كان محمد السعدي، وهو موظف بنك متواضع، واقفا عند محطة باص مزدحمة بالركاب في طريق عودته إلى منزله في فترة الغداء في بغداد، عندما توقفت على مقربة من المكان سيارة خاصة، وترجل منها شاب وسار باتجاه السعدي وهو يناديه باسمه، وعندما استدار السعدي أخرج الشاب مسدسا وصوبه إلى رأس الموظف وأطلق الرصاص فأرداه. وفيما كان القاتل يتجه ببرودة أعصاب عائدا إلى السيارة، بينما وقف العشرات من الركاب والمارة مندهشين مما حصل، سُمع صوت من داخل السيارة يقول "تأكد أنه مات"، فأجاب الشاب "إنه ميت". وما أن صعد إلى السيارة حتى تحركت بسرعة فائقة، تاركة السعدي 56 سنة مضرجا بدمه وفي جيب سترته مبلغ من المال كان ينوي به شراء بعض الغذاء. وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" ان هذا الحادث ليس الوحيد من نوعه الذي يقع في وضح النهار في العراق، فمثله وقعت أخيرا سلسلة من الحوادث الشبيهة، منها اغتيال عبدالرحمن الجبوري، المعلم الذي قتل وسط السوق، وبائع الصحف رزاق عبدالخالق الذي أطلقت عليه النار وهو يخدم زبائنه في كشكه. لكن هؤلاء القتلى تربطهم رابطة مشتركة، فهم جميعا أعضاء على مستوى منخفض في حزب البعث العراقي بقيادة الرئيس السابق صدام حسين. وهذا هو السبب الذي من أجله قتلوا حسب اعتقاد الجيران، الذين يقولون ان عمليات الاغتيال هذه جزء من حملة انتقام سرية لاصطياد أعضاء حزب البعث بمختلف مستوياتهم وقتلهم. فعمليات الاغتيال تشير إلى توجه ذي أبعاد مخيفة في بلد أرغم فيه عشرات الآلاف على الانضمام الى الحزب كشرط للحصول على وظيفة، على نحو كان فيه البعثيون يعملون مخبرين ضد الآخرين. لا أحد يعرف كم من البعثيين قتل في العراق منذ سقوط نظام صدام، فيما يقدر عددهم ببضع مئات. ويقول عراقيون مطلعون على عمليات الاغتيال الأخيرة ان القتلة يعملون على ما يبدو بشكل منهجي ويملكون قوائم بأسماء أعضاء حزب البعث، يعتقد أنها سرقت من مقرات الحزب عقب سقوط النظام، وهي ليست عمليات لتصفية حسابات شخصية. ووفقا لأطباء يعملون في مستشفيات بغداد، تستقبل هذه يوميا عشرات الإصابات بالرصاص أو بالسكاكين لأشخاص يتعرضون للاعتداء في بغداد فقط بسبب انتمائهم لحزب البعث، فيما ما زالت الشرطة العراقية، التي تشكلت أخيرا بمساعدة أميركية، غير قادرة على ضبط الشارع وفرض هيبتها على المواطنين. ويقول ضباط شرطة انه من غير الممكن لجهازهم بوضعه الحالي الذي لا يملك سوى عدد من المسدسات وسيارات الدورية إجراء تحقيقات ناجحة للكشف عن منفذي عمليات الاغتيال هذه. ونقلت الصحيفة عن ضابط الشرطة حازم صالح الذي يعمل في مركز للشرطة قرب منزل السعدي قوله "لدينا عدد كبير جدا من قضايا القتل، ومن الصعب الإشارة إلى سببها". وأضاف "قد تكون هذه الاغتيالات عمليات انتقامية. فقط الله وحده يعلم، كم من الغضب تختزنه صدور العراقيين". وقد يكون هناك ميل لدى العراقيين الذين عانوا في ظل نظام صدام لتفهّم عمليات الاغتيال على أساس أنها انتقامية. لكن هذه العمليات بحد ذاتها تشكل تعقيدا إضافيا للوضع في وجه جهود إعادة تشكيل الحكومة الجديدة التي تقودها الولاياتالمتحدة. وكانت الإدارة الأميركية في العراق منعت الأعضاء السابقين في حزب البعث من تسلم مناصب كبيرة في جهاز الدولة والمؤسسات العامة، لكنها سمحت لحوالى 5.1 مليون عضو سابق في الحزب باستلام مناصب أقل أهمية. مثال على ذلك جهاز الشرطة الذي يتشكل في غالبيته العظمى من رجال شرطة سابقين كانوا أعضاء في الحزب. ويجب ألا ننسى أن الأطباء والمعلمين وموظفي المتاحف ينطبق عليهم جميعهم تعريف عضوية الحزب. ووفقا لعصام، نجل السعدي، الذي اضطر بنفسه إلى الانضمام إلى الحزب للحصول على وظيفة شرطي في عهد صدام، أنه لم يكن أمام العراقيين من سبيل للحصول على وظيفة أو مواصلة التعليم، سوى الانضمام للحزب. وأضاف أن والده كان يدرك وجود عمليات انتقامية تستهدف البعثيين، لكنه اعتقد أن منفذيها يستهدفون الأعضاء ذوي المناصب العالية في الحزب أو رموزه، أمثال المغني داود قيس الذي اعتاد في أغانيه تمجيد صدام. وكان قيس قتل أمام منزله في أيار مايو الماضي في ما يعتقد بأنه عملية اغتيال انتقامية. وفي تموز يوليو الماضي تعرض منزل السعدي لإطلاق نار من مصدر مجهول، فتوجه الأب محمد إلى الجامع مستفسرا عما إذا كان هو أو أحد من أفراد عائلته مستهدفا، فقيل له ألا يهتم بالأمر. وفي آب أغسطس الماضي أعاد البنك الذي كان يعمل فيه فتح أبوابه، فاستدعي السعدي إلى العمل، لكنه قتل بعد شهر من استئنافه العمل. وعلى مقربة من منزل عبدالخالق بائع الصحف الذي اغتيل أخيرا، يسكن محمود الجلبي العضو السابق في حزب البعث الذي عمل في الماضي حارسا في المدرسة الابتدائية للحي، لكنه غادر المنزل واختفى منذ فترة قصيرة بعد أن تعرض منزله لإطلاق نار. وقالت فتحية زوجته "تخلصنا من صدام فطلع لنا مئة صدام جديد".