قبل ان يتم الاتفاق على تقديم مشروع قرار الدول العربية الى مجلس الامن، اتصلت شخصية عربية نافذة بياسر عرفات لتطلب منه تأجيل هذا الموضوع منعاً لإحراج الإدارة الاميركية. وقال المتحدث في القاهرة ان وزير الخارجية كولن باول اتصل بنبيل شعث ليؤكد له ثبات الموقف الاميركي الداعي الى رفض المساس بعرفات. كذلك أخبره ان مستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس اتصلت بشارون لتُبلغه ان الولاياتالمتحدة تعتبر بقاء عرفات مصلحة اميركية واقليمية. وبناء على هذا الموقف الرسمي طلب المتحدث من عرفات الاكتفاء بعرض قرارات مجلس الامن السابقة، والعمل على استغلال موجة الاستنكار ضد قرار التصفية او الإبعاد. رفض رئيس السلطة الفلسطينية هذا الطلب من منطلق الحرص على كشف حقيقة الموقف الاميركي الرسمي. وقال لمحدّثه ان ايجابيات مشروع القرار كثيرة، منها: اولاً: إحراج ادارة جورج بوش عن طريق إظهار لونها الحقيقي ومنعها من الاختباء وراء سياسة ازدواجية المعايير. ثانياً: اذا كانت ادارة بوش مؤمنة حقاً بضرورة منع الأذى عني، فهذا يخلق خلافاً بينها وبين حكومة شارون. وفي الحالين ان ذلك سيعود على القضية الفلسطينية بالنفع العميم. الإدارة الاميركية فضّلت ان تكون محرجة تجاه الرأي العام الدولي على ان تكون مختلفة مع اسرائيل. لذلك استخدمت حق النقض الفيتو ضد مشروع قرار يطالب اسرائيل بعدم المساس بالرئيس الفلسطيني، او ترحيله. ولكي لا يبدو موقفها بمثابة ضوء اخضر للتخلص من عرفات، جدّدت الادارة الدعوة الى عزله باعتباره يمثّل عائقاً في طريق تنفيذ "خريطة الطريق". يجمع المحلّلون على القول بأن عرفات لم يهتم بردود فعل الادارة الاميركية قدر اهتمامه بردود فعل الاسرة الدولية تجاه قرار التصفية او الإبعاد الى تونس او ليبيا او لبنان. وفي حساباته ان اعلان شارون الاستفزازي أثار موجة عارمة من الاستنكار والاستهجان استفاد منها هو شخصياً لتغطية الخطأ السياسي الذي اقترفه بحق محمود عباس. وكان واضحاً من اتصالاته بالدول المعترضة ان التهور الاسرائيلي منحه فرصة ذهبية لإعادة تفعيل دوره السابق، وإبرازه من جديد كزعيم فلسطيني يصعب تهميشه او تجاهله. ولقد جدّدت حملة الاستنكار التي شاركت فيها دول كثيرة مثل السعودية والأردن ومصر وفرنسا والمانيا وايطاليا، اضافة الى موقفي الفاتيكان وكوفي أنان… حيوية عرفات وقوّت معنوياته بحيث اتسعت ضحكته واختفى اهتزاز شفّته السفلى. وهو يرى ان مصالحته مع النظام السوري عبر الاتصال الذي أجراه مع الوزير فاروق الشرع، يمثل قمة الإفادة السياسية التي كسبها على الصعيد الإقليمي. لهذا وصفته الصحف الاميركية بالإطفائي الذي يتجلى دوره اثناء الحرائق، ويرى "أبو مازن" ان الخطوة المهمة التي توقع عرفات حدوثها خلال هذه الازمة، كانت تتمثل باحتمال فتح حوار مفاجئ مع الرئيس الاميركي. ولكن بوش بقي مصراً على مقاطعته لإيمانه بأن ابو عمار سيكذب عليه مرة ثانية، كما كذب في رسالته المتعلقة بباخرة السلاح. والمعروف ان عرفات كتب الى بوش رسالة مسهبة يتبرأ فيها من كل اتهام وجّهه اليه شارون بشأن الباخرة التي احتجزتها القوات البحرية الاسرائيلية. ولما بعث الرئيس الاميركي بنسخة من الرسالة الى رئيس وزراء اسرائيل، ردّت "الموساد" بتثبيت الاتهامات عن طريق اظهار وثائق الشحن ومصادر الفواتير المدفوعة من قبل "فتح" وبأمر صادر عن عرفات شخصياً. وهذا ما أدى الى اعلان القطيعة، والى امتناع البيت الابيض عن استقبال عرفات. او هذا على الأقل ما تذرّع به جورج بوش لتبرير قرار استبعاد الرئيس الفلسطيني عن مشاريع السلام. السؤال الآن يتعلق بترجمة "الفيتو" الاميركي ضد المشروع العربي في مجلس الأمن، وما اذا كان شارون يعتبره بمثابة ضوء اخضر للتخلّص من عرفات؟ يقول شارون انه سينسّق مع الادارة الاميركية حول كل الخطوات المرتبطة بتصفية عرفات جسدياً، او إبعاده خارج الاراضي الفلسطينية. علماً أنه قرر الاستناد الى نتائج الاستطلاع الذي اجرته صحيفة "هآرتس"، وفيه يعتبر اكثر من ثلثي الاسرائيليين ان العمليات الموجهة ضد قادة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" مُبرّرة. وقال 68 في المئة ممن شملهم الاستطلاع، ان محاولة اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مبرّرة، وانه من الضروري تكرارها مجدداً. ومعنى هذا ان غالبية الجمهور الاسرائيلي تؤيد عمليات الاغتيال لأسباب أمنية ودينية ايضاً. ومع ان القوانين الجزائية الاسرائيلية لا تميّز بين اليهودي وغير اليهودي، إلا ان الحاخامين الارثوذكس الذين يتبعون "الهالاخاه" ينصحون بضرورة التمييز. لهذا تُستخدم المؤسسة العسكرية لتحريض الجنود وإيجاد مبررات دينية لأعمالهم الوحشية. ولقد تعمّد المفكّر الجريء "اسرائيل شاحاك" إبراز هذه التوصيات المتهورة في كتابه عن "التاريخ اليهودي" اذ يقول: "توصل المتدينون الى نتيجة منطقية مفادها انه في حال الحرب يمكن، او حتى يجب، قتل جميع المنتسبين الى شعب معادٍ. ومنذ سنة 1973 نُشرت هذه العقيدة على نطاق واسع لإرشاد الجنود الاسرائيليين المتدينين. وقد عُمّم هذا التحريض رسمياً في كتيب صدر عن قيادة المنطقة الوسطى، والتي تشمل ولايتها الضفة الغربية. وكتب الحاخام الاول في القيادة إرشادات تقول: عندما تلتقي قواتنا بمدنيين خلال الحرب او خلال ملاحقة ساخنة او غزو، وفق أحكام "الهالاخاه" يمكن، لا بل يجب، قتلهم… والثقة بعربي غير جائزة في اي ظرف، حتى اذا أعطى انطباعاً بأنه متحضّر. في الحرب تكون قواتنا مأمورة وفق معتقداتنا بأن تقتل حتى المدنيين الذين يبدون ظاهراً انهم طيبون. والعقيدة هذه مشروحة في رسائل متبادلة بين جندي اسرائيلي وحاخامه، ونُشرت في الكتاب السنوي لإحدى اهم الكليات الدينية في اسرائيل ميدراشيات نوعام. ويستنتج من كل ما تقدم ان قرار الاغتيالات الذي ينفّذه الجيش الاسرائيلي ليس قراراً سياسياً صرفاً، وانما هو جزء من حملة التحريض الديني العنصري التي تبثها المؤسسة الدينية. ومن هذه الزاوية يجب فهم الصيغة الغامضة التي اعلنتها حكومة شارون عندما اعتبرت عرفات "عقبة مطلقة أمام اي عملية مصالحة بين اسرائيل والفلسطينيين، وان حكومته ستعمل على إزالتها بالشكل والموعد والطرق التي تحددها بشكل منفصل". ومع ان كلمة "ازالة" واضحة في تفسيرها السياسي، إلا ان واشنطن قرأت فيها فرصة جديدة ستُعطى الى احمد قريع، لعله يتحرك ضد الفصائل الفلسطينية المسلحة، على اعتبار ان إنقاذ حياة عرفات كما قال شارون رهن بأدائه. اول إشارة أرسلها أحمد قريع أبو علاء الى الحكومة الاسرائيلية، تمثلت بالاقتراح الذي قدمه مستشار شؤون الامن جبريل الرجوب، حول فكرة وقف شامل لإطلاق النار. وكرر وزير العدل الاسرائيلي يوسف لبيد في تعليقه على الاقتراح ما قاله سابقاً لمحمد دحلان، وخلاصته ان الاولوية يجب ان تعطى لمكافحة فصائل المقاومة. واختصر الوزير الاسرائيلي بهذا الجواب موقف الحكومة، كأنه يقول لعرفات أن استبدال رئيس الوزراء لن يدفعنا الى استبدال سياستنا. ويبدو ان عرفات تجاهل قرار إزاحته، وتبنى موقف الرجوب من الهدنة، على أمل ان تتجاوب الحكومة الاسرائيلية وتعترف بشرعية دوره. ولكن هذه المناورة المكشوفة لم تمنع "ابو علاء" من السعي الى تشكيل حكومة عريضة تضم مختلف الفصائل الى جانب غالبية من حركة "فتح". وهو حالياً يبحث عن صيغة مقبولة تحرر "فتح" من الالتزامات التي قيّدتها سابقاً بالموقف الاسرائيلي الرافض اجراء اي حوار مع جبهات الرفض وزعماء الانتفاضة. وبما انه خائف من التعرض للورطة التي تعرض لها سلفه "ابو مازن" مع قيادات "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية"، لذلك أرجأ تشكيل حكومته بانتظار التغلّب على متاعب التمثيل. يقول المراقبون ان المبادرة التي اعلنتها هذا الاسبوع "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ربما تكون المخرج اللائق لحكومة "ابو علاء". وتدعو المبادرة الى "تشكيل قيادة وطنية موحّدة للعمل الفلسطيني، وذلك من اجل التصدّي للاحتلال والخروج من الأزمة المتفاقمة التي تعصف بالوضع الفلسطيني". وتقول "الجبهة" في المذكّرة التي وزّعت على القوى السياسية والمنظمات الشعبية ان "القيادة الموحّدة كمرجعية سياسية وقيادة جماعية للشعب والعمل الوطني كله يجب ان تكون تتويجاً للتوافق حول الرؤية السياسية والنضالية الراهنة لإدارة الصراع مع الاحتلال". ومع ان المذكّرة تؤكد على ان منظمة التحرير هي "الممثل الشرعي لشعبنا"، الا انها تقترح تشكيل القيادة الموحّدة من اعضاء اللجنة التنفيذية والأمناء العامّين، وممثلين عن حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" ورئاسة المجلس الوطني، وعدد من الشخصيات الوطنية المستقلة من الداخل والشتات. وتشير المذكّرة الى أهمية الفصل بين منظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني وبين السلطة الفلسطينية المسؤولة عن تنظيم شؤون المجتمع في الضفة والقطاع. مع استقالة محمود عباس تبدو مبادرة "الجبهة الشعبية" كخط فاصل بين مرحلتين، او كحركة تصحيحية لنهج اتبعه عرفات منذ أوسلو من دون ان يحقق للفلسطينيين اي هدف من أهدافهم الوطنية. وربما يلتقي مشروع "الجبهة" مع مشروع "أبو علاء" الداعي الى تشكيل حكومة عريضة تتسع لكل الفصائل والمنظمات. واذا لم يكن كذلك، فإن "القيادة الوطنية الموحّدة" ستكون محاولة انقلاب ابيض شبيه بالإنقلاب الذي قاده عرفات ضد أحمد الشقيري! * كاتب وصحافي لبناني.