انتابت أوروبا حال من الشغف والافتتان بالشرق بلغت ذروتها في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت النمسا أحد بلدان أوروبا التي تعرضت لهذه النوبة. كان الكثيرون يحلمون بزيارة تلك البلدان البعيدة والغريبة بحسابات ذلك الزمن لكن قلة من هؤلاء سنحت لهم الفرصة لتحقيق الحلم والوقوف على بعض تفاصيله. أحدهم كان وليّ عهد الامبراطورية النمسوية - الهنغارية 1881 الأمير رودلف الذي بلغ به الافتتان مبلغاً حتى جمع انطباعاته عن المدن الشرقية التي زارها في كتاب بات قطعة أثرية تتوارثها متاحف النمسا. وانتقلت آنذاك عدوى الافتتان بالشرق والبحث عن ملامحه وروحه وصوره إلى الجميع. فبينما كان يجلس الأمير رودلف في صالونه في قصر "الهوف بورغ" في فيينا وقد فرش على طراز تركي يدخن نرجيلته، كانت طبقات المجتمع على اختلافها تتهافت على المنشورات والبضائع التي تأتي بها السفن المبحرة من الاسكندرية لتستمد منها مقوّمات لصور كان الخيال نسجها عن ذلك العالم القريب - البعيد... عالم الشرق. لعب الرسامون من طريق رسومهم في ذلك العصر دوراً بالغ الأهمية في إيصال الصور الواقعية التي استطاع عامة الأوروبيين من خلالها دحض أو إثبات تصوراتهم وتخيلاتهم عن بلدان مثل مصر والمغرب وفلسطين. الرسامون أنفسهم كانوا وجدوا في الشرق عالماً مثيراً فيه من الأصالة والعراقة ما يماثل ما فيه من سعي نحو الحضارة والتمدن. فالأسواق الشعبية والمشاهد المختلفة من أماكن الحريم، ووجوه الفتيات الشرقيات المفعمة بالحياة ذات الألوان المتباينة والتقاسيم العريضة، ومن أبرزها الرسم الزيتي لكارل ليوبلد موللر والذي يصور فيه فتاة ترتدي زياً مغربياً تقليدياً وتعبر ملامح وجهها عن اعتداد وثقة متناهية بالنفس، على خلاف الصورة النمطية الموجودة في الغرب إلى الآن وخصوصاً عن نساء الشرق وفتياته "الخجولات، المحكومات بقوانين ومثل اجتماعية متحجرة". فاللوحة بحد ذاتها هي شهادة مبكرة أو رمز لقيمة المرأة ومكانتها في المجتمعات الشرقية. ثم هناك تدرجات ألوان الرمال وقوافل الجمال في الصحارى، آثار مصر والنصب التذكارية في فلسطين، إضافة الى مشاهد من الحياة اليومية في بازارات دمشق القديمة وأسواقها. هذه جميعاً كانت مصادر إلهام وإيحاء للكثيرين من الرسامين، ما أتاح في ما بعد للجمهور الأوروبي التلذذ بتلك اللوحات والمشاهد الآسرة التي خطها وصورها كبار الرسامين. هذا ما يمكن اليوم إعادة التأمل فيه عبر خمسين لوحة تزين جدران قصر "البلفدير" في العاصمة النمسوية فيينا في معرض يعيد الذكرى إلى زمن ماضٍ وما زالت ذكراه ترفرف بأجنحة ذهب في وعي الباحث عن جمال حقيقي كامن في تفاصيل المجتمعات والحياة البشرية على تنوعها وفي غنى مفرداتها. المعرض الذي أقيم بالتعاون ما بين المتاحف المتعددة في النمسا وعدد من العائلات الارستقراطية التي لا تزال تتوارث إلى الآن الكثير من اللوحات، غني جداً بمحتوياته وكنوزه الشرقية إن جاز التعبير. فمن لوحات رودلف هوبر وجون فيكتور ترامر إلى إبداعات ألفنس ليوبولد ميليش وليوبولد كارل موللر الذي زار مصر بين عامي 1873 و1886 وقام بالتقاط صور فوتوغرافية متميزة لأسواق القاهرة الشعبية. وفي منتصف العرض تقبع اللوحات التي استلهمها الرحالة عبر تجوالهم والتي توضح للعيان كم هي كثيرة مجالات الحياة التي تأثرت بالطراز الشرقي سواء كانت هندسة معمارية او فنوناً تطبيقية أو أزياء تقليدية. وما يدل على ذلك الكؤوس المزخرفة التي لا تزال تنتجها شركة البورسلان النمسوية الشهيرة "لوبماير". ولعل الهدايا التذكارية المعروضة التي بقيت وبعضها لا يزال يخص علية القوم دليلاً على العلاقات المتبادلة بين الدولة العثمانية والامبراطورية النمسوية - الهنغارية. وهي علاقات فرضتها الجيرة والاحتكاك على اختلاف أنواعه. إحدى قاعات المعرض خصصت لعرض الصالون التركي الخاص بوليّ عهد الامبراطورية النمسوية - المجرية 1881 الأمير رودلف. في الإمكان الإطلاع على كتاب الأمير "رحلة إلى الشرق" الذي دوّن فيه انطباعاته عن البلدان التي زارها كمصر وفلسطين التي أقام فيها مدة من الزمن. المرة الأولى التي جمع خلالها هذا الكنز من أعمال الرسامين والرحالة النمسويين في الشرق كانت قبل ثلاثة أعوام حين عرضت في مدينة سالزبورغ النمسوية وأعيد الآن إطلاق هذا المعرض من جديد في فيينا احتراماً لرغبة الكثيرين من عشاق الفن والشرق على حد سواء.