بعد عامين على صدور الرواية الأولى "الظهر العاري"، تقدم الكاتبة هنرييت عبودي روايتها الثانية "خماسية الأحياء والأموات" التي صدرت للتو دار المدى، 2003 في خصوصية واضحة، موضوعاً وتقنية ولغة، في ما يشبه دراسة الطبائع البشرية، بتدرجات اختلافها وانسجامها، وتباين نزعاتها وهمومها وطموحاتها، مكثفة في خمسة نماذج لشخصيات من وسط مثقف تنتمي إلى الطبقة الوسطى، يمكن أن تشعر أنك تعرفها - إذا كنت من شريحتها - أو أنك أحد أعمدتها الخمسة، من خلال ما يستفزك وأنت تقرأ عنها ما يشبه تقريراً سرياً عنك وعنها، أو تشاهد شريطاً مصوراً عن حياتك الخاصة، يتداخل، في مونتاج متوازٍ مع حيوات بعض الذين تعرفهم جيداً، أو لا تعرف خطوطاً عامة وخاصة في مساراتهم، عندما تجاوزوا الثلاثينات من أعمارهم. شخصيات تحلم وتعترف وتتوهم وتشك وتتلمس كل ما حولها، تغامر وتكابر أو تنهار، تعذب نفسها أو تشكو من تعذيب الآخرين لها، تتكتم أو تتجاهل، تحاول قراءة العيون وجغرافية الوجوه والأجساد، وما وراء الكلمات في مرايا مقعرة أو محدبة أو متعاكسة، وهي على كل حال شخصيات مكشوفة أو مواربة، تحب الحياة وترقص وتفرح وتلعب وتحاول أن تفعل شيئاً خاصاً بها وهي ليست يائسة أو مقموعة أو مستسلمة ومنقادة إلى قدرها. ومع أن أحداث الرواية تجرى في أماكن متعددة، مغلقة ومفتوحة، إلا أنها، من خلال لوحاتها، تبدو كما لو أنها تجرى حول طاولة مستديرة يتحول فيها المتكلم إلى مستمع، والراصد إلى مرصود، والمحامي إلى متهم وتتوازى الصور القديمة من أوائل القرن الماضي، وما بعد الحرب العالمية الأولى، مع أحداث الحاضر المستمر في نسيج ملون، يستمد خصوصيته من خلطة المزاوجة بين أصنافه وألوانه المختلفة. اختارت الكاتبة أن تقدم روايتها على شكل لوحات منفصلة، متصلة تتناوب الشخصيات الخمس الحديث في ثلاث وخمسين لوحة منفردة، تتقاطع اللوحات لتشكل في النهاية لوحة جدارية منقوشة بأصابع امرأة تعرف ما تريد. "غدير" فنانة شابة ترسم وكأنها ترسم الحلم، فيضيع الخط الفاصل بين الحلم والواقع، وتسرح مع الوجوه التي ترسمها وتطاردها، أو مع الوجوه الحية التي تشبه لوحاتها، وكأنها حطمت الإطار وتسللت إلى أرض الواقع، كما يحدث في أفلام الكرتون. "مازن" محام شاب مندفع وراء أحلامه ورغباته المتدفقة، التي تثير شكوك زوجته الأستاذة الجامعية "نجلاء"، وحينما رفض رغبة نجلاء بالإنجاب، بعد عام من زواجهما ازدادت هذه الشكوك لديها، بينما يرى مازن أنه إذا صار أباً لطفل فإنه لن يستطيع أن يستمر كإبن مدلل، وكانت لقاءاته الاستعراضية بنساء وفتيات أخريات تجرح كبرياء نجلاء وتزيد من شعورها بالإحباط، الذي يثير الأسئلة حول جدوى الاستمرار في العيش مع رجل يجرح كبرياءها وهي التي اعتادت أن تدافع عن حقوق المرأة في المجتمع. يشكل "حليم" في هذه المجموعة صمام الأمان، ومستودع الأسرار، والوسيط الذي يمتص المخاوف والأوهام، وهو يدير مكتبة تتيح له أن يستقبل الأصدقاء، في أي وقت خارج اللقاءات المألوفة في منزله، حيث يدير الحوارات الصعبة، ويطبخ الوجبات الشهية، على نار هادئة كما يطبخ الأفكار، وهو عازف عن الزواج، متصالح مع نفسه، ربما لأن له نزعات ورغبات مختلفة في عواطفه الملتبسة المكتومة، وهي جزء من الغوايات اليومية غير المرئية. ويمكن أن تلتقي المجموعة الخماسية فجأة في مرسم الفنانة غدير تلبية لدعوة طارئة محبوكة للمصالحة بين نجلاء وزوجها مازن الذي هجر البيت، في إحدى مناوراته للتملص من قيود الحياة الزوجية. "بهاء" عاطل من العمل، في الخامسة والثلاثين، وهو رهينة خياله الجامح، وإذا كان "حليم" يعيش بالوكالة عن أقرانه من الأحياء، فإن "بهاء" يعيش بالوكالة عن أجيال مضت، ولم يكن حليم مخطئاً حينما اقترح على بهاء أن يسكن في بيت نسيبته، السيدة العجوز المستوحدة، التي تعيش مع الماضي الذي صار موضوع الحوار المتواصل مع بهاء، وهو الماضي الحي في مخيلة بهاء، بينما لا يشكل في ذاكرة السيدة إلا مجرد ذكريات، وهي بذلك تشكل وسيطاً جيداً للتواصل بين بهاء وذلك الماضي الذي كانت فيه المرأة مكتومة الأنفاس محبوسة العواطف. يقضي بهاء ساعات من يومه في حوار مع السيدة العجوز، يتأمل ويستقرئ مجموعات الصور العائلية والشخصية، يسأل بإلحاح متواصل عن العلاقات المعلنة والغامضة بين تلك الشخصيات المشدودة بغوايات غير مرئية. يستعيد بهاء قصص الماضي، من قراءة الصور، يحدد الأسماء والمشجرات، يحاول أن يشكك في صحة بعض المعلومات، أو يظن أنها منقوصة، ويعيد بناء علاقات الحب والزواج والانتقام والحب من طرف واحد والغيرة والطلاق والموت المفاجئ، ويتحول الحوار بين بهاء ومضيفته إلى ما يشبه استجواب مفتش البوليس السري لمتهم مراوغ، ولكنه يستجيب في بعض الأحيان ليعطي معلومة منقوصة، تدفع بهاء إلى طرح أسئلة جديدة، لكن السيدة العجوز تتهرب من بعض الأسئلة الاستفزازية، تغار على أبطال حكاياتها، فتنشر حولهم ستاراً جديداً من الضباب، وهذا ما يفعله الآخرون الذين تتوازى حكاياتهم في الحاضر مع حكايات السيدة العجوز عن الماضي، فليس كل ما يعرفه مازن ونجلاء وحليم وغدير وبهاء يقال، ولكن كاتبة الرواية حاولت أن تقول عن شخصياتها المتوقدة كل ما تعرف، بصراحة، من دون خوف.