ريتشارد بيرل وديفيد فروم، من أقطاب "المحافظين الجدد"، حرّضا الإدارة الأميركية على التدخّل في لبنان وسورية: لمساعدة الأول على التحرر والاستقلال من الثانية، ولمساعدة السوريين ونصرة الديموقراطية ضد نظامهم غير الديموقراطي. في مواجهة هذا التحريض ستردّ أبواق النظام السوري وتابعوه في لبنان بأن كل شيء ممتاز وما من سبب للتحريض والتدخّل سوى النوازع الامبريالية للمحافظين الجدد. أما البراهين على هذا الامتياز فكثيرة، في طليعتها أن سورية تتصدى لإسرائيل، وكان آخر علامات تصدّيها زيارة الرئيس بشار الأسد إلى تركيا، وأن الحياة السياسية اللبنانية بألف خير لا ينافسها في الخيرية إلا العلاقات الأخوية بين بيروت ودمشق. وهذه كلها، بالطبع، أكاذيب يفنّدها السوريون واللبنانيون يومياً بأشكال شتى. لكن سوء الأوضاع السورية واللبنانية، والسورية - اللبنانية، لا يؤدي بذاته إلى استنتاج بسيط من النوع الذي يتوصّل إليه المحافظون الجدد. بل لأن الأوضاع المذكورة سيئة فهذا، بمعنى ما، سبب إضافي ل... عدم التدخل. ولنلاحظ، أولاً وأساساً، مصادر الوعي المشترك بين المحافظين الأميركان الجدد وبين المدافعين العرب عن الوضع القائم في البلدين. فإذا كان الأخيرون يركّزون على الصمود في مواجهة إسرائيل وعلى الأخوّة وعروبة لبنان، فالأوّلون يركّزون على الإرادة اللبنانية والديموقراطية السورية والظروف الملائمة لإسرائيل في المنطقة. والطرفان، بهذا المعنى، يعطيان الأولوية للسياسي والإقليمي على المجتمعي والداخلي. وقد علّمتنا تجربة العراق، على الأقل، أن التردّي ينبغي أن يطرح سؤال المسؤولية والداخل بقدر ما يطرح سؤال التدخل والخارج. فاللبنانيون والسوريون لم يدفعهم سوء أوضاعهم إلى التحرك لتغييرها كشعوب تطلب الديموقراطية والاستقلال. نعم، لقد عرف البلدان تحركات ونشاطات وتمردات، إلا أنها اصطبغت كلها بلون تجمعي، طائفي أو مذهبي. وهذا يعني أن سياسة المعارضة، في لبنان كما في سورية، لا تزال تقيم في مكان غير المكان الذي تقيم فيه مطالب الديموقراطية والاستقلال للشعوب. واستطراداً، لن يفعل التدخل لفرض الديموقراطية والاستقلال إلا فتح أبواب الجحيم أمام الشعبين تنازعاً أهلياً ودموياً بلا حدود. فما لم ينتقل اللبنانيون والسوريون من وصف الوضع السيء إلى بلورة الأدوات والأفكار الجامعة والوطنية لتغييره، سيبقى كل تدخل وبالاً على الجميع. أما مواجهة وضع كهذا القائم فتكون ببرنامج مُركّب وبعيد الأمد: بالضغوط على النظامين لتضييق هامش المناورة التي يتمتعان بها وتعجيل انكشاف الاهتراء الذي يعتريهما، وفي الوقت نفسه ب"الضغوط" على الشعبين كي يبرهنا أنهما "شعبان" وليسا مجموعات من الطوائف المتناحرة والمرشّحة للتناحر. لكن برنامجاً مديداً ومعقّداً كهذا لن يطرد الاشتباه بالنوايا الامبريالية والامبراطورية ما لم يترافق مع تقديم نماذج بديلة ما بين العراقوفلسطين. وغنيّ عن القول ان الضغط الفعلي على حكومة شارون، في فلسطين كما في الجولان، يتصدّر هذا البرنامج المطلوب من أميركا، والذي لن يكون قط برنامج المحافظين الجدد. فليفكّر هؤلاء قليلاً بما حصل في السودان، حيث الأوضاع أسوأ بكثير مما في سورية ولبنان، وليستَوحوا.