تستعد القوى السياسية اللبنانية للانتخابات النيابية التي ستجرى في 7 حزيران (يونيو) المقبل، وبدأت بعض القيادات تجييش انصارها من خلال توجيه التهجمات والاتهامات الى أخصامها واللجوء الى التحريض الطائفي. ومع ان غالبية اللبنانيين تعيش حالاً من التململ نتيجة الأوضاع السياسية غير المستقرة والاقتصادية الصعبة، وتحمّل كل القيادات مسؤولية ما آلت إليه البلاد من أوضاع سيئة، إلا انها تعتبر مشاركتها في الانتخابات مسؤولية وطنية حيث ستحدد نتائجها مستقبل لبنان: لبنان الدولة المدنية المسالمة المنفتحة على العالم أم لبنان الدولة المقاومة المتحالفة مع محور الممانعة. كان لمقالة «حكومة وسطية بعد الانتخابات النيابية تعيد الاستقرار الى لبنان» التي نشرتها «الحياة» في 18/3/2009، ردود فعل سلبية لدى البعض في «قوى 14 آذار» (مارس) اعتبرها تراجعاً في موقفي الداعم لأهداف هذه القوى، خصوصاً ان كل كتاباتي تتلاقى معها في إقامة الدولة المدنية القوية القادرة على مجمل الأراضي اللبنانية وأن يكون السلاح حصرياً بيد قواتها العسكرية والأمنية ويكون لحكومتها وحدها قرار الحرب والسلم. ويعتبر هذا البعض ان مطالبتي بحكومة وسطية بعد الانتخابات النيابية المقبلة، حتى لو فازت بغالبية المقاعد النيابية «قوى 14 آذار»، بمثابة دعوة الى التخلي عن الصمود والمواجهة والاستسلام للواقع السياسي الجديد في لبنان الذي فرضه اتفاق الدوحة نتيجة تحول سلاح «حزب الله» عن مهمته في مقاومة إسرائيل الى غزو بيروت وبعض أطراف الجبل في شهر أيار (مايو) الماضي، والاستنكاف عن المشاركة في الانتخابات. بينما المطلوب، حض المواطنين على متابعة المسيرة الاستقلالية والمشاركة الفاعلة في هذه الانتخابات والاقتراع للرموز السيادية التي سيقع على عاتقها تنفيذ الأهداف التي لم تتحقق بعد من «ثورة الأرز». ويذكرني هذا البعض بأنه على رغم الحملات التخوينية على قيادات «قوى 14 آذار» والضغوط الأمنية على جمهورها وإغلاق الوسط التجاري في العاصمة لسنة ونصف سنة واغتيال بعض رموزها السياسية والإعلامية والأمنية، استطاعت «قوى 14 آذار» تحقيق الكثير من المكاسب، منها: خروج القوات العسكرية والأمنية السورية من لبنان، واستعادة السيادة والقرار الوطني المستقل، والدعم العربي والدولي لاستقلال لبنان، وانتخاب رئيس للجمهورية يتمتع بالوطنية والصدقية والاحترام، واعتراف سورية رسمياً باستقلال لبنان وإقامة علاقات ديبلوماسية معه وتعيين سفير لها في بيروت، وبدء اعمال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه والجرائم المرتبطة بها. لم يكن الهدف من المطالبة بحكومة وسطية بث روح التخاذل لدى مناصري «14 آذار» وهم الذين يجهدون لتغيير الوضع السياسي الراهن بانتخاب غالبية نيابية تنبثق منها حكومة قوية تعمل على تثبيت الاستقلال وبسط سيادة الدولة على كل التراب الوطني وتعتمد في نهجها سياسة المأسسة والكفاية والعدالة والمساواة. ويتمنى كل إنسان حر قيام حكومة كهذه، ولكن إمكان تحقيق ذلك غير متوافر في الوقت الراهن بوجود تنظيمات مسلحة قوية تدعمها دول إقليمية وتساندها شريحة طائفية كبيرة، تسيطر على مربعات أمنية وتتمسك بسلاحها وقرار الحرب والسلم، وتمنع قيام الدولة القوية لأن في ذلك إنهاءً لدورها الإقليمي وإغلاق الساحة الداخلية امام القوى الإقليمية المتحالفة معها. إن الأزمة السياسية الراهنة هي نتيجة ارتباط القضية اللبنانية بقضايا المنطقة، وهي ورقة مهمة في المفاوضات المرتقبة بين الولاياتالمتحدة الأميركية من جهة، وإيران وسورية من جهة أخرى. والخوف ان تشهد الساحة اللبنانية سخونة سياسية اثناء المفاوضات من اجل تحقيق بعض المكاسب للدول المتفاوضة، وأن تتحول هذه السخونة الى اضطرابات امنية عند تعثر المفاوضات. وتعتبر المصالحة الشكلية بين القيادتين السعودية والمصرية من جهة والقيادة السورية من جهة ثانية، عنصراً ايجابياً في تهدئة الأوضاع في لبنان وإجراء الانتخابات في أجواء مريحة. وتحتاج المصالحة الفعلية الى تعديل في السياسة السورية في ما يتعلق بالقضايا العربية الضاغطة والعلاقات مع ايران واحتضان من السعودية ومصر لسورية، والوقت كفيل بإظهار مدى جدية القيادة السورية بالعودة الى الصف العربي وتوحيده ضد الأطماع الخارجية. وفي غضون ذلك، يبقى الوضع في لبنان معلقاً في انتظار ولوج اركان المصالحة العربية في دراسة الملفات الخلافية ومنها الملف اللبناني والاتفاق على خريطة طريق لها، وتصويب العلاقة مع ايران على اسس الود والندية والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وابتعاد ايران عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية حفاظاً على الأمن القومي العربي. ويحتاج تنفيذ هذه الأمور، في حال صفت النيات، الى شهور عدة، وكذلك الحال بالنسبة الى المفاوضات المرتقبة بين الولاياتالمتحدة وإيران وسورية. أما عن معاودة المفاوضات بين سورية وإسرائيل، فإن الوضع السياسي في إسرائيل لا يبشر بالخير مع قيام حكومة فاشية يمينية متطرفة، ترفض إعادة الجولان المحتل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وإعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم. تشير هذه المعطيات الى بقاء الوضع اللبناني في «الستاتيكو» خلال فترة الترقب، حيث ستتعرض «قوى 14 آذار» في حال فازت في الانتخابات النيابية الى تصدي «حزب الله» لها ولمنعها من تشكيل الحكومة العتيدة، ما لم يكن له فيها الثلث المعطل، كما هو الحال مع الحكومة الحاضرة، بحيث تكون حكومة «المناكفات وتعطيل الأعمال» وأي حكومة أخرى ستكون في نظر «الشيعية السياسية» فاقدة الميثاقية. ولن يتوانى الحزب وحلفاؤه في المعارضة عن التهديد باستخدام السلاح لفرض المشاركة في الحكومة والحصول على الثلث المعطل تطبيقاً لاتفاق الدوحة، الذي كان حاجة ظرفية لإنهاء الاقتتال المذهبي في لبنان. بينما يحدد اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الأهلية اللبنانية وأصبح جزءاً من الدستور اللبناني، أصول اللعبة السياسية باعتماد الديموقراطية العددية في تأليف الحكومة وليس الديموقراطية التوافقية كما هو الحال في اتفاق الدوحة، الذي تريد المعارضة اعتماده ريثما تنجح في تعديل اتفاق الطائف، وتعود الدعوة الى تشكيل حكومة وسطية بعد الانتخابات النيابية، الى الخوف من دخول لبنان في أزمة حكم، نتيجة عدم الثقة بين «قوى 8 و14 آذار» والتناقض بين مشروعيهما، قد تؤدي الى فتنة طائفية ومذهبية، أو العودة الى الوضع الحالي خوفاً على الاستقرار الأمني، بحيث تكون وظيفة هذه الحكومة ادارة شؤون الدولة وتأمين مصالح المواطنين. وعند جلاء الأوضاع العربية والإقليمية باتجاه ايجابي، يصبح في الإمكان تأليف حكومة من الغالبية النيابية أو حكومة وحدة وطنية من دون «الثلث المعطل»، تقوم بمسؤولياتها وتتحمل تبعات اعمالها امام المجلس النيابي والشعب اللبناني. ومن أهم هذه المسؤوليات تثبيت السيادة الوطنية، وبسط الشرعية على مجمل الأراضي اللبنانية، وتعزيز قدرات القوى العسكرية والأمنية الرسمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية، وترسيخ الوحدة الوطنية وتنفيذ القرار الأممي 1701. أما إذا قرر اللبنانيون إعطاء الغالبية النيابية ل «قوى 8 آذار» وتمسكت هذه القوى بحقها في تأليف الحكومة وبقيت «قوى 14 آذار» على موقفها من عدم المشاركة، فإن لبنان سيواجه وضعاً صعباً نتيجة ارتباط هذه القوى بالمحور الإقليمي، ما قد يؤثر في الاستقرار السياسي الداخلي والدعم العربي والدولي وركود الحركتين التجارية والسياحية وتوقف الاستثمارات. أما إذا ادت الانتخابات الى بروز كتلة وسطية معتبرة تدعم الخط التوافقي لرئيس الجمهورية، وهذا ما نتمناه، فإنها بذلك تكون الكتلة الوازنة بين فريقي الغالبية والأقلية النيابيتين، ويصبح في الإمكان تأليف حكومة وحدة وطنية يكون فيها الثلث الضامن بيد رئيس الجمهورية، ما يؤدي الى تصويب اعمال المؤسسات الدستورية. * كاتب لبناني.