جثث المواطنين الليبيريين ال16 التي حملتها عائلات القتلى في الحرب الاهلية الجارية لتضعها أمام البوابة الحديد للسفارة الاميركية في العاصمة مونروفيا قبل ايام، كانت إحدى أقسى مظاهر الاحتجاج على تخلي الولاياتالمتحدة عن هذا البلد الذي أسسه أميركيون سود قبل 156 سنة، وتركته واشنطن يتخبط في حرب اهلية متقطعة منذ 14 سنة. لم يُغير منظر تلك الجثث المرصوفة تحت أشعة شمس حارقة من موقف الولاياتالمتحدة المتمسكة بدفع قوات افريقية للدخول الى قلب الحرب الاهلية لوقفها، مُفضلة بقاء قواتها على متن سفن حربية بعيداً عن بر العاصمة الليبيرية قبالة ساحلها. وبقدر ما فوجئ الليبيريون وصدموا بموقف واشنطن المصر على عدم تورط قواتها في حربهم، بقدر ما بانت خطوط السياسة الخارجية الاميركية في اوضح صورها إزاء النزاعات في العالم عموماً، وفي ليبيريا تحديداً. والقواعد الاساسية لهذه السياسة كان اطلقها الرئيس الخامس للولايات المتحدة جيمس مونرو لمنع اوروبا من الاستعمار في دول العالم الجديد، وعدم تورط اميركا في ازمات او نزاعات دولية لا مصالح استراتيجية لها فيها، وعرفت مذذاك ب"مبادئ مونرو". هذه السياسة التي طُُورت لاحقاً، كانت في بعض الاحيان إنتقائية يرجع القرار الأخير فيها للرئيس الاميركي. ومثال على ذلك قرار الرئيس السابق جورج بوش ارسال قوات الى الصومال قبل شهر من مغادرته البيت الابيض، حيث تورط خليفته بيل كلينتون وتحمل مسؤولية سقوط 18 جندياً أميركياً قتلوا في مقديشو خلال حكمه. ويبدو ان بوش الأب نصح ابنه جورج دبليو بالتزام "مبادئ مونرو" في النزاعات خلال وجوده في البيت الابيض. وبات واضحاً منذ تولي بوش الابن الحكم اتباعه سياسة حازمة في هذا الشأن، وهي الاصرار على عدم السماح لأي قوة عسكرية اميركية بالانتشار في اي بقعة من العالم الا في حال وجود تهديد واضح للمصالح الاميركية. وحتى الآن لم يظهر لدى إدارته اي مصالح لها في ليبيريا، وذلك خلافاً لما تفعله القوات الاميركية اليوم في العراق. لكن المفارقة اللافتة في هذه السياسة ان ليبيريا كانت "شبه محمية" اميركية في معظم تاريخها الحديث، وذلك يُفسر غضب الليبيريين من عدم تدخل واشنطن مباشرة لإنهاء حربهم الاهلية. واللافت اكثر هو عاصمتها مونروفيا التي سميت باسم الرئيس الاميركي الخامس نفسه "مونرو-فيا" درب مونرو، والتي تأسست خلال عهده 1817-1825 قبل ان يُرسل اليها عبيداً اميركيين محررين عرفوا ب"الليبيريين الاميركيين"، وأسسوا لاحقاً دولة ليبيريا في 1847، ثم وضعوا لليبيريا دستوراً مطابقاً لدستور الولاياتالمتحدة وتوالوا على حكمها حتى اليوم الرئيس الحالي تشارلز تايلور يتحدر منهم باستثناء فترة قصيرة من 1980 الى 1985 حكم خلالها العريف صموئيل دو الذي ينتمي الى سكان البلد الاصليين. لكن لسوء حظ الليبيريين، لا توجد في ليبيريا اليوم مصالح استراتيجية لاميركا ولا تهديد لأمنها القومي. وفي ذلك يمكن تسجيل مفارقات عدة ظهرت اخيراً في سياسة الرئيس جورج بوش الخارجية إزاء كل من ليبيريا "شبه المحمية" الاميركية والعراق. الولاياتالمتحدة عرضت مشروع قرار تبناه مجلس الامن الجمعة الماضي ينظم تدخلاً عسكرياً دولياً لإنهاء الحرب في ليبيريا بقيادة الاممالمتحدة. ولم يشر القرار الى اي دور محتمل لأميركا في هذا التدخل، مشدداً في الوقت نفسه على دور القوات الافريقية التي تصل طليعتها 250 عسكرياً اليوم الى مونروفيا. وان كانت واشنطن قررت ارسال ثلاث سفن حربية الى ليبيريا لدعم القوات الافريقية لوجستياً، فإن هذه السفن سترسو قبالة ساحل مونروفيا من دون قرار بإنزال اي من ال2300 جندي من على متنها الى البر الليبيري، وخصصت لذلك عشرة ملايين دولار. في المقابل ارسل بوش 150 ألف جندي أميركي الى العراق منذ 9 نيسان ابريل الماضي من دون قرار من مجلس الامن بحجة وجود تهديد لأمن اميركا بأسلحة دمار شامل لم يُعثر عليها حتى اليوم. وتنفق واشنطن مئات ملايين الدولارات على قواتها، وورطت دولاً عدة في المساهمة بقوات في العراق. مساعد وزير الدفاع الاميركي بول وولفوفيتز شدد في تصريح نهاية الشهر الماضي عن حل أزمة ليبيريا بقوله: "... إذا اردنا النجاح في العديد من الاماكن غير المستقرة في العالم، فإن من المهم جداً ان تكون دول المنطقة، وهي في هذه الحال نيجيريا وغانا والسنغال، في طليعة الجهود السلمية، وان تأخذ الاممالمتحدة على عاتقها إدارة الجهود لتسوية المشاكل السياسية المعقدة في ليبيريا ... علينا ان نتأكد من ان الاممالمتحدة ستتحمل مسؤوليتها، وكذلك دول غرب افريقيا". وعكس ذلك تماماً يحصل في العراق حيث استبعدت دول المنطقة، ولا دور اساسياً للمنظمة الدولية في تحمل مسؤولياتها. وفي العام 1980 دانت محكمة ليبيرية تشارلز تايلور باختلاس مليون دولار عندما كان مديراً لوكالة الخدمات العامة في حكومة الرئيس الليبيري الراحل صموئيل دو. لكن تايلور فر الى ولاية ماساتشوسيتس الاميركية حيث اعتقل وسجن. واستطاع الفرار بعد سنة من السجن بصورة غامضة ليظهر في الغابات الليبيرية في 1989 قائداً لجماعة متمردين على حكم الرئيس دو وحاربه لثماني سنوات تولى بعدها رئاسة ليبيريا. ودانت محكمة جرائم الحرب الخاصة بسييراليون الرئيس تايلور في 4 حزيران يونيو الماضي بارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وانتهاك خطير للقانون الدولي في اراضي سييراليون منذ 3 تشرين الثاني نوفمبر 1996"، واصدرت أمراً بملاحقته واعتقاله. واستجابت السلطات السويسرية لطلب المحكمة فجمدت 3،1 بليون دولار في حسابات مصرفية لاثنين من اقرب مساعديه. واعلن تايلور اول من أمس انه سيتنحى في 11 من الشهر الجاري وسيغادر الى نيجيريا التي عرضت استضافته في "ملجأ آمن". وكان إعلان بوش وإدارته في اكثر من مناسبة خلال الشهر الماضي، ان واشنطن لن تتدخل في ليبيريا قبل تنحي تايلور وخروجه من البلد، بمثابة إعلان غير مباشر بالسماح له بالفرار وعدم ملاحقته كمجرم حرب. اما في العراق، فتلاحق القوات الاميركية الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين واركان حكمه السابق، لاعتقالهم او لقتلهم إذا قاوموا، وذلك من دون صدور إدانة من اي محكمة دولية او خاصة بذلك. ودفعت وزارة الخارجية الاميركية 30 مليون دولار قبل ايام للشخص الذي سلم القوات الاميركية معلومات ادت الى قتل عدي وقصي نجلي صدام. وتوجد مكافأة قيمتها 30 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي الى معرفة مكان وجود صدام او تؤكد وفاته. في حين لم تستجب واشنطن طلب شركة بريطانية عرضت ثلاثة ملايين دولار لاعتقال تايلور. وعندما تتداخل السياسة الخارجية الاميركية مع المصالح الاقتصادية الحيوية، نجد ان عصب الاقتصاد الليبيري الى جانب الحديد هو المطاط الذي اسست صناعته في 1926 شركات اميركية اشهرها "فاير ستون" بعدما منحتها سلطات "الليبيريين الاميركيين" اراضي شاسعة حولتها مزارع مطاط صارت الاكبر في العالم. في حين ان عصب الاقتصاد العراقي هو النفط الذي يعتبر مادة استراتيجية للولايات المتحدة، خلافاً للمطاط والحديد.