انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زياد الرحباني انسحب احتجاجاً على خدعة "البلاي باك". الليالي الرحبانية في بعلبك تستعيد الماضي وصوت فيروز هو الأسطورة الصامدة
نشر في الحياة يوم 18 - 08 - 1998

عادت فيروز الى قلعة بعلبك بعد غياب عنها دام قرابة خمسة وعشرين عاماً ومعها عادت الأجيال القديمة لتتذكر لا الليالي الرحبانية فقط بل زمناً بكامله أضحى من الماضي الجميل. أمّا الأجيال الجديدة التي شاهدت فيروز للمرّة الأولى في ظلّ الأعمدة الستة فاكتشفت بضعة ملامح من الماضي الذي تجهله تماماً وعاشت عبر صوت فيروز والأغنيات القديمة لحظات من الفنّ الرحباني الصرف.
وعودة فيروز ليست مجرّد عودة الى القلعة وأدراجها بل هي استعادة للأسطورة التي صنعها الرحبانيان عاصي ومنصور وصنعتها فيروز بدورها وغدت بعد تلك السنوات الطويلة الأسطورة الوحيدة التي صمدت خلال الحرب المدمّرة. هكذا أطلّت فيروز في ردائها الأبيض تشع كتمثال العذراء النقية ومن مرتفع المعبد جوبيتر غنت بصوتها القديم والشديد النقاء "بعلبك" كما لو أنّها فعلاً شمعة على أدراجها بل وردة بيضاء على سياجها العالي. إطلالة ايقونية لم تنل الحرب من صفائها ولم تصل اليها بشاعة الواقع وصورة محبوكة بالضوء والحنين ما برحت مكلّلة بالبياض والبراءة الفردوسيّة وصوت كأنه ترجيع ساطع للأصداء الإلهيّة وشجو داخليّ وبرق يجرح الليل المنتشر من حول العالم.
لم يكن من المتوقّع أن تطلّ فيروز إطلالتها "المريميّة" التي أسرتها طوال سنوات وأن تحافظ على ملامحها "الملكية" في مرحلة تكاد لا تحتمل الطوباويات والمثل والأساطير. لكنها العودة الى الماضي تفترض استعادة بهائه الذي ولّى وجماله الذي هو أشبه بالوهم وصفائه الحلميّ. وخلال اللوحات الرحبانية المستعادة من أعمال سابقة نجحت فيروز في إحياء الماضي وفي إشعال جذوة الحنين الكامن في وجدان الجمهور وفي إذكاء الذكرى في القلوب. لكنّها لحظات مستعادة فهي ما أن تنتهي على المسرح حتى تعود الى الماضي. وما أصعب أن يتذكّر الجمهور بل ما أقسى أن يتذكّر كما يقول منصور الرحباني في أغنيته الوطنية الجديدة.
ربّما أجمل ما في الاستعادة الرحبانية هي الأغنيات القديمة التي كانت فيروز أدّتها في المسرحيات الثلاث التي اختيرت منها المشاهد الاستعادية. ولعلّ خدعة "البلاي باك" كانت لها حسنة وحيدة فقط وهي أنّها أتاحت للجمهور القديم والجديد أن يشاهد فيروز "تؤدّي" أغنيات جميلة بصوت جميل ورائع هو صوت فيروز في الستينات. وكان يكفي أن يشاهد الجمهور فيروز بين الأعمدة ويسمع صوتها النضر ليسترجع أجمل لحظات الماضي الرحباني. وليتها لم تصطنع "التمتمة" كيلا تجعل خدعة "البلاي باك" كبيرة. فجمهورها الكبير ما كان ليعترض على الأغنيات المسجّلة لو أنّها وضعت صوتها من حين الى آخر أو لو أطلقت بعض الآهات الدافئة أو العُرَب التي أضافتها على بعض الأغنيات في الآونة الأخيرة. كان من الجميل فعلاً أن يستمع الجمهور الى أغنية "بعلبك" في سحرها وأن يصغي الى "ساعدني" وفيها تخاطب فيروز خالقها بحنان شديد ورأفة مسمّية إياه "نبع الينابيع، ويا سيّد العطايا". أمّا أغنيات من مثل "سنة عن سنة" و"وينن" و"طريق النحل" فكانت جميلة جداً في الليل البعلبكي وساطعة كالقمر في السماء. وغنتها فيروز بصوتها النضر واليانع أبداً والمشبع بالحب والسحر والرقة. وفي تلك الأغنيات سطع شعر الأخوين رحباني ولمعت موسيقاهما لمعان البرق في ليل الشتاء.
وإن بدت الأغنيات أقوى من السنوات التي مرّت عليها فأنّ المشاهد التي اختيرت من المسرحيات السابقة بدت وكأنّ الزمن تخطّاها ولا سيّما المشاهد الحافلة ب"الكليشهات" السياسية والخطب الوطنية. والمسرحيات أصلاً حفظها الجمهور غيباً أو كاد نظراً الى رواجها الإذاعي وإلى جمال حواراتها وموسيقاها وأغنياتها. وعمد منصور الرحباني ومساعدوه الى "توليف" المشاهد من جديد فقصّوا بعض المقاطع وأعادوا وصل اللوحات ووقع اختيارهم أكثر ما وقع على اللقطات التي تتضمّن مواقف وطنية وجملاً "اعتراضية" وشعارات... واستعان منصور ببعض الأسماء الأجنبية للاخراج والسينوغرافيا والإضاءة وقيل إن فيروز هي التي أصرّت على أن يكون الفريق التقنيّ إيطالياً. إلا أنّ المخرج الأيطالي دانييلي أبادو لم تبدُ لمساته واضحة ولا باهرة أو مميّزة، فالإخراج كان عاديّاً جداً و"رحبانياً" جداً سواء في حركة فيروز وأدائها بعض الحوارات مع انطوان كرباج أم في حركة الممثلين الجماعية. أمّا السينوغرافيا التي تولاّها الإيطالي لويجي بيريغو فتفاوتت بين مشهد وآخر. وبدا استخدام الملاءات الشراشف البيض جميلاً وفاعلاً وخصوصاً في تغطيتها بعض الأدراج وعليها كانت تنعكس بعض الضوئيات والصور... لكنّ الألواح البيض التي استخدمت لاحقاً بدت نافرة وسط المدّ الحجريّ وكذلك الأعمدة شبه النحاسية التي ارتفعت على الأدراج. أمّا الإضاءة صمّمها أ. ج. ويسبارد فكانت جميلة جداً وموحية وخلقت أكثر من جوّ على المسرح والأدراج. وأضفت ألوانها المتعدّدة رهبة على معبد جوبيتر وعلى مناخ المشاهد المتتالية. وبدت مرسومة برهافة ودقّة وبعيدة كلّ البعد عن المجانية وعن الشكلانية الصرفة. وفي أحيان غدت الإضاءة وكأنها منحوتة نحتاً وسط الظلام وجعلت مثلاً من فيروز في بعض المشاهد أيقونة أو تمثالاً شبيهاً بالتماثيل المسيحية أو الإغريقية.
لجأ منصور الرحباني الى هذه التقنيات ليعوّض "الخلل" الذي أحدثه اعتماد "البلاي باك" وليصوغ المشاهد الرحبانية في قالب جديد أو إطار يختلف عن الماضي. وفعلاً بدت الصيغة شبه جديدة ظاهراً ولا سيّما في اللوحات الراقصة التي صمّمها أحد عناصر فرقة كركلا سامي خوري وهي غدت عاديّة في معظمها إلاّ إذا استُثنيتْ لوحة "يا حرية" التي حملت طابعاً تعبيريّاً، وليت المصمّم ركّز أكثر على الفولكلور طالما أنّ غاية منصور الرحباني وفيروز استعادة الماضي ولو في صيغة مشهدية أخرى. غير أن هذه الصيغة لم تستطع أن تتخطى المناخ الرحباني القائم أصلاً على الموسيقى والحوارات والشخصيات الطريفة. فالمناخ الرحباني أقوى من التقنيات الجديدة نفسها تبعاً لكونه مناخاً إنسانياً وغنائياً رحباً.
تجاوب عاطفي
كان لا بدّ أن يصفّق الجمهور كثيراً لمطربته وأن يهتف لبعض الجمل و"الكليشيهات" السياسية متناسياً قصّة "البلاي باك" ومتجاوباً تجاوباً عاطفياً مع المسرح الرحباني. فهو جاء أوّلاً ليشاهد فيروز في قلعة بعلبك وليستمع الى الأغنيات الرحبانية ولو مسجّلة وليستعيد أو يتأمل صوراً ومشاهد من الماضي الجميل. وهكذا مثلاً أحبّ الجمهور فيروز في الشخصيات الثلاث التي أدّتها بين مشهد وآخر وكذلك أحبّ انطوان كرباج في شخصيتي الملك وفاتك المتسلّط وايلي شويري في شخصيّة "ديك المي". وكعادتها أطلّت فيروز بخفرٍ حيناً وجرأة حيناً تؤدّي دور الصبية المسحورة في مسرحيّة "جسر القمر" 1962 وهي من التحف الرحبانية. وراحت تحرّض أهل الحارتين المتخاصمين على المصالحة والسلام وأخبرتهم عن الكنز المرصود الذي لا يظهر إلا حين يزول البغض وتعمّ المحبّة. طبعاً لم تُقدّم من المسرحية إلا بضعة مشاهد انتهت في المصالحة انتصار الخير وفي ظهور "كنز الكنوز" وهو السلام. في مسرحية "جبال الصوان" 1969 تطلّ فيروز في شخصية "غربة" ابنة "مدلج" الذي مات أمام بوابة القرية رافضاً الاستسلام لجنود الاحتلال والهروب معاً. تعود غربة بعد غيبة طويلة لتحرّر قريتها من ظلم المحتلّ "فاتك المتسلّط" ول"تخلّص الأرض" كما تقول لكنّها تجد الناس أذلاء وخائفين وخاضعين للمحتلّ. وبعدما تحيي فيهم روح المقاومة تهبّ الثورة وينتصر الثوار وتستشهد "غربة" أمام البوابة كوالدها... وفي هذا الجوّ النضالي والوطنيّ تغنّي فيروز أغنيتها الرائعة "ساعدني" وهي أقرب الى الصلاة وعبرها تنفصل عن القضيّة لتحلّق في جوّ وجداني وصوفيّ.
في مسرحية "ناطورة المفاتيح" 1972 تؤدي فيروز أيضاً شخصية صبيّة تدعى "زاد الخير". والصبيّة تواجه الوالي الظالم انطوان كرباج الذي زاد الضرائب وفرض على الناس ما لا يقدرون على حمله. ويقرّر أهل المدينة أن يهجروا مدينتهم ويتركوا الوالي وحده وترفض "زاد الخير" أن ترحل معهم فيسلّمونها مفاتيح بيوتهم لتصبح "ناطورة المفاتيح". إلا أنّها بذكائها وحنكتها تتوصّل الى إقناع الوالي الظالم والساذج بالتخلّي عن ظلمه وتدعو الناس للعودة الى أراضيهم والى بيوتهم بعدما زال الظلم.
لم يجد منصور الرحباني من الوجوه القديمة التي ظهرت في الأعمال الرحبانية سوى انطوان كرباج وأيلي شويري وجوزف ناصيف. أمّا الآخرون فبعضهم رحل وبعضهم هجر المسرح والغناء وبعضهم يعمل في عروض أخرى هدى ووليم حسواني، وفي بعض مقاطع "جسر القمر" اضطرّ أن يلغي صوت نصري شمس الدين وأن يحلّ محلّه صوتاً آخر تماماً مثلما جعل أحد الممثلين يطلّ أيضاً في شخصيّته. إلا أنّ منصور لم ينسَ الثلاثة الكبار الذين تركوا فراغاً كبيراً في المسرح الرحباني وهم: عاصي، نصري شمس الدين وفيلمون وهبة. ولئن حيّت فيروز الغائب - الحاضر عاصي في موّال جميل كتبه ولحّنه منصور فأنّ فيلماً قصيراً أعاد الثلاثة معاً الى ذاكرة الجمهور. وبثّ الفيلم قبل الجزء الأخير من العرض وفيه ظهر عاصي قائداً للأوركسترا في حفلة "الأولمبيا" الشهيرة في باريس فيما عيناه تحدّقان في وجه فيروز وهي تغنيّ وعلى شفتيه ابتسامة عريضة فيها من الفرح ما فيها من الأسى. أما فيلمون وهبه ونصري شمس الدين فيطلان من خلال لقطات من الأفلام الرحبانية: بنت الحارس، سفر برلك وبيّاع الخواتم. ويرتفع صوت نصري شمس الدين بجملته الشهيرة: "وقلّن بعد الله يعبدو لبنان". وكان من الممكن تحقيق شريط وثائقي أجمل وأغنى لو عاد منفّذو الشريط الى بعض الوثائق المهمّة. فعاصي يستحقّ أكثر من هذه الإطلالة ولا سيّما أنّ طيفه لا يزال على أدراج القلعة كما قال الموّال.
أمّا المفاجأتان اللتان منّى الجمهور نفسه بهما وأقصد أغنيتي منصور والياس الجديدتين فلم تكونا في حجم انتظار الجمهور لهما. أغنية منصور الوطنية وعنوانها "آخر مرّة" بدت رحبانية شكلاً ولكنّها خلت من النار التي اعتاد منصور أن يؤجّجها في الشعر والموسيقى. كلامها شبه واقعيّ وخالٍ من الصور الجميلة وعلى قدْرٍ من الأدّعاء الوطني الذي لم يبق مقنعاً. فأيّ وطن هذا الوطن الأخضر الذي ستبنيه فيروز؟ وهل بات ممكناً أن تعلن مطربتنا بحسب ما كتب منصور أنّها ستبني وطنها مثلما تشاء؟ ربّما أجمل ما ورد في القصيدة الوطنية جملة تقول: ليس أتعس من أن تجلس وتتذكّر. أمّا اللحن فكان خالياً من العفوية والنضارة اللتين كثيراً ما ميّزتا ألحان منصور. وربّما هي نزعة فناننا "الأوركسترالية" التي تجلّت في عمله الأخير آخر أيام سقراط أبعدته عن شعرية التلحين وأوقعته في التأليف أو التركيب المصطنع وهو ينمّ عن مهارة فقط ومراس وليس عن إحساس ورهافة داخلية. أغنية الياس وعنوانها "معك" كانت دون المستوى الرحباني وبدت كأنّها مكتوبة وملحّنة لمادونا مثلاً أو سواها من "الدخيلات" على الغناء واللواتي يلحّن الياس لهنّ "تحت الطلب" كما يقال أو على طريقة إعلان "باريّلا معكروني". وكان الياس قدّم أكثر من أغنية الى فيروز فاختارت الأفضل بعدما استشارت زياد، والأغنية تستوحي جو الديسكو في السبعينات وتذكّر بما يروج من ألحان تجاريّة. إلا أنّ صوت فيروز استطاع أن يُضفي على هاتين الأغنيتين دفئاً ما وأن يرتقي بهما قليلاً محرّراً الأولى من وطنيّتها الجافّة والثانية من سذاجتها.
أمّا زياد الرحباني الذي حمل الكرّاس اسمه على الغلاف فانسحب من الليالي الرحبانية وسحب أغنيتين كان من المقرّر أن تؤدّيهما فيروز في الجزء الأخير وهما "سلّملي عليه" و"اشتقتلّك". وبدا انسحاب زياد مفاجأة غير سارّة للأخوين منصور والياس وللمطربة فيروز. ولم ينسحب زياد إلاّ احتجاجاً على "البلاي باك" الذي اعتمده منصور وفيروز في المقاطع المختارة من المسرحيات وفي الأغنيات الجديدة. وكان زياد أصرّ على أن تؤدّي فيروز الأغنيات الجديدة إداء حيّاً وكان قرّر أن يرافقها شخصياً على البيانو. وحين تمّ اعتماد "البلاي باك" رفض زياد أن يشارك في خداع الجمهور فانسحب ولم يرسل أغنيتيه اللتين ظلّ الفريق التقنيّ ينتظرهما حتى الدقائق الأخيرة من ليلة الافتتاح. غير أن خدعة "البلاي باك" استمرّت وبلغت ذروتها في "تركيب" فرقة موسيقية انتحت زاوية من زوايا معبد "جوبيتر" وراحت تتظاهر بالعزف فيما "الميكروفونات" مغلقة. وراح الياس الرحباني يتظاهر بأنّه يقود الأوركسترا مرتدياً ملابس مايسترو مزيّف وغير حقيقيّ، ولم يخجل في الختام من المشاركة في القاء التحية على الجمهور ومن قطف بعض التصفيق. ولعلّ أطرف ما ظهرت فيه الخدعة أنّ صوت البيانو ارتفع على الشريط المسجّل في إحدى الأغنيات فيما الفرقة الموسيقية تخلو من البيانو. تُرى هل كان الرحبانيان منصور والياس يحتاجان الى الحضور الوهميّ للفرقة كي يزيدا من خداع الجمهور؟ أليس من العيب المضيّ في الخداع حتى يستحيل أسوأ من خداع؟ ولئن استخدم الرحبانيان عاصي ومنصور "البلاي باك" سابقاً اضطراراً في بعض المسرحيات التي كان يطول عرضها أو في الحفلات فأنهما ما كانا ليخدعا جمهورهما! وكم من الأعمال الرحبانية لم تقدّم إلا تقديماً حيّاً!
حين شاع خبر عودة فيروز ومنصور الى قلعة بعلبك ترك الخبر صدى طيّباً في قلوب الجمهور الرحباني الكبير. فالعودة تعني أوّلاً "المصالحة" الفنيّة بين منصور وفيروز وثانياً الأطلالة الجديدة في معبد "جوبيتر" الذي شهد أجمل الأعمال الرحبانية. لكنّ العودة لم تكن إلا عودة فيروز ولكن بأغنيات قديمة وجاهزة مسجّلة وأغنيتين جديدتين وجاهزتين أيضاً. أمّا منصور الذي ظلّ وراء الكواليس فكان قطف لتوّه نجاحاً كبيراً في مسرحيته "آخر أيام سقراط". ومن وراء الكواليس قرأ منصور قصيدته التي غنّتها فيروز. وفي الختام آثر ألا يطلّ ليلقي التحيّة على الجمهور. جلس منصور يتذكّر كما تقول قصيدته، يتذكّر الليالي الرحبانية التي أضاءت في الماضي لا قلعة بعلبك فقط وإنّما قلوب اللبنانيين ووجدانهم العام. ومثلما تذكّر منصور تلك الليالي تذكّر الجمهور بدوره عالماً رحبانياً كان ولم تبقَ منه إلا الذكريات توقظها القصائد الجميلة والموسيقى الجميلة وذاك الصوت الأقوى من الزمن، صوت فيروز الذي كلما نظر اللبنانيون الى الأمام وجدوه أمامهم يدلّهم الى فردوس عابق بالنسائم والروائح العطرة والدفء.
والعالم الرحباني الذي شاهد الجمهور الجديد جزءاً منه أطلّ وكأنّه يعلن نهاية الحلم بل نهاية زمن كان من شدّة جماله أبهى من الحلم. وما شاهده الجمهور لم يكن جميلاً إلا لأنّه كان أقرب الى الذكرى فهو لا يستمدّ جماله إلا من كونه ذكرى.
أمّا صوت فيروز فلم يتجلّ سحره إلا في قدرته على وصل الماضي بالحاضر وكأنّهما زمن واحد هو زمن هذا الصوت النقيّ والصافي والحنون والجارح من شدّة حنانه، صوت لا أمس له ولا حاضر، صوت يحيا في المستقبل مُشرَعاً على الضوء والرأفة، على الرجاء الأقوى من الرجاء، على الحلم الأرقّ من زهرة الحنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.