أي إطلالة ساحرة تلك التي فاجأت بها فيروز جمهورها الكبير الذي تخطى الاثني عشر ألفاً خلال ليلتين، وغصّت به الباحة الداخلية لقصر بيت الدين؟ إطلالة ساحرة في ليل أشدّ سحراً وسط القناطر القديمة التي استحالت فسحة تاريخية لهذه الأسطورة الأليفة التي دخلت حياة اللبنانيين والعرب وزرعت فيها بذور الحنين والحلم والجمال! كان يكفي ان تطلّ فيروز بالرداء الأحمر لتشيع مناخاً من الدفء والرقة ولترتفع الهتافات حارّة وصاخبة. فالجمهور الذي شاهدها العام الفائت في بعلبك لم يرتوِ من غنائها الذي لم يكن "حياً" حينذاك بل طلع من الأشرطة المسجّلة بغية استعادة الأجواء الرحبانية القديمة. أما هذا العام فأطلت فيروز على الجمهور إطلالة "حيّة" جداً بل على كثير من "الحياة" و"الحداثة" والتجدّد. إنّها هنا في قصر بيت الدين فيروز أخرى، فيروز الصبا والرقة والغوى، فيروز الحبّ والمغازلة، فيروز الجريئة والواقعية ولكن المصرّة دوماً على ادمان الحلم والحنين وعلى نشرهما في قلوب جمهورها. وسرعان ما بدا واضحاً أنّ زياد الرحباني هو الذي اختار الاطلالة الفيروزية وصمّمها أو رسمها إضافة إلى إلمامه بالتفاصيل جميعها، الكبيرة والصغيرة. فالحفلات الثلاث هي حفلاته موسيقى وألحاناً وتوزيعاً وغناءً وكورساً... رسم زياد الرحباني صورة فيروز بحسب مقاييسه هو ووفق الحجم الذي يرتأيه غير متهيّب أيّ عاقبة. وبدت فيروز مستسلمة لرغبات الرحباني الأبن، منقادة لخياراته ولو على حساب تاريخها الشخصي أو "مخزونها" الغنائي أو تراثها الرحباني. وإن لم "ينفِ" زياد تراث الأخوين رحباني من برنامجه عبر اختياره بعض الأغنيات القديمة فهو استأثر بالمقدّمات الموسيقية والمقطوعات جميعها. على أن الرحبانيين عاصي ومنصور لم يحضرا إلا من خلال رؤيته الهارمونية الحديثة والبديعة. فهو كعادته، أعاد توزيع الأغنيات الفيروزية توزيعاً باهراً يجمع بين الوعي التقني والبعد الجمالي. بل كأنّ زياد وجد في الجمل الرحبانية الميلودية ذريعة للبحث عن صيغة هارمونية ساحرة وحديثة تنطلق من الأصل وترقى به عبر توزيع بوليفوني رائع. أو كأنّ زياد يوقظ في تلك الألحان الرحبانية نواحي كانت كامنة أو سرّية فأذابها تنبثق عبر ابداعه وتتجلّى. هكذا استحالت مقدّمات بعض الأغاني فايق عليّ، يامهيرة العلالي، بتتلج الدني وسواها إلى مقطوعات موسيقية منفردة بذاتها وراحت تتبلور عبر العزف المتقن الذي تآخت فيه الآلات الشرقية والغربية وتحاورت وتبادلت الجمل لتخلق نسيجاً موسيقياً راقياً. وكم أبدع زياد الرحباني في جعله الأوركسترا الفيلهارمونية ارمينيا تستوعب آلات شرقية صرفاً من مثل البزق والعود والقانون... كان في إمكان زياد الرحباني أن يضع إسمه في الملصق إلى جانب إسم فيروز وفي الحجم نفسه. فالحفلة حفلتهما بل هي ربّما حفلة زياد الرحباني بصوت فيروز. فموسيقاه التي جمعت بين المهارة والجمال، بين الميلوديا والهارمونيا، بين العذوبة والتقنية كادت تطغى على صوت فيروز في أحيان، تماماً مثلما حاولت أن تطغى على الكلمات لتجعل من الجمل الموسيقية والحركات كلاماً آخر يعبّر بدوره عمّا يختزنه الصوت والكلام معاً. في أحيان، كانت الموسيقى قادرة تماماً على أن تحلّ محلّ الكلام، وفي أحيان أخرى زاحمت الصوت كثيراً لا لتحلّ محلّه وإنّما لتصل إلى مصافه وإلى أسراره الأبداعية. ولا أدري لماذا بدت فيروز أشدّ ارتياحاً في الفصل الثاني منها في الفصل الأول! وهي بدت مرتاحة أيضاً في أغاني زياد الرحباني أكثر مما كانت مرتاحة في أغاني عاصي ومنصور. ترى هل يرجع السرّ إلى وجود زياد على المسرح، عازفاً ببراعة وشاعرية على البيانو أم لأنّ الصيغة الأدائية الجديدة التي حاولت فيروز أن تسبغها بنفسها على الاغنيات القديمة لم تلبّها كما في السابق؟ هذا السؤال خالج الكثيرين من هواة الصوت الفيروزي ومن جمهور الليلة الأولى، وخصوصاً حيال اغنية "لا أنت حبيبي" وأغنية "فايق عليّ" وكلتاهما أعاد زياد الرحباني توزيعهما ببراعة واتقان. بدت الموسيقى في الأغنية الأولى أشدّ وطأة وقوّة من الصوت الذي حاولت فيروز أن تضفي عليه بعض العطفات والعُرب وفي ظنّها أنّها هكذا تجدّد إداءها. لكنّ الصيغة الادائية الجديدة بدت على شيء من الارتباك. وهذا ما حدث أيضاً في اغنية "فايق عليّ". وربّما هي رهبة الأطلالة الأولى على الجمهور التي يخشاها كلّ مطرب أو مغنّ، مهما علا شأنه. وربّما تخطت فيروز هذا الأرتباك في الليلة الثانية مثلما تخطته سريعاً في الأغنيات التالية ولا سيما في الفصل الثاني الذي "سلطنت" فيه وكسرت حاجز الرهبة والخجل. سيطر زياد الرحباني على أجواء الحفلة بموسيقاه والحانه وتوزيعه وعزفه وبصوته الذي كان يخترق غناء الكورس او غناء فيروز في بعض الأحيان مضفياً على الاداء بعضاً من الطرافة. لكنّه بالغ في أحيان قليلة حتى بدا صوته دخيلاً. لكنّ الجمهور كان يهتف لفيروز ويصفّق لها بشدّة وحرارة. صفّق الجمهور لزياد في البداية لكنّه نسي في ما بعد أنّ زياد يسعى إلى أن يكون سيّد الساحة فصفّق لفيروز وحيّاها كما لو أنّه يشاهدها للمرّة الأولى. فحضور فيروز ساحر وطاغٍ ولا يستطيع العزف ولا الموسيقى أن يسرقا منه الكثير. صوتها هو الرمز، هو البداية والختام وهو الملاذ الذي يلجأ إليه الجمهور الكبير ليستعيد بعضاً من الفرح المفقود والرجاء المفتقد والحنين النادر والجمال الذي لا يوصف. وقد شعر الكثيرون أنهم لم يرتووا من غناء مطربتهم الكبيرة ولا من حضور نجمتهم الساطعة في ذاك الليل فصفّقوا وهتفوا طويلاً داعين إيّاها إلى العودة ولبّت هي رغباتهم أكثر من مرّة وأجادت عليهم بأغنيات يحبّونها كثيراً من مثل: نسّم علينا الهوا، نحنا والقمر، عودك رنّان. وعندما أدّت في الختام رائعة زياد الجديدة "صباح ومسا" أحدثت ثورة عاطفية في وسط الجمهور علماً أنّ الاغنية جديدة جداً وتنتمي إلى مدرسة زياد الرحباني. ورافقها زياد وحده عازفاً على البيانو فيما راحت هي "تسلطن" مؤدّية برقة وحنان كلمات فيها الكثير من الشكوى والطرافة، من الأسى والسخرية. وتحتاج هذه الاغنية والاغنيتان الأخريان الجديدتان اللتان أدتهما للمرّة الأولى أيضاً كبيرة هالمزحة، تنذكر ما تنعاد إلى أن يعاد الاستماع اليهما بهدوء وبعيداً من حماسة الجمهور. فالأغنيات الثلاث هذه تندرج في سياق التجربة الجديدة التي يخوضها زياد مع فيروز بحثاً عن أفق غنائي حديث، أصيل ومتطوّر. ولئن بدت فيروز على قدْر كبير من الارتياح في اغنيات زياد الرحباني فهي فاجأت أيضاً الجمهور باللعبة الغنائية التي تبادلتها مع الكورس في اغنيتين هما: "حبّيتك تنسيت اليوم" و"تلفن عياش". في الأغنية الأولى أدّت فيروز المقطع الأول ثمّ واصل الكورس إداء بقية المقاطع في صيغة موسيقية جديدة. أمّا اغنية "تلفن عيّاش" فشاءها زياد شبه مشهدية وقد شاركت فيروز الكورس في ادائها وكانت كلما غنّى الكورس تجلس على كرسيّ وكأنّها عنصر من عناصر الفرقة الموسيقية. وهي ربّما المرّة الأولى تجلس فيروز على كرسي في حفلة غنائية أو تدخل في لعبة ادائية طريفة مع الكورس، كاسرة جمود إطلالتها ومضفية على الغناء بعض الألفة والعفوية. حقّق زياد الرحباني إذاً حلماً من أحلامه الكثيرة عبر "استفراده" المطربة فيروز موسيقياً وغنائياً وحققت فيروز أيضاً حلماً كثيراً ما كانت تخشاه وهو الاستسلام لرغبات زياد كاملة. وقد نجح كلاهما في تحقيق حلميهما على رغم بعض الهنات التي اعترت الحلمين الجميلين. فالرحباني الأبن بالغ في هواه الموسيقي ونزقه أو نهمه حتى بدا وكأنّه يعرض "عضلاته" الموسيقية كما يقال على حساب الاغنيات نفسها وربّما على حساب الصوت. وإذا كان هو حراً في جعل الحفلة حفلته بامتياز وبحرية مطلقة فهو كان قادراً أن يترك للجمهور بعضاً مّما يحبّ الجمهور في فيروز أي بعضاً من فيروز الماضي. إلا أنّ عدم ارتواء الجمهور من اغنيات فيروز لا يعني عدم استحسانه موسيقى زياد وصيغه الموسيقية. بل إن الجمهور تحمّس كثيراً لموسيقى زياد وأغانيه سواء تلك التي ادتها فيروز أم تلك التي أداها الكورس. أمّا فيروز التي سحرت الجمهور وبهرته بأغنياتها القديمة والجديدة فكان في إمكانها أن تهبه بعض لحظات من ادائها الأول فلا تعمد إلى تحديث اداء بعض الأغنيات المنطبعة في ذاكرة الجمهور ووجدانه. فالجمهور يختلف اجيالاً وأذواقاً، محافظين ومتحمّسين، فيروزيين ورحبانيين... ونظراً الى ان زياد الرحباني بدا مأخوذاً بهمومه الموسيقية، عزفاً وتوزيعاً وبالأوركسترا والعازفين فأنّ فيروز بدت كأنها تغني وحدها في بعض الأغنيات الرحبانية القديمة مثلما بدت فرقة الكورس وكأنها تتدبّر غناءها. إذ كانت تحتاج بعض الوصلات إلى المزيد من الصهر والصوغ. علماً أن فرقة الكورس كانت ماهرة في اداء الأغنيات الجماعية وفي مرافقة فيروز كذلك. أما الخربطة في البرنامج المطبوع الذي وزّع فمردّه إلى عدم تمكّن زياد من ضبطه كلّه إذ غابت أغنية جنوبية جميلة كان على فيروز أن تؤدّيها وكذلك غابت اغنية "بنت الشلبية"، ومقطوعة موسيقية عنوانها "ديار بكر" هي من أجمل أعمال زياد الجديدة وفيها يأخذ البزق مداه المفترض. ترى كيف ستطل فيروز لاحقاً في حفلاتها الأخرى التي سيزداد الجمهور شوقاً إليها وانتظاراً؟ هل ستواصل الصيغة الجديدة التي استأثر بها زياد أم أنّها سترجع إلى الصيغ الأولى التي كانت تتفرّد فيها بصوتها العذب والمتين وادائها الساحر والرائع فتطغى هي وتمنح جمهورها أجمل لحظات الغناء؟ وإن كان زايد يملك جواباً واضحاً وجاهزاً على مثل هذا السؤال فأن فيروز لا تجيب عليه إلا عندما يحين وقت الجواب.