل الاحزاب والمنظمات الجنوبية والشمالية وشهده مراقبون من كثير من الحكومات الافريقية والعربية. وطالبت جبهة الجنوب بمنح الجنوبيين حق تقرير المصير وطالب حزب (سانو) الجناح الخارجي لفصل الجنوب عن الشمال في خطاب القاه (آجري جادين)، واستقر حزب سانو الداخلي بقيادة (وليم دينق) في المؤتمر عند رغبتهم في الوصول الى تسوية تمكن الجنوب من التطور الاقتصادي والاجتماعي وتوفر اسباب المساواة بين المواطنين وتقيم نطاقاً جديداً للحكم المحلي ولا سبيل لهذا الا بإيقاف العنف في الجنوب والالتزام بوحدة البلاد واستنكار استخدام الانيانا للعنف، فوصل المؤتمر الى طريق مسدود. عادت قيادة حزب سانو الخارجي الى شرق افريقيا بعد يوم واحد من القاء خطابها الذي دعا للانفصال وبقي جناح (وليم دينق) في السودان واستمر الاضطراب الامني والتمرد في الجنوب، وبعدها بفترة اجريت الانتخابات وقاطعتها الاحزاب الجنوبية وجاءت الانتخابات بحكومة ائتلافية بين حزب الامة والحزب الوطني الاتحادي وقاطعها حزب الشعب الديمقراطي وانتخب (محمد احمد المحجوب) رئيس الوزراء والازهري رئيساً لمجلس السيادة. وفي يونيو (5691) اجازت الجمعية التأسيسية بالاجماع اقتراحاً يخول الحكومة سلطة صيانة القانون والنظام في المديريات الجنوبية مما كان بمثابة اعلان حرب على الأنانيا وتفاقمت المشاكل وادى ذلك الى لجوء عدد كبير من المواطنين الى الدول المجاورة. حكومة الصادق المهدي 6691 كان من المفترض ان تقدم اللجنة الدستورية توصياتها لحكومة الصادق المهدي لدعوة مؤتمر المائدة المستديرة ولكن الحكومة رأت ان المناخ السياسي قد تغير وكبديل لمؤتمر المائدة دعت لمؤتمر الاحزاب في (7691) برئاسة (محمد صالح الشنقيطي)، وقاطع حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي هذا المؤتمر وعزلت الحكومة الجنوبيين الذين يعيشون في المنفي ولم يدع حزب سانو الخارجي وصدق مؤتمر الاحزاب السياسية على توصيات اللجنة ولكنه لم يحسم قضايا الخلاف. في عام (86/96) انسحب الاعضاء الجنوبيون من لجنة الدستور لاتجاه اللجنة نحو رسم دستور إسلامي واستسلام القيادات الشمالية حتى من انصار الدستور العلماني مثل (محمد احمد محجوب) و(اسماعيل الازهري) لضغوط جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة (د. حسن الترابي) وانضمامهم الى المتحمسين للدستور الإسلامي، وفي مايو (8691) اغتيل (وليم دينق) عضو اللجنة الدستورية بعد وقت قصير من انتخابه عضواً في الجمعية التأسيسية في ظروف كثيرة الشك والريب. حكومة مايو 9691 وفي سبتمبر (9691) توافرت اسباب كثيرة شجعت الجيش لتسلم السلطة وأعلنت الحكومة انها واثقة وقادرة تماماً على مواجهة الحقائق وانها تعترف بالفوارق التاريخية والثقافية بين الشمال - والجنوب وان وحدة الوطن تبنى على هذه الحقائق الموضوعية وانه من حق اهل السودان ان يطوروا ثقافتهم وتقاليدهم في نطاق سودان موحد. بنهاية الستينات كان عدد القتلى يقدر بحوالي 000,005 بحلول 9691 كان المتمردون قد قاموا بعمل اتصالات خارجية للحصول على اسلحة وامدادات حتى سيطروا على معظم المناطق الريفية في الجنوب فيما تحتل الحكومة المدن الكبرى، وقد كانوا عبارة عن وحدات صغيرة متفرقة يقدر عددهم ما بين (0005 - 00001). في عام (1791) اعلن (جوزيف لاقو) عن قيام حركة تحرير جنوب السودان، التي انضم اليها قادة الانانيا، وحصلت على تأييد جنوبي سياسي واسع، وبرغم ذلك بقيت القوة الحقيقية في يد الانانيا. اتفاقية أديس أبابا 2791 في (72) مارس (2791) قام (جوزيف لاقو) زعيم حركة تحرير جنوب السودان بإجراء اتصالات مع الخرطوم فعقد مؤتمر في أديس أبابا، فكانت مطالب الحركة قيام حكم فيدرالي مع وجود حكومة منفصلة وجيش منفصل يكون تحت قيادة الرئيس الاتحادي فقط في حال تعرض السودان لحظر خارجي. وقد حظيت هذه الاتفاقية بتأييد كبير في جميع انحاء البلاد، وعلى الرغم من المشاكل التي واجهت الحكومة في تطبيق هذه الاتفاقية، الا ان التجربة جديرة. فقد بدا الأمل كبيراً في ذلك الوقت بإمكانية وقف تبديد الطاقات والآمال في الصراع وتوجيهها نحو اعادة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مناخ سلمي للجنوب السوداني. وبمساعدة الامبراطور الاثيوبي (هيلا سلاسي) تم التوصل إلى اتفاقية تضمنت حكماً ذاتياً للجنوب، مع قيام مجلس تنفيذي عال ومحلي للحكم ليس من اختصاصه أمور الدفاع والخارجية والمالية والاقتصاد، وبالرغم من المعارضة من بعض القادة الجنوبيين تم توقيع الاتفاقية وتوقف إطلاق النار. إلا أن ذلك الهدوء لم يستمر كثيراً وذلك بعد أن حول الرئيس نميري الجنوب إلى ثلاثة أقاليم بدلاً من اقليم واحد، وفشله في استيعاب قوات التمرد في الجيش مما أدى إلى عودة الكثيرين منهم إلى الغابة. وأزدادت حدة التوتر بعد اكتشاف النفط في جنوب السودان وما صحبه من ريب متبادل بين الحكومة وحركة التمرد خصوصاً أن حكومة نميري تراجعت عن الترتيبات المالية والإدارية المنصوص عليها في الاتفاقية. ويرى مراقبون أن إلغاء قانون الحكم الذاتي وبعض نصوص الترتيبات الأمنية وتعيين عناصر المصالحة من الجبهة الإسلامية في أجهزة الحكم، والسعي نحو الدستور الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية ساعد ذلك كله على تنامي المعارضة لنظام مايو الذي قذف بالسودان في صراع متعدد الأبعاد. وقد وصف بعضهم الاتفاقية بأنها شكلت اتفاقاً بين صفوة الشمال وصفوة الجنوب لاقتسام مناصب السلطة واستغلال ثروة البلاد. فبدأ التمرد الثاني بعد أن حول نميري كما ذكرنا الجنوب إلى ثلاثة أقاليم بدلاً من اقليم واحد، فقام بعض مقاتلي جيش الأنانيا القديم بتكوين حركة الانانيا (2)، حاول بعدها نميري إعادة بعض قادة الجيش إلى الشمال، إلا أنهم قاموا بالتمرد على السلطة، ومن ثم اتحد الفصيل المتمرد مع الأنانيا (2) لتكوين جيش تحرير السودان، لكن هذه الوحدة لم تستمر لتنفصل الأنانيا بعد مصادمات مع الحركة وتتعاون مع الحكومة في قتال جيش تحرير السودان. استعرت شرارة الحرب في (3891) وازدادت الأوضاع سوءاً بعد إعلان جعفر نميري عن تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية فكوَّن الراحل (جون قرنق) الجيش الشعبي لتحرير السودان، ومن ثم الحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي كان قد تم إرساله إلى جنوب السودان لانهاء تمرد (005) من أفراد الجيش السوداني في بور إلا أن المتمردين اقنعوه بعدالة قضيتهم، فقاد قرنق أفراد الحركة حتى وصلت عددها في 6891 إلى 00521 وارتفع ذلك العدد إلى أن وصل 000,06. تم تقسيم الحركة إلى ثلاثة أقسام: توريت بقيادة جون قرنق، بحر الغزال بقيادة كاربينو كوانين، وحركة استقلال الجنوب بقيادة رياك مشار التي وقعت اتفاقية بالتضامن مع بعض التنظيمات الجنوبية الصغيرة مع الحكومة فيما تواصل القتال بين الحركة والحكومة دون أن يتضح مقدرة أي من الطرفين على حسم المعركة عسكرياً. بحلول 9891م، كان خليفة النميري المنتخب ديمقراطياً الصادق المهدي، مستعداً لتعليق تطبيق الشريعة الإسلامية وذلك في مسعى منه لإنهاء حرب عمرها ستة أعوام ولكن قبل عدة أيام فقط من توقيع الهدنة، سقط المهدي في انقلاب تزعمه الفريق عمر البشير والجبهة الإسلاية الوطنية. كان البشير ورفاقه في الانقلاب اتباعاً لحسن الترابي وهو السياسي الإسلامي الذي لعب دوراً مهماً في البلاد منذ الستينات. تغيرت الظروف الدولية المحيطة بالحرب الأهلية عدة مرات منذ 4891م. ففي الثمانينات تلقى الجيش الشعبي لتحرير السودان ذو الأيديولوجيا الاشتراكية دعماً من الرئيس الاثيوبي (منغستو هايلي مريام). دفع ذلك خلال الحرب الباردة حيث إن الولاياتالمتحدة ضخت المال والسلاح إلى حكومات الخرطوم المختلفة. عندما وصلت الجبهة الإسلامية إلى السلطة، كانت الحرب الباردة تلفظ أنفاسها الأخيرة وتدهورت العلاقة مع الولاياتالمتحدة بشكل متزايد حيث دعمت الحكومة صدام حسين في حرب الخليج الأولى ودعمت فيما بعد المأوى لعدة إرهابيين دوليين بمن فيهم (كارلوس) و(أسامة بن لادن). وفي تلك الأثناء سقط نظام (منغستو) في اثيوبيا عام (1991) وبذلك فقد الجيش الشعبي لتحرير السودان الداعم الرئيسي له، لكن الخصومة المتزايدة بين الخرطوم ونظام (موسيفيني) في كمبالا في أوغندا جنب جيش تحرير السودان الانهيار الكامل. كانت قيادة الخرطوم، الصادق المهدي ومن تلاه مقنتعة بأن (موسيفيني) كان يدعم (جون قرنق) وربما كان ذلك لأن (قرن) و(موسيفيني) درسا معاً في الستينات. دفع ذلك حكومة الخرطوم إلى تقديم الدعم والتدريب العسكري لجيش الرب المجموعة المتمردة العنيفة في شمال أوغندا كانت تدعم جيش تحرير السودان. ورغم أن الجيش الشعبي لتحرير السودان كان على شفير الهزيمة في (4991)، إلا أن الدعم الأوغندي ضمن عدم حدوث ذلك. كانت حكومة الخرطوم تعاني من العزلة الدولية بشكل متزايد - بسبب إيوائها الإرهابيين ودعمها لحركات التمرد في أوغندا واثيوبيا واريتريا، وحتى تورطها في محاولة اغتيال الرئيس المصري مبارك في (5991) في أديس أبابا - وبدأت كفة الميزان ترجح لمصلحة الجيش الشعبي لتحرير السودان. عملية السلام تم القيام بعد محاولات لتوقيع اتفاقية سلام منذ بدء القتال في (3891)، ويعد السودان أكبر بلد في القارة الافريقية وكانت الحرب الأهلية سبباً في مقتل الكثيرين. علاوة على ذلك، وكما هو واضح لأي محلل للحرب، فقد انتقلت هذه الحرب إلى البلدان المجاورة وأدت إلى تهديد استقرار كثير من المناطق، يمكن اقتفاء أثر نشوء عملية السلام الحالية منذ (3991)، عندما حاولت (إيقاد) وهي هيئة مكونة من دول في شرق افريقيا من أجل الأمن والتنمية، التوسط في محادثات السلام بين الخرطوم والجيش الشعبي لتحرير السودان. وبحلول (4991) أصدرت هذه المحادثات إعلاناً أقر مبادئ الديمقراطية والعلمانية والعدالة والتنمية المتساوية في كامل البلاد كشرط مسبق لقيام سلام قادر على الاستمرار. على أية حال رفضت حكومة الخرطوم إعلان المبادئ كأساس لمحادثات التي وصلت إلى طريق مسدود. بحلول عام (7991)، كما ذكرنا، كانت حكومة الخرطوم تشعر بالعزلة أكثر فأكثر، وكان موقفها أضعف مقارنة مع موقف الجيش الشعبي لتحرير السودان، وعند هذه النقطة خصوصاً عادت حكومة الخرطوم إلى طاولة مفاوضات إيغاد المرتكزة على إعلان المبادئ. إلى ذلك وصلت هذه المحادثات إلى طريق مسدود لعدة أعوام حتى سمحت مبادرة متجددة في (2002) ببدء بروتوكولات إيقاد التي تم التوافق حولها - بما فيه الاتفاق على تقاسم الثروة النفطية والمشاركة في السلطة في الحكومة الانتقالية وفي النهاية إجراء استفتاء في الجنوب حول الاستقلال. ما الذي يبرر طرح المبادرة مجدداً؟.. يتخذ جزءاً من الأجابة صفة دولية، حيث إن سياسة الولاياتالمتحدة تجاه السودان تحولت مع تغير الإدارة في بداية (1002)، وبعد أحداث 11 سبتمبر لاحقاً، فكانت إدارة بوش منذ البداية شديدة الاهتمام بالحرب الأهلية السودانية بسبب عاملين رئيسيين: اهتمام بالنفط وبجمهور الناخبين المسيحيين المحافظين الناشطين الذين ركزوا على ظاهرة العبودية والاضطهاد الديني في السودان، وبعد (11) ستبمر تحالفت الخرطوم سريعاً مع واشنطن مقدمة لها المساعدة المخابراتية بالإضافة إلى السماح بتحليق الطيران فوق أراضيها. وبالرغم من تقاربها مع الخرطوم، كانت إدارة بوش عازمة على إنهاء الحرب الأهلية وعينت لذلك مبعوثاً خاصاً لمحاولة تسهيل الوصول إلى اتفاقية سلام، وهو السيناتور (جون دانفورث) سفير الإدارة الأمريكية الأسبق في الأممالمتحدة. كان (دانفورث) هو من دفع كلا الطرفين للعودة إلى طاولة المفاوضات في (2002) وعمل مع مبعوث (إيقاد) الكيني الخاص العميد (لازارو سمبويا) لتهدئة الحرب في اتفاق مشاكوس (الذي سمي باسم البلدة الكينية التي وقع فيها) وهي اتفاقية أولى مكونة من عدة بروتوكولات وافق عليها الطرفان في إعلان المبادئ في (4991)، بإضافة الحكم الذاتي الفوري للجنوب بالترافق مع قبول تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال. وبالموافقة على مزيد من البروتوكولات، بدا أن السلاح في متناول اليد، وبتحقيقه ستنتهي عزلة حكومة الخرطوم وستتخلص من سمعتها كدولة مارقة، بل أن البيت الأبيض خطط لدعوة أعضاء من الحكومية السودانية لحضور خطاب حالة الاتحاد في عام (4002)، ولكن كان ثمة مشكلة كانت محادثات السلام ثنائية فقط بين حكومة الخرطوم والجيش الشعبي لتحرير السودان الجنوبي. ورغم ان (جون قرنق) أكد على الدوام انه يؤيد سوداناً موحداً مع توزيع عادل ومتساو لفرص العمل وتوزيع الثروات الطبيعية، فقد قدم اتفاق مشاكوس الأرضية للحكم الذاتي الجنوبي وامكانية الاستقلال. اتفاق نيروبي اقرت اتفاقية نيروبي للسلام الموقعة في التاسع من يناير بين نائب الرئيس السوداني (علي عثمان طه) وقائد الجيش الشعبي لتحرير السودان (جون قرنق) كثيراً من البروتوكولات الموقعة خلال العامين السابقين، فوعدت اتفاقية مشاكوس الجنوب باجراء استفتاء حول الانفصال بعد ست سنوات أي عام (1102م) وبعدم تطبيق الشريعة الإسلامية فيه حتى ذلك التاريخ. اضافة إلى تقاسم الثروة النفطية في الجنوب والمقدرة ب(052 - 003) ألف برميل في اليوم على أساس النصف لكل طرف، وذلك بعد أن تعطي نسبة (2٪) على الأقل إلى الدولة. ووعدت اتفاقية نيروبي بتشكيل حكومة وحدة وطنية يتبوأ فيها رئيس الحركة الشعبية منصب نائب رئيس مع سلطة الفيتو على القرارات الرئاسية. ويتم اجراء انتخابات وطنية على كافة المستويات خلال ثلاث سنوات، وفي هذه الاثناء تحافظ الحركة الشعبية على ادارة منفصلة في الجنوب، بينما يشكل الجنوبيون ما نسبته (82٪) من حكومة الوحدة الوطنية و(25٪) لحزب المؤتمر الوطني الحاكم و(41٪) للمعارضة الشمالية و(6٪) للقوى الجنوبية غير الممثلة عبر الحركة الشعبية. لاشك ان تشكيل حكومة وحدة وطنية مثل اختراقاً حقيقياً في عملية السلام، ولكنها لم تكن نهاية العملية حيث لا يمكن الاكتفاء بالقول ان الاتفاقيات هي ثنائية وبالتالي اقصاء لاعبين مهمين في السودان سواء المتمردين في دارفور وفي الشرق والمعارضة الشمالية من جهة والأحزاب الجنوبية غير الحركة الشعبية. فبالرغم ان اتفاق السلام هذه المرة قد توافرت له جملة من العوامل التي قد تساعد على نجاحه وضمان تطبيقه والالتزام به إلى حد ما حيث ان الدور الدولي والاقليمي والزخم الذي صاحب الاتفاقية لم يوفر الأجواء المواتية لتنفيذ الاتفاق فقط، بل ان هذا الدور سيستمر خلال الفترة الانتقالية في اشكال متعددة، وفضلاً عن ذلك فإن الاتفاق قد حفظ مصالح الطرفين الموقعين عليه الأمر الذي سيدفعهما إلى محاولة تخطي عقبات التنفيذ. كما ان الشعب السوداني في الجنوب والشمال على حد سواء قد سئم الحرب وأصبح يتطلع نحو السلام والاستقرار. ولعل من أهم وأبرز التحديات التي تواجه عملية السلام عند طرفي النزاع والموقعين على الاتفاقية انفسهم، فالنظام السوداني هو الوارث المباشر للجبهة الوطنية الإسلامية وهي الحزب الإسلامي الذي حصل على حوالي (7٪) من الأصوات في آخر انتخابات حرة جرت في ابريل (6891)، وحتى إذا سلمنا بصحة تمثيل النظام على انه شريك في عملية السلام فإنه من الصعب ان نتخيل انه يمثل أكثر من (51٪) من الناخبين. ومن جهة أخرى فإن الحركة الشعبية التي تعد شريكاً سياسياً وحيداً في النظام لا تستطيع فرض سيطرتها على مجمل الجنوب، فسائر الأحزاب السياسية الجنوبية التي كانت موجودة في العام (6891) قد تماسكت في خلفية المشهد وهي تمثل مجموعة قوى لا بأس بها. والمليشيات المعارضة لجيش تحرير السودان والتي طالما استغلتها الحكومة هي أبعد من أن تكون مجرد منظمات متعاونة مع الخرطوم فهي تتواجد في أوساط اثنية النوير وقبائل خط الاستواء التي ليس منها الجيش الشعبي الذي تتألف قاعدته الاثنية بشكل واسع من قبيلة الدينكا في منطقة البور. وإذا ما وضعنا في الحسبان ان الجنوب يمثل ما بين (52٪) من مجمل سكان البلاد، وضمناً اللاجئون والمهجرون، فإن موقعي المعاهدة في نيروبي لا يمثلون إلا حوالي (03٪) من الجماهير السودانية، فما هو إذاً وضع ال(07٪) الباقين؟ هذا بالطبع هو الأمر الكبير المجهول عند اجراء الانتخابات المرتقبة. واتفاقية السلام لم تشمل كافة مناطق السودان التي عانت من التهميش والتجاهل طوال السنوات الماضية فلاتزال دارفور تعيش في حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي ويقطن غالبية سكانها مخيمات اللاجئين وأيضاً منطقة شرق السودان لاتزال بعيدة عن الاستقرار وتنتظر بدورها الحل الذي يمكن لقاطنيها العيش في سلام وأمان. كما أن مؤشرات الأزمة في دارفور امتدت إلى اقليم كردفان المجاور حيث وقعت صدامات مسلحة بين عناصر حكومية وأخرى محلية، كما لايزال شرق السودان في حالة من الاستنفار العسكري الذي يمكن ان ينفجر في أي لحظة وبالتالي فإن الأمل في وضع حلول سريعة لهذه النزاعات الدائرة في الغرب وتطويق الحرائق المرجح اشتعالها في الشرق يجب أن يجد طريقه للتحقق. فهناك العديد من التحديات التي يواجهها السلام في السودان، كما ان الوضع في الجنوب السوداني يواجه ايضاً العديد من التحديات لا تقل عن الوضع في الشمال السوداني ومنها حالة الاضطراب بين قيادات الحركة الشعبية بسبب تهميش جزء كبير منهم في العملية التفاوضية والسياسية. وهناك أطراف من أعضاء الحركة الشعبية والمنتمين إلى القبائل الاستوائية الجنوبية ابدوا اعتراضهم على سبيل ادارة الحركة الشعبية للمناطق التي تقع تحت سيطرتها، من جانب آخر فإن الفصائل والميليشيات العسكرية في الجنوب غير تابعة للحركة الشعبية أو القوات النظامية للجيش السوداني، وهذه الفصائل بدورها ترفض ان يتم اقصاؤها من العملية السياسية والتفاوضية بين الحكومة والحركة الشعبية خصوصاً ان اتفاق الترتيبات الأمنية بين الطرفين يقر بضرورة إلغاء بقية الميليشيات المسلحة غير التابعة للحركة الشعبية. ومن بين التحديات التي تواجه اتفاق السلام الحوار الجنوبي - الجنوبي الذي تهمله الحركة الشعبية أصبح من الضروريات حيث ان اتفاق تقاسم الثروة بين الحكومة والحركة الشعبية يجد معارضة كبيرة من جانب بعض قبائل الجنوب التي يتم استخراج البترول من أراضيها، ومن التحديات الأخرى التي يواجهها السودان شمالاً وجنوباً تأتي المشكلات الاجتماعية الناجمة عن الحرب وأوضاع النازحين واللاجئين وضرورة إعادة تأهيل ومعالجة أوضاع العائدين من الحرب. ولا يمكن ان يتم تجاوز المشكلة التنموية من أجل تحقيق اهداف السلام، ولعل التحدي الأبرز في استقرار الجنوب هو غياب البنية الأساسية للموصلات وتفاقم أزمة الغذاء وغياب الادارة المحلية التي تجعلها في جهوزية تامة لإعمار شامل لكافة الأراضي الجنوبية التي حرمت من التنمية طيلة فترة الحرب. ومن ضمن التحديات التي تواجه عملية السلام بناء حاجز الثقة الموجود بين شريكي الحكم والذي تراكم على مدى سنوات العداء والاقتتال، وكيفية بناء شراكة منتجة في مصلحة الوطن. ولاشك ان التحدي الأصعب في كل ذلك هو صمود اتفاقية السلام بعد غياب أحد رموزها الدكتور (جون قرنق) الذي لقي مصرعه مؤخراً فاتحاً الباب أمام احتمال انهيار اتفاق السلام. ان المناخ السياسي الذي يتم فيه تطبيق اتفاق السلام من العوامل الضرورية لاتمام عملية السلام بشكل ناجح ورغم ان التوصل إلى اتفاق في حد ذاته يعد بمثابة انجاز سياسي للأطراف المشاركة إلا ان مرحلة تطبيق اتفاقية السلام لا تقل أهمية عن مرحلة التوصل إلى اتفاق، فالاتفاق يتضمن التزامات تبناها الطرفان لتدعم فرص نجاحه بالاضافة إلى ضمانات دولية متمثلة في مجلس الأمن الذي ستودع فيه الاتفاقية وهذا ما يميز تلك الاتفاقية عن مثيلاتها بالاضافة إلى وجود لجنة لمراقبة التزام الطرفين ببنود هذه الاتفاقية. ان توقيع اتفاق السلام في السودان يشير إلى بدء مرحلة جديدة في تاريخ السودان تطوى سنوات الحرب والشقاء، إلا ان هذه المرحلة تتطلب إرادة سودانية خالصة وعملاً حقيقياً تقوم به جميع فئات المجتمع السوداني من أجل صنع سلام دائم يغلق باب الحرب إلى الأبد ولتبدأ مرحلة البناء والتنمية والتعمير لإزالة ما خلفته الحرب من دمار في جميع المجالات، وراح ضحيتها قرابة مليوني قتيل وأربعة ملايين مُقعد وخمسة ملايين مشرد.. هل طوى الشعب السوداني صفحة الحرب الأهلية وهل باستطاعته إعادة تشكيل بلاده سياسياً وادارياً واجتماعياً واقتصادياً بصورة منصفة بين جميع الاثنيات؟ وهل اتخذت تدابير كافية لجعل الوحدة جاذبة عندما يحين الوقت في تقرير المصير للجنوب؟ وهل خطط لبناء السودان على نحو عادل؟ هذه الأسئلة تظل مطروحة، بعدما وضعت الحرب أوزارها.. فكل الشعب وبقلوب مرجفة تريد أن تشاهد حمائم السلام ترفرف اجنحتها على جميع سماء السودان وأرضه.