انتهت "الليالي اللبنانية" التي أحيتها المطربة فيروز في معبد جوبيتر في قلعة بعلبك لكن السجال حولها لم ينتهِ. فخدعة ال"بلاي باك" التي استقبل الرحبانيان منصور والياس الجمهور الكبير بها ما زالت تثير الكثير من الأسئلة وقد أذكتها مقاطعة زياد الرحباني للحفلات احتجاجاً على تلك الخدعة. اما ردود الرحبانيين على المواقف النقدية التي واجهتهما فلم تكن مقنعة وكذلك تبريرهما لاعتماد ال"بلاي باك" لم يكن مقنعاً بدوره. فعودة الليالي الرحبانية الى بعلبك بعد غياب 25 عاماً كان من الواجب ان تكون حقيقية وكان من المفترض على الاقل ان يقدّم الأخوان للجمهور بضع أغان ومقطوعات حية فلا تغدو الليالي مستعادة من الماضي استعادة مزيّفة. ألم يكن بالإمكان ان تؤدي المطربة فيروز ثلاث اغنيات حية هي التي ما برحت تحيي اجمل الليالي الغنائية؟ ألم يكن ممكناً ان يقود الياس الرحباني الاوركسترا الصامتة قيادة حقيقية فيقدم بعض المقطوعات الحية عوض ان يتحول الى "مايسترو" صوَريّ؟ وإن بدت اغنيتا منصور والياس الجديدتان دون المستوى الرحباني السابق فهل يستطيع الاخوان ان يفرضاهما على الذين لم يحبوهما وأن يقنعا الجميع بهما؟ في هذا الحوار الذي اجريناه معه، يردّ الياس الرحباني على المواقف النقدية التي واجهتها "الليالي الرحبانية" مبرراً الأساليب والطرق الفنية التي اعتمدها هو وشقيقه في اخراج تلك الليالي: بعد غياب 25 عاماً عن مهرجانات بعلبك تفاجأ جمهور الرحابنة والجيل الجديد باعتماد تقنية ال"بلاي باك" في شكل كامل في المسرحيات وحتى في الأغنيات الجديدة، بينما كان ينتظر بشوق سماع صوت فيروز لماذا؟ - بالنسبة الى هذا الموضوع اودّ ان اعلّق على ما ورد في صحيفة "الحياة" الثلثاء 18 آب اغسطس وفيه وردت ملاحظات ينبغي توضيحها: فنياً من يريد ان يتعاطى في عالم الموسيقى عليه ان يفهمها جيداً ويمكن لكاتب المقال ان يفهم في الذرّة والفيزياء من دون ان يتوصل الى اكتناه عمق الموسيقى. هذا تحريك مقصود رماه احد الصحافيين وأحد الموسيقيين وأحدث ضجة على التلفزيون عن ال"بلاي باك". هذه التقنية مستخدمة حتى في لندن بلد الحضارة والفن، وحين تكون المسرحية غنائية تتضمن تحركاً جماهيرياً على المسرح لا يمكن إلا استخدام هذه التقنية. اما في ال"ريسيتال" عندما تقف المطربة دونما حراك او تتمشى ووراءها الكورس والأوركسترا عندها يمكن الغناء الحيّ. منطقياً لا يمكن للممثلين التحرك والتمثيل والغناء في الوقت نفسه. وكيف يمكن لفيروز ان تصعد ادراج بعلبك وتنزل وتمثل وتغني في وقت واحد؟ ألم يكن ممكناً الاستغناء عن ال"بلاي باك"، أقلّه في الاغنيات الجديدة؟ - هذا غير ممكن تقنياً انه يخرب كل التقنية الموجودة على المسرح والأوركسترا موجودة وكلّفت زهاء 60 الف دولار وهي دليل على احترامنا للجمهور الحاضر وللمشهدية الكاملة. لكن الجمهور كان يهتم لسماع صوت فيروز الحيّ اكثر من اهتمامه بالمشهدية... - عندها كانت فيروز غنّت كما في ساحة البرج لكن تقديم عمل متكامل يتضمن مقاطع من ثلاث مسرحيات لا يمكن إلا بهذه الطريقة ... وهنا لا يمكن شرح التقنية في شكل سهل. لا يمكن ان نعرف متى تتدخّل الاوركسترا الحية لتسعف الاوركسترا المسجلة، هذه العملية هي بنت اللحظة يتحكم فيها مهندس الصوت، وخلافاً لما ورد في بعض المقالات فان عاصي الرحباني هو الذي ثبّت ال"بلاي باك". كان عاصي يستخدم ال"بلاي باك" في مسرحياته الجديدة بينما المسرحيات المعروضة اليوم اضحت قديمة والناس الذين حضروا الى بعلبك كان يهمّهم سماع صوت فيروز اليوم وليس الأمس؟ - عندما ندخل في العملية التقنية علينا ان نطيع التقنية احتراماً للناس الذين أتوا لسماع شيء جميل ولائق. فاذا غنّت فيروز عبر الميكروفون وصوتها هو صوتها إن كان "بلاي باك" او لم يكن لقد دخل على الكهرباء، فمن الممكن ان يغيّر الذي يجلس على الميكسر صوتها الميّال الى الذبذبات الرفيعة فيشوّهه. والغناء المباشر الصحيح يتطلب الغاء الآلات الكهربائية كلها. فيتجمّع عندئذ 30 شخصاً وتكون الحفلة مباشرة والأمر غير معقول في بعلبك حيث صوت الهواء يحول دون السماع بوضوح. فالعرض المباشر يكون عبر الغناء والعزف من دون ميكروفون، اما حين نستخدم التقنيات الحديثة فعلينا ان نقوم بذلك بأرقى مستوى، على اي حال ان صوت فيروز سجّل قبل اسبوع فقط وهو نفسه. وفي اول ليلة غنّت فيها فيروز لم تتمتم بل أسمعت صوتها عالياً حتى انه بحّ في اليوم التالي. ولما طلبت منها التخفيف قالت لي لا استطيع اين هو صدقي مع الجمهور؟ الشعب يفهم هذا الامر بغضّ النظر عن هذه الحملة المقصودة. ثمة اشخاص هدّامون لم يتقبّلوا المصالحة بين فيروز والرحابنة ويعملون، لاستيائهم، على اعادة الانفصال. من جهة اخرى انتقد البعض منصور الرحباني لأنه تكلم عن الوطن، ثمة اشخاص لا يريدون لبنان، فأغنية منصور هي للقلب وفيها الوطن الذي يمثله منصور في الكلمة ولا يمكن انتقاد الصوَر التي تمجّد جمال لبنان والسهل الاخضر الواسع، والحلم ليس ممنوعاً بل ضروري للارتقاء بالوطن. ألم يكن من الممكن اختيار مقاطع اكثر شعرية وتعبيراً عوضاً عن اختيار عبارات وكليشيهات سياسية تخطاها الزمن؟ - الصورة الشعرية ممتازة جداً ولكن هناك اشخاص لا يريدون وطنهم وطن المحبة. وعندما يكون لبنان في موقع خطر والوجود اللبناني مهدداً علينا ان نمدّه بالقوة ولو عبر الكلمات وإن لم نسانده فعليه السلام. ولا يقف وطن مثل لبنان إلا عندما يزدهر الفن والثقافة فيه. ومن يعاكس هذا الامر يكون مخطئاً لأن محبة الوطن يجب ان تتردد يومياً على مسامع الاطفال والطلاب والأولاد. وأعتبر ان بعض الصحافيين لم يقوموا بنقد بل بتجريح بمنصور والياس الرحباني وهؤلاء ليسوا ناطقين باسم الشعب اللبناني وليسوا الشعب الذي وفد من انحاء البلاد العربية وذهل بالعمل الرحباني، كان عليهم ان يتكلموا باسمهم الشخصي. لكن المقالات موقّعة بالأسماء وهذا يعني انه رأيهم الخاص؟ - هذا الامر لا يفهمه الجميع، عليهم ان يعبّروا عن رأيهم ويقولوا هذا رأينا الخاص وليس رأي الشعب وعليهم ألاّ يجرّحوا بالآخرين كاستخدام عبارات مثل "ألا يخجل" وسواها. لمَ استخدمتم الفرقة الموسيقية رغم اعتماد ال"بلاي باك" أليس هذا خداعاً للجمهور؟ - ابداً، الاوركسترا هي تعبير عن احترام الناس الذين وفدوا لرؤية مشهدية كاملة. كان باستطاعتنا توفير 60 الف دولار ولكن اجلالاً للناس وضعنا اوركسترا. وأشير الى ان اللحظة التي ينحني فيها الفنان امام جمهوره انها لحظة صفاء نابعة من احترام الفنان لجمهوره. أحد الموسيقيين في الاوركسترا قال انه عوضاً عن التفرج على فيروز من بين الجمهور رأيناها على المسرح فنحن لا نعمل شيئاً! - هو غلطان، لدينا في الفرقة اشخاص يتّبعون الخط الهدّام وثمة موسيقيون يختلقون اخبار ونحن نعرفهم، لكننا نتعامل مع الموسيقي اذا كان موهوباً ولا نأخذ الاعتبارات الاخرى. ونحن قمنا ب10 بروفات استعداداً للحفلة، لكن مثلما يوجد صحافيون يحبون تشويه الوقائع يوجد ايضاً موسيقيون يشبهونهم. يسأل البعض كيف يقبل الفنان الياس الرحباني ان يلعب دور المايسترو من دون عزف حقيقي؟ - هذه ولدنات، وأذكّر الصحافيين ان عاصي هو الذي أسّس ال"بلاي باك". وكان يدير الاوركسترا وأنا ارافقه ولما ننتهي ننحني ونحيي الجمهور. الناس يحبوننا اكثر مما يتصور بعضهم، لقد عملت اسطوانة موسيقية من دون صوت ولا كلمة وبعت 200 الف كاسيت وزهاء 15 الف اسطوانة "سي.دي." من موسيقى الليفرو، وأعتقد ان محبة الناس هي اكثر مما استحق. وأنا آسف ان يكون بعض الصحافيين بعيدين عن الجمهور ولا يوجد بيني وبينهم شيء وأكنّ لهم كل المحبة. لماذا انسحب زياد الرحباني من المهرجان؟ - عليك ان تسأليه وهو كان يعلم باعتماد ال"بلاي باك" ويدرك ان مسرحياته كلها كانت "بلاي باك". هو يعتبر ان فيروز كانت ستؤدي اغنيتيه مباشرة ثم تبدل الامر ورأى فيه خداعاً للجمهور فانسحب... - نحن اتخذنا القرار منذ البداية ولم نعد بشيء. زياد ابن اخي وأحبه وأسعد ايام حياتي هي عندما كنت آخذه معي الى الاستديو. من اقترح فكرة ال"بلاي باك"؟ - عاصي الرحباني... وفي المهرجان هذا العام؟ - عاصي الرحباني. بدأت هذه التقنية منذ زمن ولا نستطيع ايقافها من اجل شخص او شخصين يحبون غناء موّال على هواهم. وإلا لم يكن يوجد بعلبك ولا مسرحيات غنائية مثل "سقراط" و"بترا" و"يعيش يعيش" وسواها. اذا لم يتم التراجع لماذا انسحب زياد برأيك؟ - لا اعرف، يجب طرح هذا السؤال على زياد، فأغنيته سجّلت وتم دفع اتعاب الموسيقيين وكل شيء ولا اعرف لماذا انسحب. فقد اتصل بي ليستشيرني وغسان في امر تقني وذهبنا الى بعلبك وانتظرنا الاغنيات ولم يأتِ زياد... ألم تتصل به وتسأله عن السبب؟ - سألته فيروز... وبماذا اجابها؟ - لم أسأل فأنا لست متطفّلاً. لاحظ البعض ان اغنيتك الجديدة "معك" التي تؤديها فيروز في بعلبك بعيدة من النَفَس الرحباني الذي عوّدتنا عليه في الماضي عبر اغنيات منها "كان الزمان" و"الأوضة المنسيّة" وسواهما ... فظهرت هذه الاغنية وكأنها ملحّنة لشخص اقل من مستوى فيروز ألا تعتقد ان فيروز تستحق عملاً افضل؟ - "معك" هي اغنية مشابهة لأغنيات الماضي ومنها: "كنا نتلاقى من عشيّة"، و"كان عنّا طاحون"، و"كان الزمان". "معك" هي اقوى من هذه الاخيرة التي انتشرت في العالم وهي اصعب من الطرب. هذا الامر يفهمه الموسيقيون الكبار وليس المتعصّبون الجالسون في زوايا المقاهي يدافعون عن فلسطين، وفلسطين لم ترجع وهم ينظّرون منذ 40 عاماً. نحن لا نطلق النظريات، و"معك" هي من اصعب مسافات الصوت الغنائية التي يمكن ان توضع في اغنية. والناس الذين لا يحبون النكايات جاءوا جميعهم إليّ وأبدوا اعجابهم بالأغنية حتى منصور نفسه هنأني بها. دائماً لم اكن اعطي فيروز طرباً في مسرحياتها لأن الطرب كان يهتم به فيلمون وهبه ومنصور او عاصي او زياد، وفيروز هي من طلبت مني اعداد اغنية ايقاعية عالمية فكانت اغنية "معك" وهي تستطيع ان تغنيها على مسارح برودواي. ومن يفهمون في الموسيقى يدركون ان هذه الموسيقى وهذه الاغنية ذات قيمة عالمية في تقنية التسجيل والتوزيع وطريقة لحنها تعادل اي اغنية بقيت من الخمسينات. وأودّ ان اقول ان العمل الذي يعرض في بعلبك هو بمثابة هزّة لعواطف الفنانين ليحسّنوا فنّهم، هذا ليس تحدياً للفنانين ونحن لا نتبجّح بأنفسنا وجميعنا علينا ان نحسّن انفسنا وعملنا هو خط الدفاع عن الوطن ومن يحب وطنه يدافع عنه. لاحظ كثيرون ان لمسات المخرج الايطالي لم تكن باهرة في المهرجان لماذا برأيك؟ - انا اوافق على هذا الامر، فالمخرج الايطالي لم يفهم الجو ولا الفكرة بالرغم اننا شرحنا له الاطار المطلوب وتمت ترجمة النصوص لكننا فوجئنا في ما بعد بالديكور. وبالنسبة الى الديكور في بعلبك فهو صعب وبين عظمة الأدراج والأعمدة على الشخص ان يستخدم قيمة الكلمة والموسيقى وحضور فيروز هو أهم من اي شيء يوضع. كم تعتبر نفسك انك تنتمي الى المدرسة الرحبانيّة للأخوين رحباني وماذا طوّرت فيها؟ - عندما ينتمي الإنسان الى بلد لا يحلّل ذكرياته ولون سماء بلده ولا رائحة الطيور وزهور الليمون. انا نشأت في عائلة ممزوجة في هذا الجو ووعيت على الحياة، والموسيقى هي مثل الهواء الذي نتنشّقه ولم أعرف انها موسيقى لأنها كانت موجودة مع عاصي ومنصور. الموسيقى هي مثل الشمس ومن يسأل متى يطلع الضوء؟ فجأة وأنا اكبر وعلى رغم الحال العائلية غير المريحة احضر عاصي ومنصور بيانو الى المنزل ولما شاهدا انني اميل الى الموسيقى استقدما لي اساتذة فرنسيين منهم برتران روبيار وهو علّم غالبية الموسيقيين في لبنان ومنهم زكي ناصيف وتوفيق الباشا وعاصي ومنصور وسواهم. واكتسبت العاطفة والألوان التي اراها في بلدي، في الوديان وصوت الانهار، من هنا اعطى لبنان كل انواع الموسيقى لانه يتمتع بالريح والعواصف والرعد ولون السماء الصافية وزهور الحقل. من هنا دخل التراث الرحباني الى اعمالي مثل بلدي لبنان وكان لي خط لا يمكنني ان افسّر ان كان مختلفاً ام لا لأن الفن لا جديد فيه كما يدّعي البعض انهم عملوا نوعاً جديداً في الموسيقى. هذا غير صحيح، الموسيقى تولد جميلة او غير جميلة، نحن لا نقدر ان نكون افضل من موزارت لأننا ولدنا في هذا الزمن. عظمة الفن والادب والرسم والموسيقى تعيش خارج الزمن والفن لا يشيخ ولا يذبل. ما هو جديد الياس الرحباني؟ - أحضّر اسطوانة موسيقية ثانية للبنان والعالم العربي وأوروبا والعالم كله. وأنا اتعامل مع شركات عالمية وأحضّر اغنيات لراغب علامة ووائل كفوري، وأشير هنا الى انني عملت لبلدي تراثاً ارفع به رأسي بقيت عليه ولم اربح منه، بل دفعت من جيبي. والإعلان الذي يتهمونني به هو عن ماركة شهيرة. ليس اذلالاً ان يعمل المرء في الاعلان لانه يتضمن موسيقى قادرة ان تكون افضل من الاغنية خصوصاً عندما يكون الاعلان مشغولاً ونظيفاً. ولكن يصعب على الاعلان ان يتحول الى اغنية، وخصوصاً ان كلاماً عن المعكرونة يصبح اغنية للمطربة صباح! - حتى مايكل جاكسون عمل في الاعلانات ونحن لسنا اكثر شهرة منه. يقال ان الرحابنة لا يتقبّلون النقد الصحافي وكأن فنّهم منزّه لا يمكن ان تشوبه اي شائبة، ما رأيك؟ - دائماً كان عاصي ومنصور يتقبلان النقد. وأعمالهم التي نعرضها اليوم "جبال الصوّان" و"ناطورة المفاتيح" تم انتقادها في كثير من الجرائد اللبنانية نكاية بعاصي ومنصور، لكن بعد 20 عاماً تراجع الاشخاص نفسهم عن مواقفهم. انا مع النقد البنّاء الذي لا يجرح لا فيروز ولا الرحابنة ولا سواهم. صحافيون يعرفون كيف ينتقدون لكن بعضهم الآخر يتفلسفون