مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«رجلنا في بغداد»: رجل الظل ... هل يستطيع إياد علاوي أن يوحّد العراق؟ (3)
نشر في الحياة يوم 02 - 06 - 2010

 تنشر «الحياة» على خمس حلقات فصولًا من كتاب الصحافي الأميركي جون لي أندرسون «رجلنا في بغداد» الذي يتناول فيه بعض خفايا الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات الجانبين العراقي والأميركي إعادة ترتيب الوضعين السياسي والأمني في البلد، في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة.
تتناول الفصول أدوار شخصيات محورية في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والأحداث التي واجهتها والمساعي الداخلية والخارجية لتطويق أخطار الحرب الأهلية.
يصدر الكتاب باللغة العربية قريباً عن مؤسسة «شرق غرب للنشر- ديوان المسار».
قبل أيام من بداية رأس السنة الجديدة، وفي يوم مشمس رائق في العاصمة الأردنية عمان، تناولت الشاي مع إياد علاوي رئيس وزراء العراق للحكومة الانتقالية. وجلسنا في باحة منزل لا يثير الانتباه خصص كمقر محلي لتنظيمه السياسي المسمّى بالوفاق الوطني العراقي.
واحتشد الكثير من رجال الأمن العراقيين والأردنيين طرف الباحة وكانوا يدخنون السجائر. ولم يكن بالقرب من إياد علاوي سوى الحارس الشخصي الأميركي الذي كان يرتدي بدلة سوداء ونظارة سوداء تعطيه هيئة العميل السري. وقد أسدلت كل ستائر نوافذ الفيلا المطلة على الباحة.
لقد كان علاوي في محطة ليومين في عمان وهو في طريق عودته إلى بغداد بعدما قضى عطلة أعياد الميلاد مع زوجته وأطفاله الثلاثة الذين يعيشون في لندن. حين وصلت الفيلا كان علاوي يجري حديثاً في الداخل مع أحد زعماء السنّة وهو الشيخ ماجد عبدالرزاق السليمان رئيس إحدى عشائر الدليم المتنفذة في محافظة الأنبار التي تضم الرمادي والفلوجة، تلك المدن التي ابتليت بالأعمال المسلحة ضد الاحتلال الأميركي للعراق.
وفي شكل أقل شداً للأعصاب سرت اشاعات متواصلة قبل أسبوع من فترة حكم علاوي أنه قد أعدم وقتل الكثير ممن يشتبه بكونهم إرهابيين محتجزين كسجناء في مركز شرطة في بغداد. وحين سأله مراسلون عن ذلك، أنكر علاوي بكونه قام بإعدام أي شخص، لكنه أضاف أن في إمكانه القيام بأي شيء ضروري لحماية العراقيين. لقد كنت في بغداد في تلك الفترة وكان الكثير من العراقيين الذين تحدثت معهم يؤمنون بهذه الإشاعات بل ويرى صحافيون وديبلوماسيون أن علاوي كان قد بثها بنفسه بغية تعزيز سمعته المتشددة.
على أية حال، في أواخر حزيران (يونيو) جلست في مقابلة كان يجريها (بول ماكجو) وهو مراسل لصحيفة «سيدني مورننغ هيرالد» لرجل ادعى أنه شاهد على الإعدامات. وقد وصف كيف أن علاوي توجه إلى سبعة متهمين تم إيقافهم أمام الحائط في باحة مركز الشرطة وكانت وجوههم مغطاة. وبعدما تم إخباره عن جرائم هؤلاء من جانب مسؤول في الشرطة، طلب علاوي مسدساً ثم أطلق النار في الرأس على كل سجين. بعد ذلك قال الشاهد إن علاوي أعلن للحاضرين: «هكذا يجب أن نتعامل مع الإرهابيين». وقال إنه يوافق على ما قام به علاوي، مضيفاً أن من الأفضل لهؤلاء أن يموتوا لأنهم تعرضوا للتعذيب لأيام عدة.
وبرهنت شخصية الرجل القوي لعلاوي على أنها مفيدة من الناحية السياسية، فقد ساعدته على تعزيز تصوره بأنه يحمي السيادة العراقية حتى وإن كان العراق لا يزال بلداً محتلاً ومشروع أمنه مشروعاً أميركياً بحتاً. في آب حاول علاوي التفاوض على إنهاء انتفاضة النجف التي قادها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. وحين انتهت المحادثات إلى طريق مسدود قامت قوة مؤلفة من ألفي رجل من مشاة البحرية وألف وثمانمئة من أفراد الجيش العراقي بقتل قرابة ألفي مسلح ومئات المدنيين قبل التوصل إلى صفقة. وكان علاوي قد أصدر أمراً رسمياً ببدء الهجوم وذهب بطائرة هليكوبتر إلى النجف خلال القتال، لكن الأميركيين كانوا قد أخذوا زمام الأمور.
كانت إحدى أولويات علاوي الرئيسة كما أخبرني هي تأسيس جيش عراقي مدرب جيداً ومجهز جيداً يكفي ليحل محل القوات الأميركية، وقد أسس مديرية وطنية للأمن والشرطة الوطنية مكرسة لمقاومة الإرهاب. لكن أحد كبار الضباط الأميركيين الذين عملوا عن كثب معه أخبرني أن علاوي محبط في شكل هائل لعدم وجود جيش أفضل. وقال إن الأمر بالنسبة اليه مثل بستاني من دون مساحة صغيرة.
في تشرين الثاني (نوفمبر) تسلم علاوي مسؤولية القرار بإرسال مشاة البحرية إلى الفلوجة، ما أدى إلى مقتل الآلاف، على رغم أن ذلك أعاد المدينة إلى سيطرة الحكومة. لكن هجوم الفلوجة لم ينه الأعمال المسلحة للسنّة. فقد اتسعت هذه الأعمال واكتسبت زخماً وشدة. وبعد عملية الفلوجة أصبحت مدينة الموصل الشمالية التي قتل فيها 22 جندياً أميركياً وعراقياً في خيمة الطعام حين فجّر انتحاري نفسه قبل أعياد رأس السنة، مسرح الحرب الكبير الجديد. وفي بغداد سادت عمليات الاغتيالات والتفجيرات الانتحارية وأصبحت حوادث روتينية. وأخذ المتمردون يسيطرون على بعض المناطق ويهاجمون الدوريات العسكرية الأميركية ويقتلون رجال الشرطة العراقية ويعدمون مسؤولي الانتخابات.
ولد إياد علاوي عام 1945 لعائلة بغدادية. وكان والده طبيباً شيعياً عراقياً. أما أمه فهي لبنانية شيعية ومديرة مدرسة من عائلة عسيران.
نشأ علاوي في الأعظمية، وهي منطقة غنية سنّية في الغالب تقع شمال غربي بغداد وعلى ضفة نهر دجلة حيث تقع على الضفة الأخرى منطقة الكاظمية حيث يعيش أفراد الأسرة الجلبية. وقد درس علاوي في أفضل المدارس في العراق وهي مدرسة كلية بغداد. وكان من بين الطلبة الآخرين أحمد الجلبي وعادل عبد المهدي وزير المالية الحالي. وكأطفال خلال الخمسينات، كان آل علاوي وآل الجلبي أعضاء النخبة وأحفاد عراقيين كانوا وزراء وأعضاء برلمان في سنوات الحكم الملكي الذي أقامته بريطانيا في العراق. وخلال العطل الصيفية كان علاوي يسافر مع عائلته إلى لبنان وأوروبا.
التعاون مع صدام
عام 1958 أطاحت ثورة دموية قادها الجيش بالحكم الملكي وأنهت بذلك حياة العوائل الأرستقراطية مثل عائلتي علاوي والجلبي. حتى إن بعض أقربائهما القدماء والمعنيين بالسياسة قد هوجموا من الغوغاء الذين رأوا فيهم أفراداً في حكومة الأثرياء الكريهة. وقد أرسل ابن عم اياد علي علاوي وأغلب أبناء عمه إلى الخارج لغرض الدراسة. وذهب علي إلى مدرسة خاصة في إنكلترا. بينما انتقل الجلبية إلى لبنان عام 1959. ودرس إياد علاوي وأحمد الجلبي في كلية (ام أي تي) ثم انخرط كلا الرجلين في عالم البنوك، وفي أواسط السبعينات دخل كلاهما في عالم السياسة للمنفيين العراقيين.
في أثناء ذلك كان إياد علاوي يدور في فلك سياسي واجتماعي مختلف. فقد بقيت عائلته في العراق. وعمل في شكل عميق في صفوف حزب البعث الذي انضم إليه بعمر الثانية عشرة. وأخبرني أحد أقربائه قائلاً: «حقيقة أن إياد علاوي أصبح بعثياً فهو أمر لم يكن مستغرباً من ولد عراقي بعمره وصفّه. ففي تلك الأيام لديك خيار في أن تكون إما شيوعياً أو بعثياً». وقد ناهض البعثيون حكم الرئيس عبدالكريم قاسم الذي اعتبرت حكومته متأثرة بالشيوعيين. ويتذكر هذا القريب قائلاً: «لقد أصبح علاوي منظماً وأحد المقاتلين في الشارع. وقد ألقي القبض عليه مرات عدة ولكن من دون تحمل عواقب كثيرة بسبب نفوذ عائلته وصلاتها».
أخبرني علاوي أنه بعد أيام قليلة من انقلاب عام 1968 تم اغتيال محام مرموق من بغداد من جانب قتلة يرتبطون بصدام فتغيرت ميوله. وقال إنه حين أخذ صدام يقوي سلطته تعمقت لديه (أي لدى علاوي) أخطاء صدام. ففي عام 1971 وبينما كان علاوي في زيارة إلى لبنان قررت القطيعة النهائية معهم، أي البعثيين. وقام بعض الأصدقاء في بغداد بالاتصال به وأخبروه أن صدام يجري تطهيراً في النظام وحذروه من العودة إلى العراق. فقرر علاوي السفر إلى لندن لإكمال دراسته الطبية. ولكن كما هو الحال في الغالب، فإن رصيد علاوي مما حدث في ما بعد لا يتناسب مع ذكريات الآخرين.
القصة التي يتداولها الكثيرون عن السنوات الأولى لإياد علاوي في لندن هي أنه كان لا يزال يعمل لمصلحة حزب البعث العراقي ولصدام باعتباره رئيس شبكة تشرف وتراقب العدد الهائل من المهاجرين العراقيين والطلبة الشيوعيين في أوروبا. وقال محمد صادق البدري: «حينما ذهب علاوي إلى لندن أصبح مسؤولاً عن حزب البعث في المملكة المتحدة». بعد ذلك أصبح مسؤولاً عن خلية المخابرات التي كانت تعمل من السفارة. ومهمتها هي مراقبة الطلبة العراقيين، وكان علاوي يعرف الكثير منهم، وأراد التأكد من أن هؤلاء الطلبة مستمرون في موالاتهم للحزب. كما قال البدري إن علاوي اصطدم مع صدام حين سمع الأخير أن علاوي كان قد اتصل بجهاز المخابرات البريطاني (ام. أي 6)، فدعاه صدام للعودة إلى بغداد لكنه رفض فتقاعد من الحزب كما يقول البدري. وأخبرني علاوي أنه لم يبدأ العمل مع المخابرات البريطانية عام 1990، لكن ما من شك في أن تحالفاً معيناً قد بدأ قبل ذلك بسنوات. وقد استفاد كلا الطرفين من هذه العلاقة، فبالنسبة إلى البريطانيين كان علاوي معارضاً عراقياً قوياً تمنح معرفته وصلاته وسائل محتملة للنفوذ المستقبلي هناك. أما بالنسبة إلى علاوي، فإن العلاقة مع جهاز المخابرات البريطاني قد أكدت له البقاء المستمر في بريطانيا وجهّزته بالمال لأجل بناء عمليته السياسية أثناء بقائه في المنفى.
لقد قدم علاوي إيضاحاً مطولاً وصعب الإدراك عن نشاطاته في لندن. فقد أخبرني أنه حينما انتقل إلى هناك لم يكن لديه شيء أكثر يعمله مع حزب البعث العراقي أو مع صدام حسين. قال إنه كان مرتبطاً ليس مع حزب البعث العراقي، بل مع الحركة البعثية العالمية، وكان يخدم فيها كرئيس لفرع أوروبا الغربية لحزب البعث العربي. في عام 1975 ترك تلك الجماعة كذلك كما قال لأنه رأى أن صدام كان يفرض سيطرته عليها كثيراً. لقد أخبرت علاوي أن الكثير من العراقيين الذين تحدثت معهم كانوا تحت انطباع أنه كان يمثل حزب البعث العراقي أو المخابرات العراقية خلال السنوات الأولى له في إنكلترا. فاحتج قائلاً: «لا، لا. أولاً أنا لم أعمل كموظف حكومي مطلقاً ولم أعمل في المخابرات أو أي شيء من هذا القبيل. ثانياً لم يكن هناك أي شيء يدعى بالمخابرات حين غادرت العراق». وأوضح أن التنظيم المعروف بذلك الاسم قد ظهر إلى الوجود فقط عام 1973.
وفي حوالى ذلك الوقت كان علاوي قد حصل على درجة الماجستير في علم الأمراض من كلية لندن الجامعة، وكان على وشك إكمال أطروحة الدكتوراه في علم أمراض الروماتيزم من مستشفى (كايز). وكان قد بدأ الالتقاء في شكل منظم مع المنفيين الآخرين، إلا أنهم لم يشكلوا بعد في حينه مجموعة معارضة. مع ذلك كان صدام قلقاً في شكل واضح من نشاطاتهم. وقال علاوي: «إن صدام بدأ حقاً بالاعتقاد أننا كنا نشكل جماعة للإطاحة بالنظام».
وبدءاً من عام 1975 تم اغتيال الكثير من أصدقاء إياد علاوي المقربين من جانب قتلة يعتقد أن صدام كان قد أرسلهم لهذه المهمة. وقد قتل أحدهم في بيروت والآخر قتل بعد عودته إلى بغداد خلافاً لنصيحة علاوي. سألت علاوي عن سبب اعتقاده أن صدام لم يستهدفه في شكل مباشر، فأوضح أن صدام ولسنوات قد حاول إغراءه بالعودة إلى الحزب وأرسل مبعوثين إلى لندن لأجل هذه الغاية. إلا أنه رفض تلك المحاولات.
عام 1978 جاء أخيراً من يتبعه. ففي إحدى الأمسيات كان علاوي وزوجته (اثور) نائمين في بيتهما في إحدى ضواحي لندن حين دخل رجلان كان أحدهما يحمل فأساً وهاجماه. وقال مستذكراً: «لقد ضرباني على رأسي وصدري وساقي، حتى ظهرت عظام ساقي وكان الدم في كل مكان. وقد أصيبت زوجتي في شكل كبير جراء هذا الهجوم كذلك وهي تحاول الدفاع عني». وخلال الصراع استطاع علاوي الإمساك بالفأس من يد مهاجمه الذي هرب مع رفيقه. وهنا أصبح صوت علاوي منخفضاً ومتألماً، وذكر أن الحادث أدى إلى أن تصبح زوجته تعاني من اللوثة العقلية. (عام 1981 طلق علاوي زوجته أثور التي ماتت في السنة الماضية نتيجة إصابتها بالسرطان وتزوج ذانا زوجته الثانية عام 1987).
قضى علاوي قرابة السنة في المستشفى يتعافى من الاعتداء الذي يعتقد أن صدام قد أمر به. وقضى فترة النقاهة يتساءل عن عمله في السياسة. قال: «حين كنت راقداً في المستشفى فكرت مع نفسي هل يستحق الأمر الاستمرار في محاربة صدام أم لا؟ فقررت أن مصيري ومصير بلدي وكل شيء أمثله يتطلب مني قطعاً أن أحارب. وفي اليوم الذي غادرت فيه المستشفى وكان يوم خميس ذهبت مباشرة لأرى بعض أصدقائي وأخبرتهم أن علينا أن نتحد الآن وعلينا أن نعمل بنشاط للإطاحة بالنظام».
العودة الى الأضواء
بعد هزيمة صدام في حرب الخليج عام 1991 تبنى علاوي دوراً علنياً أكثر كزعيم لتنظيم جديد هو الوفاق الوطني العراقي. ومنذ ذلك الحين كما يقول علاوي: «فقد كنت أكرس كل وقتي للعراق». إن هدف الوفاق كان الإطاحة بصدام من طريق انقلاب يقوده البعثيون المنشقون وضباط الجيش. وفي الوقت ذاته كان أحمد الجلبي قد أسس تنظيماً منافساً وهو تنظيم المؤتمر الوطني العراقي الذي تموله أيضاً وكالة المخابرات المركزية الأميركية وبالأجندة نفسها. إلا أن استراتيجية الجلبي كانت مختلفة. فباعتباره مناهضاً شديداً للبعثيين فقد دار في مخيلته أن تكون هناك انتفاضة شعبية ضد صدام تكون قاعدتها في شمال العراق حيث كان قد أقام علاقات له مع الميليشيات الكردية.
عام 1991 جرت الموافقة على خطة الجلبي من جانب وكالة المخابرات المركزية وجمع الآلاف من المقاتلين وأغلبهم من الأكراد في شمال العراق. وكانت الخطة عبارة عن كارثة. فقد بعث صدام بقوة مسلحة قامت بذبح المئات من جنود الجلبي. بعد ذلك سحبت وكالة المخابرات المركزية تمويلها من الجلبي.
أما الخطة المنافسة لعلاوي فقد وضعت قيد التنفيذ عام 1996 مع موافقة البيت الأبيض وتمويل وكالة المخابرات المركزية. (وقال خالد الشمري الذي يعمل الآن مستشاراً في عالم الأعمال في بغداد إن علاوي أخبره في أواسط التسعينات أن «الوفاق الوطني العراقي» استلمت 26 مليون دولار من الولايات المتحدة). وادعى علاوي أنه أدام الاتصال مع عصبة من ضباط الجيش العراقي ممن يفترض انهم موالون له. لكن يبدو أن أحداً من هؤلاء قد خانه. ففي حزيران كان صدام قد اكتشف وجود مؤامرة فباشر في الحال بملاحقة وحشية للمتآمرين داخل الجيش. وأعقب ذلك بعمليات إلقاء القبض وتعذيب وإعدام المئات جراء ذلك. وكانت تلك بمثابة نهاية لمحاولات إدارة كلينتون الفاشلة في الإطاحة بصدام.
أما عن بقية فترة التسعينات، فيمكن القول إنه بينما كان صدام في السلطة، فإن علاوي والجلبي بقيا في المنفى يقومان بتوفير المعلومات الاستخبارية من وكلائهما داخل العراق إلى الحكومتين الأميركية والبريطانية وانتظار شيء قد يؤدي إلى التغيير. ومباشرة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 بدأت إدارة بوش بالتخطيط للحرب ضد العراق. وظهر الجلبي وعلاوي مرة أخرى إلى السطح كشخصيتين بارزتين للمعارضة العراقية التي أصبحت فاعلة في شكل مفاجئ.
لقد ساعدت المعلومات الاستخبارية لكليهما على تعزيز قضيتي حكومة بلير وبوش ضد صدام في مستهل الحرب. وكان كثير من هذه المعلومات خاطئاً. في الواقع ان الادعاء غير الموثق للحكومة البريطانية والذي تبناه الرئيس بوش بأن صدام وفي 45 دقيقة يستطيع أن ينشر أسلحة دمار شامل كان مصدره حركة الوفاق الوطني العراقي. وسببت هذه الحادثة غضباً في بريطانيا. وأوضح متحدث باسم علاوي، هو نك ثيروس، في ما بعد أن «الوفاق الوطني العراقي» قد سمعت هذا الادعاء من مصدر واحد ومرّرته إلى المخابرات البريطانية بنية طيبة.
وبخلاف الجلبي الذي أصبح سيء الصيت في أميركا لأنه زرع الكثير من القصص المشكوك فيها حول برامج أسلحة صدام، فإن علاوي قد برز نوعاً ما دون ضرر من سوء المعلومات الاستخبارية. في الربيع الماضي هبطت فرص الجلبي السياسية أكثر بعدما اتهم بتقاسم الأسرار الاستخبارية الأميركية مع إيران. وقد داهمت القوات الأميركية بيته في بغداد وقطعت وزارة الدفاع الأميركية علاقتها معه. وقبل ذلك بأسابيع قليلة كان علاوي رئيساً للوزراء في الحكومة الانتقالية.
لقد كان تعيينه لهذا المنصب مفاجأة. فعلاوي كان قد حافظ على مظهر متواضع خلال السنة الأولى من الاحتلال، وكانت صلاته الجيدة مع المخابرات البريطانية والأميركية قد دمرت سمعته بين العراقيين. مع ذلك فقد كانت له صلات طويلة مع صناع السياسة الأميركيين ممن كانوا يثقون به. وطبقاً لما قاله مسؤول أميركي في بغداد كان مطلعاً على عملية الانتخاب من أن علاوي كان ينظر إليه كمرشح بأقل المسؤوليات.
وأضاف: «لم يكن هناك الكثير من المرشحين بصراحة. وكان من الواضح أن المرشح تعين أن يكون شيعياً». لقد أوضح أن الأميركيين شعروا بعدم الراحة من المتنافسين البارزين (سياسيون شيعة يمثلون أحزاباً دينية مرتبطة مع إيران). أخيراً تم حسم تسمية علاوي حين وافق عليه أعضاء مجلس الحكم العراقي بالإجماع. إن بروز علاوي المفاجئ من الغموض أشار إلى درجة مؤثرة من الغريزة السياسية ليست أقل من معرفة كيف ومتى يجب أن يقدم نفسه كشخص مفيد.
قال المسؤول الأميركي في العراق الذي عمل في شكل وثيق مع علاوي خلال السنة الماضية إنه لم يفاجأ بنجاح علاوي. فعلاوي يلعب بأوراقه وهي قريبة من صدره لكن بعد كل شيء هو متآمر بعثي سابق، وهذا بحد ذاته السبب في عدم الاستغراب من أن علاوي ليس ديموقراطياً ليبرالياً. وضحك هذا المسؤول ثم أضاف: «إنه مدرك أننا شيء ضروري بالنسبة الى العملية. إنه يمتلك غرائز سياسية جيدة وأنا أحبه».
في الأسبوع الأول من كانون الثاني، ذهبت لمقابلة علاوي في مقر سكناه الرسمي في بغداد. وكان هناك حراس يرتدون الزي الأسود ويحملون رشاشات الكلاشنيكوف عند المدخل في الطريق المؤدي إلى بيته. وبينما انتظر الحراس التخويل بإدخالي جعلوا سائق سيارتي يتراجع ويوقف سيارته.
وعلى بعد 15 قدماً رأيت بقعة سوداء كبيرة على الطريق وبعض آثار العجلات بالقرب منها. البقعة كانت لسيارة مفخخة فجّر انتحاري نفسه فيها قبل أربعة أيام.
«الرجل القوي»
سألت علاوي عن سمعته كرجل «شديد»، فأومأ برأسه وقال: «هناك أسباب عدة لذلك. فحين كنت شاباً شاركت في أحداث سياسية بما في ذلك انقلاب عام 1968. كما قاومت النظام بشدة حتى عندما أرادوا قتلي. وأنا أتحدث دائماً عن الحاجة الى وجود عراق قوي مع جيش قوي ليس هدفه تهديد جيراننا بل الدفاع عن أنفسنا. إن همنا هو إعادة جيشنا واستعادة قدرته وإعادة بناء قدرتنا الاستخبارية». وتفاخر في حديثه عن زياراته إلى النجف خلال القتال في الصيف الماضي: «أنا لا أجبن في وجه التهديدات».
قال علاوي إنه حتى قبل الحرب حينما سمع للمرة الأولى باجتثاث البعث في العراق فإنه وقف ضد ذلك بقوة. وقال إن البرنامج كان ينبغي أن يسمى اجتثاث الصداميين، أي الموالين لصدام حسين، لأن في رأيه أغلب العراقيين الذين كانوا أعضاء في حزب البعث خلال سنوات صدام قد استخدموا ذلك كوسيلة للعيش ووسيلة للحصول والبقاء في الوظائف وغيرها من امتيازات الدولة. وقال إن البعث «انتهى» كأيديولوجية تماماً كما انتهت الماركسية - اللينينية. فقد ولى زمانها. أما بالنسبة إلى البقية من البعث كالنخبوية والسرية واستخدام القوة، فإن لا مجال لذلك بعد الآن. إنه وقت الديموقراطية وحكم القانون».
حين ناقشنا تعذيب المحتجزين وإهانتهم في سجن أبي غريب من جانب الأميركيين اختار علاوي كلماته بعناية كبيرة وقال: «كما تعرف أن مثل هذه الأمور تحدث وقت الحرب. طبعاً ينبغي ألا تحدث، لكنها تحدث وفي وسعك أن تفهم أن المسؤولين عن ذلك يجب أن يحاكموا، لكنك تعرف أيضاً أنه تحت وطأة الحرب وفي غياب العمل القضائي، فإن مثل هذه الأمور تحدث. نحن يجب أن نستعيد المؤسسات القضائية بحيث تحول دون حدوث مثل هذه الأشياء. لكننا الآن في وسط الحرب ونحارب الإرهاب. وعقول الإرهابيين مغلقة وهم مصممون على القتل والتدمير ليس فقط هنا في العراق بل في كل العالم. لذا فإن وضع خط للمحققين لا يمكنهم تجاوزه سيرميهم في طائلة الأخطاء. فأنت تمسك بمجموعة من المشتبه بهم وتأخذهم إلى التحقيق. ربما بعضهم مذنب وبعضهم الآخر بريء. ففي هذه الحرب المقيتة التي يأتي بها الأشرار يعاني الأبرياء دائماً».
* غداً حلقة رابعة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.