صادفت الذكرى السابعة عشرة لغياب الفنان عاصي الرحباني صدور الأجزاء الأولى من الأعمال المسرحية الرحبانية الكاملة التي وافق منصور الرحباني على اصدارها أخيراً، والأعمال المسرحية المطبوعة تعيد الى الجمهور الرحباني الكبير نصوصاً طالما استمع اليها وأحبها. يحار المرء إن كان عاصي، النصف الآخر من "الاخوين رحباني" ادام الله بعمر منصور كائناً عادياً من لحم ودم أم انه كأبطال المسرح الرحباني مصنوع من نسيج المخيلة وعالمها الطيفي. فهذا الرجل الذي بدأ حياته شرطياً بسيطاً مثل شقيقه في دولة ناشئة استطاع بسرعة فائقة أن ينقل الوطن من تواضع الكيان الى أسطورة الفكرة. حتى إذا ترنح الكيان تحت ضربات الحرب وبؤس طوائفها المتناحرة تحول هو نفسه الى أسطورة تجدد نفسها في أعمال أثبتت قدرتها على العيش خارج المكان والزمان اللذين شكّلا حيزها وإطارها. ربما يتقاطع عاصي ومنصور الرحباني، مع سعيد عقل في تلك المحاولة التي هدفت الى إعلاء صورة الوطن وإخراجه من مجال الجغرافيا الضيقة الى مجال المكان المطلق الذي يبحث عن تاريخه في نثار وقائع متباعدة أو ملتبسة أو غير موجودة في بعض الأحيان. لكن كلا الطرفين لم يجد في التاريخ الحقيقي ما يكفي لرفد المثال المشترك الذي نهلا من معينه مياه الأخيلة والرغبات باستثناء محطات ضئيلة ومتباعدة كما هو الحال مع شخصية فخر الدين، حيث تتم المزاوجة بين الواقعي والمتخيل ويصل الحلم اللبناني الى أقصى تخومه. لكن "هدب" الرحبانيين لم يستطع مجاراة "مدى" سعيد عقل الذي عمل جاهداً على تطويع التاريخ وإخضاعه لمستلزمات المشروع السياسي والايديولوجي للنخب اللبنانية الباحثة عن هويتها في فضاء الأحلام والتهيؤات المتصلة بعظمة فينيقيا وأبجدية قدموس وصلابة شجر الأرز. حدث الانفصال بين الرحبانيين وسعيد عقل في هذه المنطقة بالذات. ففي حين راح الثاني يحمّل التاريخ اللبناني أكثر من قدرته على الاحتمال ويحلُّ الرغبة محل الحقيقة أدرك الثنائي الرحباني أن جزر البطولة المتناثرة بين معركة عنجر وعامية انطلياس لا تكفي، على أهميتها، لرفد أعمالهما الغنائية والمسرحية بمستلزمات الواقعية والأمانة والصدق مع النفس. لذلك راحا يحفران لنفسيهما مجرى اضافياً قوامه البحث عن صورة الوطن في الحلم لا في التوهم وفي الخيال لا في الذاكرة وفي المستقبل لا في الماضي المجرد. هكذا راح الأخوان يبحثان عن مثال بطولي لا زمني ولو أن المكان الذي يسند ذلك المثال يذكِّر في الكثير من تفاصيله بطوباوية زراعية مستلة من تقاليد الريف اللبناني وترجيعاته البعيدة. غير ان المثال الرحباني ذاك كان مشرعاً على النوستالجيا والقبول وتبجيل الماضي بقدر ما كان يحمل دعوة صريحة الى الرفض والتمرد وكسر السائد كما هو الحال في "جبال الصوان" و"ناطورة المفاتيح" و"يعيش يعيش" و"هالة والملك" وغيرها من الأعمال. في مناطق الاختلاط الأولى كان صوت فيروز موزعاً بين نصوص سعيد عقل التي لم تكن انكفأت بالكامل الى داخل الكيان، كما في قصائده عن مكة والشام، وبين نصوص الرحبانيين التي كانت تشي منذ البداية بانعتاقها من دائرة المحلية الضيقة نحو الدائرة الإنسانية الأوسع، على رغم ما تحمله من نكهة الأرض وروائحها وتشكلاتها الطيفية. وحتى في أوج انحيازهما الى البطولة الفردية لم يقتنع الأخوان رحباني بأن الفرد وحده يغير التاريخ بل جعلا على ضفافه بشراً آخرين يعملون ولو في الظل على تهيئة المناخ الملائم لانتصار البطل الذي هو رمزهم وضميرهم وخط دفاعهم في مواجهة المحو والاضمحلال. هذا البطل الذي ينبغي وفق منظورهما أن يحقق شرطين لا يمكن الفصل بينهما هما: القوة والعدالة. فالقوة غير العدالة، هي قوة الاستبداد الذي تستلزم إزالته ثورة دموية جبال الصوان أو ثورة سلبية غاندوية تؤدي الى مقاطعة المستبد وتركه وحيداً مع بيوت بلا رعية ناطورة المفاتيح. والعدالة التي لا تسندها القوة هي عدالة ناقصة لا تؤدي لغير الإذعان واليأس لأن الإيمان بها يستلزم الدفاع عنها حتى النهاية وإلا أصبحت باطلاً أو بحكم الباطل. يتحرك الرحبانيان دائماً داخل ثنائية مطلقة يقف فيها الخير في مواجهة الشر، والأسود في مواجهة الأبيض، والجلاد في مواجهة الضحية، ضمن رؤية مانوية للواقع والأشياء. فنادراً ما انتقل الصراع الى داخل الفرد نفسه باعتباره كتلة من المفارقات المتناقضة والمحيرة باستثناء "بترا" التي تقف فيها الملكة موقفاً شكسبيرياً مأزقياً يتمثل في صراعها الداخلي بين الاحتفاظ بابنتها أو بانتصارها، حيث تغلِّب الثاني على الأول في نهاية المطاف. من ناحية أخرى يبدو الواقع الرحباني واقعاً هارباً باستمرار. واقعاً يفرُّ من ثباته الى ما هو خارج عنه. وذلك لا يعني الابتعاد عن الواقعية بل يعني قراءة مغايرة لها تختلف عن الأدبيات الايديولوجية والمفاهيم النهائية للواقع. ثمة عنصر مهم يحتل دور البطولة الأولى في الفن الرحباني هو عنصر الزمن. ولعل الزمن يشكل المادة الأكثر جدلية في هذا الفن. فاللحظة الرحبانية لحظة مائية دائمة الجريان. وهي تحتاج لأن تتحرك كيما تحيا. إنها تنتصر للنهر ضد المستنقع وللتحول ضد الثبات. لذلك فهي تهرب من نفسها الى الوراء باتجاه الذاكرة والى الأمام باتجاه الحلم. والعودة ليست ردة الى الماضي بحد ذاته بل سعياً الى طفولة العناصر والكائنات. والحلم هو مستقبل اللحظة أو طفولتها الأخرى غير المتحققة. "إن أصفى حب ذلك الذي خسرناه"، يقول باشلار. كما أن "أعذب نعيم ذلك الذي نتوقعه"، يقول غويو. وبين هذين الحدَّين يتحرك الزمن الرحباني، وليست الحياة بالتالي سوى رحلة عابرة بين الجنة المفقودة والجنة الموعودة. في هذه المنطقة يتحرك صوت فيروز مختلقاً طفولات لم يجفَّ ماؤها بعد وساعياً وراء أزمنة تقع خلف تخوم الصمت. لكن هذا الجريان اللذيذ للزمن يحمل في داخله عناصر الإنهدام الفردي ويفضي الى ذبول الكائن الذي يفر من مستنقعه لكي يجد نفسه في مواجهة الشيخوخة والموت. مدركَيْن هذه الحقيقة الفاجعة يحاول الرحبانيان أن يعترضا الطريق الذي اختاراه بملء ارادتهما وأن يوقفا الزمن عند نقطة المراهقة أو الصبا الأول فلا يستطيعان: "تعا تانتخبَّا/ من درب الأعمار/ وإذا هنِّي كبرو/ نحنا منبقى زغار/ ان سألونا وين كنتو/ ليش ما كبرتو إنتو/ منقللن نسينا/ واللي نادى الناس/ تايكبرو الناس/ راح ونسي ينادينا". في إطلالات كهذه تلمع في فضاء العالم الرحباني بروقٌ معرَّاة من كل انتماء مكاني. بروق يندمج فيها الشكل ومعناه وتصبح الأغنية تعويذة ضد خراب العالم وفساده. وفي مثل هذه اللحظات ينتبه الرحبانيان الى أن الزمن الذي بعثا فيه روح الحركة والنمو قد بدأ ينحو الى الزوال ويهرب من بين الأصابع. لذلك يحاولان أن يوقفاه قليلاً ويسمِّراه فوق ثلج الماضي حيث يحتفظ "شادي"، طفل الأغنية الفيروزية، برنين ضحكاته البريئة قبل أن يغتاله الموت. في مواجهة خراب الواقع وتمزق الوطن أشلاء متناثرة بنى الرحبانيان عالماً حلمياً موازياً يتعذَّر تهديمه، عالماً مصوغاً بعناية من قصاصات أخيلة تتواصل مع ينابيعها الخام وتتناول مادتها من عناصر الحياة المطمورة وسحرها الغامض. لم يكن النص الرحباني يتلقى أوامره من العقل المجرد أو الايديولوجيا الاسمنتية بل من حمى الأحاسيس والرؤى المتداخلة ومن معدن الحياة المصهور تحت لهب المعاناة. كما ظلت لغتهما المصفاة علي رغم الاشتغال المتقن علسها بمأمن من الهندسة البلاغية وسكونية الشكل المحض، كونها حُقنت بشغاف الحنين وحرائق المكابدة. وقد استطاعت بالتالي أن تفلت من المهارات اللفظية ذات الفضاء الرخامي الخالص. لقد انتصر عاصي ومنصور الرحباني للحرية لغة وتعبيراً. لذلك أقاما في المناطق الملتبسة بين شاعرية الصمت واحتفالية الإيقاعات والألوان حيث تستطيع كل حاسة أن تخلي مكانها للأخرى في عملية استبدال متواصلة. ولأنهما أقاما في المناطق العذراء المشبعة برياح الطفولة فقد شكّلا الخلفية الوجدانية لا للبنانيين فحسب بل للعرب بأسرهم أينما كانوا وفوق أي أرض. لقد عملا في المكان الآمن والملفوح بنسيم الطمأنينة وحفيف اللحظات الغابرة. لذلك استعصى فنُّهما العظيم على التصنيفات الايديولوجية والمذهبية والقبلية ولم تستطع الحرب أن تنال من صلابة ما صنعاه بالعرق والسهر والمكابدة. وعلى رغم أن كل فئة من الفئات المتحاربة في لبنان كانت تحاول أن تجيِّر الفن الرحباني لمعتقداتها وأهدافها وأن تنسبه الى نفسها، إلا أن هذا الفن استطاع أن يرتفع فوق مزقِ الحرب وأشلائها وأن يظل إحدى علامات التوحيد القليلة في لبنان الممزق. سبع عشرة سنة انقضت على غياب عاصي الرحباني. أما منصور، شطره الآخر المقيم فوق التراب، فلا يزال يبدع ويؤلِّف ويلحِّن بالنيابة عن الأخوين معاً. ونحن المترنِّحين تحت ثقل الحروب والتمزقات والآلام نستعين بهما لكي نتَّقي عثرات الدرب. كأنهما، مع صوت فيروز، الماء الذي يحرسنا من جفاف العالم ويرفع منسوب الرجاء في حيواتنا المطعونة باليأس.