في تجربته الروائية المميزة، يقوم الرهان الأول للروائي السوري خيري الذهبي على الحفر في التاريخ، منذ روايته الأولى "ملكوت البسطاء - 1976"، وبخاصة ثلاثيته "التحولات". ويقوم الرهان الثاني للكاتب على الحفر في التراث السردي. أما رهانه الثالث فيقوم على ما دعوته منذ عام 1982 ب"تقليدية الرواية الحديثة"، ولعله لم يزل صحيحاً، على ضوء ما وسم روايات الذهبي من المواءمة بين التقليدي والحداثي. وها هي الرهانات الثلاثة تبلغ أقصاها في رواية الذهبي الجديدة "فخ الأسماء" دار الآداب، بيروت، 2003. فليس من العسير على المرء أن يكشف عن الأس التاريخي للرواية، وبخاصة لمن قرأ بعض المقالات التي ضمّها كتاب الكاتب "التدريب على الرعب". فالسلطان العجوز هو برقوق، والجغتائي هو تيمور كما تجلو مقالة "التدريب على الصمود"، وفيها خصوصاً تلك الشخصية الروائية التي سنرى: ابن عرب شاه، أي ابن ملك العرب، صاحب كتاب "عجائب المقدور في أخبار تيمور". وفي مقالة "القط في القفص" يمتح الكاتب من كتاب "الحيوان" للجاحظ الشخصية الروائية "نوري" وخبرته بتربية الحمام، وما جاء أيضاً عن تربية القطط. أما مقالة "الكذب الأجمل من الصدق" عن لوقا السميساطي السوري "لوقيانوس الاغريقي"، فتجلو ما رشح إلى رواية الذهبي مما كتب لوقا في "قصة بسيطة" عن رحلته البحرية، ومصادفته الجنية - الحورية التي تمسخ العشاق. لكن لعبة التناص في رواية الذهبي، وبالتفاعل مع اللعب السردي التراثي، تخرج بالقراءة من عنق مثل هذه المطابقة إلى الأفق الروائي الزاخر والساحر، وحيث يشتبك سحر الحكاية ببلاغة التاريخ. ففي ذلك الزمن المملوكي وفي الشام "دمشق" والصحراء والشرق الذي جاء منه الجغتائي - تيمورلنك - تطوحنا الرواية في فخاخ الأسماء بين الماضي والحاضر والمستقبل، كأنما هي ليالٍ جديدة من "ألف ليلة وليلة" - وللكاتب روايته "ليال عربية - 1980" - ستنهض روايةً بالبناء الحكائي، حيث تتوالى ثلاث حكايات كبرى، وفي كل منها حكايات صغرى فأصغر، وكل حكاية قد تبدأ الرواية بطرف منها، لتقطعه حكاية أخرى أو طرف منه, ثم تكون عودة إلى طرف جديد أو إلى التتمة، كما قد تأتي الحكاية كلها دفعة واحدة. ولا يخفي تقليدية السرد في ذلك أن يتناوب عليه السارد بضمير الغائب مع الشخصية الروائية بضمير المتكلم، أو أن تنفرد الشخصية الروائية بالسرد، كما هيغالبية حصة الحكاية الثانية الكبرى من الرواية. لكن الأهم يبقى أنه - عبر ذلك - ينعجن التخييلي بالتاريخي، فتصير الحكاية بسحر الفن تاريخاً، ويصير التاريخ حكاية. عبر كيس الثمار - الرؤوس التي يحملها رسل الجغتائي للسلطان الشامي، تبدأ الحكاية الكبرى الأولى للرواية، مع "نوري" الذي يحكي حكايته مع الحمام، أي حكاية جنونه الإبداعي الخاص الذي تسبب بهجران امرأته له. قضى نوري عشر سنوات يرعى زواج الذكر الهندي بالأنثى المروحية، جيلاً فجيلاً، إلى أن كان له "الزوج المعجزة" والحمامة الكاملة، وهدر بخديعته للسلطان، وقهره له. فمملكة الحمام كمملكة السلطان، ونوري أراد فعل شيء مخالف لإرادة السلطان الذي لا يحب التغيير والتجديد، ويعدّ تطعيم الشجرة بنوعين كفراً. ونوري مؤمن، وإن كان يعابث بالمخلوقات. لكنه حين بلغ مراده أحس بالخواء، وهو يتساءل عن جدوى إبداعه ما دام لا يستطيع أن يظهره للناس، فشرط الوجود بحسبانه معرفة الناس بالوجود. ولكن هل سيغفر الإبداع له عند السلطان؟ حين يصل الخبر إلى السلطان، يسمي إبداع نوري بالحمام الزاني، ويأمر المبدع أن يعد ما أبدع وجبة لسلطانه، ويعينه صاحب حمام السلطان. وهنا تتوقف حكاية نوري وتتوالى حكاية رسالة الجغتائي "كيس الثمار - الرؤوس"، وتبدأ تأويلات البطانة لها. فابن السلاّخ يراها رؤوس بشر تحمل آثار الحرق والتحبير، لكن الراهب العجوز قرياقوس القادم من دير الشيروبيم له تأويله الذي يأتي حكاية جديدة تقطع الحكاية الكبرى. فالراهب يتحدث عن مكتبة الدير، وعما فيها للوقا السميساطي من حكاية رحلته البحرية إلى الجزيرة العجيبة، حيث النساء جذع كرمة في ما دون الركبتين، وحيث تحول من لحق من بحارة لوقا بالنساء إلى شجيرات كرمة. وهي إذن حكاية تؤول حكاية، فالرسالة - الرؤوس هي ثمار. وهذا التأويل يقلق القلم دار الذي لم يبلغ علمه حكاية لوقا، وقد يغضب ذلك السلطان، فيمضي إلى جامع النوري حيث جماعة العور والهتم والجدع، أي القلندرية، وهي الجماعة الوحيدة التي سمح السلطان بها، لأنها لا تنافسه على المدينة، ومنصرفة إلى إيذاء الجسد والتعبد. يؤول مولى الجماعة للقلم دار حكاية الرسالة - الرؤوس بحكاية ملك الهند وطائر العنقاء. وتؤول كبيرة الجواري وصديقة السلطان الرسالة بالأرق الذي سكنه منذ وصل رسل الجغتائي. وعبر هذا التأويل تأتي حكاية هذه المرأة التي لقيت هذا الذي سيصير سلطاناً، في سوق النخاسة، وصدقت يقينه من مستقبله، وباتت عشيقته حتى كبرا، فباتت الصديقة الرؤوم. ومن تأويلها، إلى المبارزة في نحر واحد من العوام رقبته فواحد، افتداءً للسلطان، في مقابل افتداء رسل الجغتائي له واحداً فواحداً. تنتهي الحكاية الكبرى الأولى في ما يشبه نهاية القسم الأول من الرواية، إذ يحضر المماليك الفتيان الثلاثة الذين يحملون من رجل السلطان في بلاد الروم رسالة التحذير من قدوم الجغتائي، ويتحدثون عن تيههم في الصحراء، وعثورهم على المدينة - الحلم التي ستكون الحكاية الكبرى الثانية في الرواية، أي القسم الثاني. حكاية المدينة الهاربة في طريق عودة المماليك الثلاثة، هبت "عاصفة من عواصف الصحراء التي لا يمكن التنبؤ بها" فخبطوا حتى طلعت لهم المدينة التي يحسب كل منهم أنها مدينته التي ابتيع منها، فهي "المدينة الطفولة، المدينة ما قبل الأحلام والرحيل وراء السلطان". وهي مدينة هذا الإيقاع الذي سيظل يترجّع في الرواية: "لا جائع فيها ولا عطشان ولا من يبيت خارج سرير حب". وقد عثرت على المماليك التائهين قافلة حملتهم إلى حلب، فأرسل حاكمها معهم كتيبة من الجند والمهندسين بحثاً عن المدينة الهاربة، لكن البحث خاب. ومع شيوع حكايتها في الشام، طلع الصباح على السلطان بمفاجأة خلو المدينة إلا من قلّة، إذ خرج الأهلون إلى الصحراء بحثاً عن المدينة المحلومة التي روت عنها الجدات. أما السلطان فيرسل رجاله ينادون في البوادي والمدن إعلاناً عن مدينة بلا سكان تدعوهم الى سكناها، شرط أن يخلعوا أحلامهم قبل دخولها. وفي حمّى الغرائبي والعجائبي، وحمى الفاتنازيا، تتشظى حكاية المدينة الحلم إلى حكايات الباحثين عنها وقد تبددوا في الطريق فرادى. فضارب الطنبور "لطفو" الذي سمع حديثاً عن "مدينة تتجلى، تغيم، وتحضر، وتختفي، تغازل وتتمنع هناك في عمق الصحراء، سمع حديثاً عن مدينة لم يجرؤ حتى على الحلم بوجودها". يعصف به الحنين إلى الشام فيلوب السؤال: "كيف عميت عيناي فلم أعرف أن المدينة الهاربة ليست إلا المدينة التي تركتها وراءك؟". وستتوازى حكاية لطفو مع المدينة، وحكاية المرأة التي ستأخذ بلبه "فرنتى"، حتى إذا بلغ المدينة بدت المرأة فيها كالرجل: النصف الأسفل لواحدهما من حجر، فهتف باسم فرنتى، فانزلقت المدينة إلى الغياب، كما ستنزلق من الآخرين، وكل لسبب. فالشيخ المؤذن أحمد بن محمد بن عبدالله، الذي يحلم بكتاب يكتبه، ويغني في حفلات سرية ليتعيش، يلاقي مدينته حلمه، حيث الموي والحلاج وحلم الخلود في كتاب. ولأن الذين فيها يشخصون فيه الكسل والضعف والجبن عن الحلم، تنزلق المدينة منه إلى الغياب، وهو منذور لما قدروا أنه مطهره: حريق مدينة. وهذا أيضاً هو الشاعر أبو القاسم الفستقي الذي نذر نفسه للشعر الصافي، فلم يلق تقديراً حتى انخرط في السائد، وبات عَلَم الهجاء، حتى التقى "فرنتى" وكتب لها قصيدة الحب التي طلبت، والتي ستغنيها للسلطان، فيؤخذ بها. ولأن فرنتى - كما سيلي في الحكاية الأخيرة من الرواية - أُرضعتْ السم، وباتت سماً لمن يقربها، فسيموت السلطان متسمماً بها. أما الشاعر، ففي بلوغه المدينة الحلم، سيتحول أنثى، وتبدو له فرنتى وقد تحولت ذكراً، شأن كل من في المدينة. هكذا تتوالى الحكايات، فتبدو المدينة المحلومة مدينة الخوف للشيخ شاكر الذي يطن في أذنه السؤال كالذبابة "ما السلطان؟"، وتبدو للقلم دار المدينة التي لا متعة فيها مما تعوّد، والمدينة التي تتجسد "تتقمص" فيها فرنتى بشخص الحلم دار الذي كان القلم دار قد نصح السلطان بسلخه. والمدينة هي لبرهان الدين مدينة الصلاة، ومدينة الأمل المتنكرة في غابة، ومدينة الفرج المنتظر: وهي تلك النبوءة التي أرسلتها بلابل منذ بداية الرواية، وستظل تتواتر بصيغ شتى "ستطير وتطير، في قفص تطير.. وعلى الجمال تطير، وفي أرض اليباب تطير". لكن برهان الدين الذي كان أسس في الشام الأخيات - أي المنتديات والنقابات بلغتنا - سيزلق السؤال بالمدينة منه إلى الغياب، شأن سواه. في ما يشبه القسم الثالث من الرواية - وفصولها كلها بلا ترقيم ولا عنونة - تأتي حكاية فرنتى جاسوسة الجغتائي التي أنجزت مهمتها بتسميم السلطان، وغادرت إلى بغداد يتأكلها الفراغ الذي يعرفه كل مبدع بعد إنجاز مشروعه الكبير وهو يتساءل إن كان أضاع الزمن عبثاً، وما سيفعل من بعد، وإن كان يستطيع مفارقة مشروعه. ولعل أسئلة الإبداع هذه، مع ما سبقها من أسئلة نوري، ترسم أسئلة الكاتب نفسه أمام روايته أو أمام ما أنجز من تجربته الروائية، مثلما هي أسئلة التاريخ التي تترجع في الرواية بين الجغتائي والسلطان والقلم دار، فلعلها أسئلة الكاتب وما كتب. فالجغتائي يدعو "اللهم اجعل التاريخ صديقي، ولا تجعله عدوي". والسلطان جمع حوله المؤرخون الأحياء ورواة وتلامذة من مات منهم، ليحرم خصمه منهم. بالعودة الخائبة لمن خرجوا يبحثون عن المدينة الهاربة، تبدأ الحكاية الكبرى الثالثة والأخيرة في الرواية، وتتشظى في حكايات موت السلطان وتنصيب ابنه الفتى، ووصول الجغتائي إلى الشام، وهرب السلطان وجيشه إلى مصر، وتحريض الشيخ المؤذن أحمد للناس على المقاومة، ودحر أولاء للغزاة حتى تشعل حيل الجغتائي وتواطؤات الكبراء نار الفتنة، وتكون الهزيمة. إلى ذلك كله، وفي سائر الرواية، بقيت أيضاً حكايات السلطان والجغتائي. وهي تعزز ما تقدم - وبالمخيلة المحمومة دوماً - الإشارات إلى يومنا وإلى غدنا، سواء تعلقت بالعوام أم بالمثقفين أم بالحكام أم بعواصف الصحراء. ولئن كانت تلك الإشارات هي بلاغة التاريخ، فهي أيضاً سحر الحكاية، وبهما توقعنا رواية الذهبي في "فخ الأسماء".