يشهد العراق على الصعيد الثقافي تحولاً مذهلاً، لا يتناسب مع وجود القوات المحتلة، وانهيار المؤسسات المدنية وفوضى الحياة الاجتماعية والسياسية. فمنذ أشهر فقط كانت هناك أسماء ثقافية وفكرية وسياسية يستحيل ظهورها على صفحات الجرائد، كما أن هناك رموزاً لا يمكن تخيل وجودها في مقهى حسن عجمي، وسط شارع الرشيد، أو مقهى الشابندر، قرب شارع المتنبي الغاص بالكتب. معارض تشكيلية تقام يومياً. الاستعداد للمربد في البصرة. اسبوع المسرح العراقي. أماس شعرية لشعراء عاشوا طويلاً في المنفى. مجلات تهيئ نفسها للانطلاق ومراكز بحثية توثق الماضي. ففي وسط العاصمة بغداد يقوم الكاتب الاشكالي كنعان مكية بتأسيس أكبر ارشيف للذاكرة العراقية السابقة، خاصة ما له علاقة بوثائق تسوّغ القمع والقتل والمقابر الجماعية، ويقال ان عدد الوثائق التي جمعها ربت على العشرة ملايين وثيقة. الشاعر صادق الصائغ مستشار وزير الثقافة لشؤون المسرح يطل يومياً في الجرائد المحلية، وصارت تظاهرة المسرح العراقي الجديد مثالاً للروح الحرة التي أخذت تدب في جسد الثقافة الوطنية، وفخري كريم رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية يقبع في مكتبه، ليس بعيداً من القصر الجمهوري الذي شهد احتفالات القائد الرمز بأعياد ميلاده. لديه مشروع فضائية ومدينة للثقافة والفن في بناية القشلة ليس بعيداً من تمثال الرصافي. وقبل أيام عقدت ندوة في قاعة الرباط، وسط الأعضمية، ناقش فيها لفيف من الأدباء العراقيين شؤون الثقافة، وكان من بين هذا الجمع الحاشد اسماء يرفع المرء لحضورها في المكان حاجبيه. فهذا الشاعر خالد المعالي مؤسس دار الجمل في المانيا، يناقش وزير الثقافة عن خطط الوزارة، وما هي أنجع الوسائل لاشاعة الثقافة الديموقراطية في عراق ما بعد صدام حسين، وكيفية وصول الكتاب الى يد القارئ العراقي الذي حرم عقدين من متابعة الاصدار الجديد، سواء العالمي منه او العربي. وليس بعيداً منه يجلس صاحب مشروع كتاب في جريدة، الشاعر شوقي عبد الأمير يراقب حوارات المثقفين الذين كانوا في الخارج، او من لبثوا في الداخل، بعد ان استطاع الاتفاق مع جريدة الصباح حول الدخول في مشروعه كتاب في جريدة. في مقهى الشابندر الذي يغص كل جمعة بالأدباء، كونه يقع في مركز شارع المتنبي، يجلس الشاعر المغترب منذ عقدين في الدنمارك، منعم الفقير، وهو يحاول استقراء وجوه من عرفهم قبل ثلاثين سنة، ويفكر بايجاد صلة وصل بين مشروعه الثقافي في الدنمارك وواقع العراق الجديد. انه مثل غيره لا يصدق ان كابوس عدي وقصي وصدام حسين وشرطة الثقافة قد ولى دون رجعة، ولم يعد الكاتب، مهما حمل من تمرد او فوضى، يخاف من سلطة غير سلطة الضمير والحقيقة. ابراهيم أحمد ومشرق الغانم واسماعيل زاير وعلي عبد الأمير. تختلط مع حسب الله يحيى وسعد هادي وطراد الكبيسي وعبد الزهرة زكي. الصحف العراقية الجديدة معظم رؤساء تحريرها من المثقفين والسياسيين والصحافيين الذين عاشوا سنوات في المنفى معارضين لحكومة البعث. والصفحات الثقافية في تلك الصحف يكاد يغيب منها الحد الفاصل ما بين ثقافة الداخل وثقافة الخارج. ظلت اشكالية الداخل والخارج مدار سجال في الصحافة العراقية، وهي لا تخص الثقافة فقط، انما اشتملت على عصب سياسي له علاقة بأقطاب مجلس الحكم، اذ كان معظمهم خارج العراق. في الصفحة نفسها يمكن قراءة اسم فاضل العزاوي وحسين كركوش وخزعل الماجدي وفاضل ثامر وفوزي كريم وعلي الحلي، الذي كان يلقب ذات مرة بشاعر البعث. اختفت اقلام رموز البعث الفاقعة من الواجهة كحميد سعيد وسامي مهدي ورعد بندر وعبدالرزاق عبدالواحد وساجدة الموسوي وغيرهم، وبدأت تظهر مراجعات قاسية للعهد السابق ورموزه الثقافية، خصوصاً ما صار يكتبه الشاعر علي الحلي في جريدة الصباح، كاشفاً تفاصيل حرجة عن علاقة المثقف بالسلطة ومستواها المتدني عادة. كما ان نتاجات الفنانين التشكيليين تعرض ويكتب عنها من الخارج والداخل، وصار الجميع مقتنعاً بشعار لا فصل بين ثقافة داخل وخارج، كلاهما تؤسسان لثقافة عراقية جديدة ترتهن للحس الفني والجمال والرأي والرأي المضاد وتحترم حقوق الانسان، وتوصي بضرورة الابتعاد عن ثقافة العنف والتحريض ضد الآخر أو الكتابة بأمر من القائد، او واحد من وزرائه. ومن يتصفح الجرائد العربية ايضاً يمكنه ان يرى يومياً انطباعات الكتاب العراقيين المنفيين الذين زاروا العراق لفترة وجيزة وكتبوا عنه مثل عواد ناصر وخالد القشطيني ومحمد مظلوم وفاضل السلطاني وزهير الجزائري وخالد المعالي وفاطمة المحسن وفالح عبدالجبار، وكانت جل كتاباتهم تنقل الدمار الكبير الذي لحق بالعراق في ظل سلطة صدام حسين وحزبه، وحجم المصادرة العنيفة للانسان وخصوصياته ورغباته، فضلاً عن شساعة التخلف الاجتماعي المتروك الذي جاء نتيجة احاطة العراق بسياج من الرقابة والقمع والتضليل، لأكثر من خمس وعشرين سنة. من يعيش الواقع العراقي بعد سقوط النظام يتعجب من الجهل الذي يهيمن على كثير من المثقفين العرب حول الدمار الذي جرى لشعب العراق، والتعب الروحي المترسب، والمعاناة العميقة من حروب وفقر وتجهيل واذلال واهانات، كان يلحقها به من يعتبرون أولياء أموره. المثقفون العراقيون يعودون بحذر، يرون أهلهم ومن بقي من الأصدقاء ثم يغادرون الى أماكنهم السابقة. فمن الصعب اليوم توفير فرص عمل لائقة تتناسب مع ما كان يتمتع به المثقفون العراقيون الذين استقروا في أوروبا وأميركا وعموم بلدان الشتات والاغتراب. يصعب توفير المدرسة المتطورة والمستشفى المتقدم علمياً والاتصالات المشتغلة دائماً، امام تهالك البنية التحتية للكهرباء والهاتف والمدارس والمستشفيات والطرق والمعامل، فبسبب الحصار ثلاثة عشر عاماً، وتسخير ذلك الحصار لادامة الحكم، لم يصرف النظام السابق درهماً واحداً على تلك المرافق المهمة. جاء تهاويها شاملاً، وأصبحت اعادتها الى الحياة مهمة عسيرة كونها ذات علاقة بتنمية مرافق العراق كلها. يأتون ويرحلون. لكنهم لن يعودوا مثلما كانوا في السابق. فضجيج شارع المتنبي، ومناظر نخيل الضفاف، وبياض النوارس، وذلك البؤس غير المعقول المرتسم في وجوه العراقيين، كل ذلك لا يمكن نسيانه على وسادة ناعمة. * شاعر عراقي.