ظهروا قديماً في حاشية الحكام منذ الفراعنة. وفي عصرنا الحديث، في ذروة العقلانية ومشروعها التاريخي، يظهرون في "بلاط" رونالد ريغان وغيره، في أميركا الأكثر تقدماً في العلوم الحديثة، وكانوا يسدون النُصح الى ليونيد بريجنيف، الشيوعي الذي يعتمد "المادية الديالكتيكية" والبراهين العلمية الملموسة. ومع ظهور الانترنت واقتصادها، يعطون الآراء في تقلبات سوق التكنولوجيا العالية والاتصالات المتطورة. لكنهم الآن في فورة غضب، ويبدو مستقبلهم مظلماً. انهم المنجمون الذين تؤكد دراسة علمية بريطانية نشرتها صحيفة "ديلي تلغراف" امس، ان لا صحة لكل توقعاتهم، وان أساس تكهناتهم ضعيف. ويزيد عذاب المنجمين ان أحد طرفي الدراسة هو العالم الاسترالي جيفري دين الذي درس الفلك والتنجيم، كأي مُنَجِّم محترف. والفارق، انه طبق مناهج علمية على التنجيم و"تنبؤاته". وراجع مع ايفان كيلي، وهو اختصاصي كندي في علم النفس، اربعين دراسة ركزت كلها على "تنبؤات" 700 منجم مكرس في العالم، وتبيّن ان صدقية التنجيم لم تزد على اي تكهن او أي تخمين عادي. "توائم الأبراج" والأرجح ان اهم ما طاولته الدراسة هو الأساس الذي تقف عليه توقعات المنجمين: أن ولادة الانسان في يوم ما من السنة تعطيه مواصفات ترافقه مدى العمر، بل تحدد مصيره سلفاً! برهنت دراسة كيلي ودين أن لا اساس لمثل هذه المقولة، وهما راقبا على مدار عقود، مصائر الفي شخص ولدوا في الأبراج ذاتها. ومعظم العَيِّنة جاء من دراسة مواليد مطلع آذار مارس 1956 في لندن، احياناً، يُسمى مواليد البرج الواحد "توائم النجوم". رصدت دراسة كيلي ودين تطور شخصية هؤلاء المواليد والطباع والصفات النفسية والأوضاع الاجتماعية وما الى ذلك، خلال أكثر من أربعة عقود. وتبيّن أن مواليد البرج الواحد شديدو الاختلاف، على رغم كل ما يقول التنجيم بوجود صفات مشتركة تجمع بينهم! انه هدم منهجي للأساس "المكين" الذي يستند إليه التنجيم. من يصدق بعد ذلك، ان مواليد هذا البرج او ذاك، يحملون خصائص وطباعاً تجمع بينهم وتميّزهم عن العالمين! انها صدمة قوية، لمن يعتقد بالتنجيم. والمفارقة ان التقدم العلمي الراهن ترافق مع زيادة تصديق الجمهور بالتنجيم. ففي بلد كبريطانيا، ازدادت نسبة من يصدق توقعات الأبراج، خلال السنوات الخمسين الماضية، من 13 في المئة الى... الأكثرية الساحقة! ويقرأ ستون في المئة من الناس ابراجهم يومياً في الصحف. وصارت شخصيات المنجمين والمنجمات، مثل راسل غرانت وميستك ميغ وشيلي فون سترانكل، من نخبة مشاهير العالم. وتعج اسواق الكتاب في الدول العربية بكتب منجمين، لم تهتم اي دراسة بمقارنة ما قالوه. وتطفح تلفزيونات العرب وفضائياتهم بوجوه تتحدث عن "الغد" بثقة وتعال، يثيران الشك والريبة. ولم يظهر عند العرب من يحول الشك دراسة علمية ممنهجة. ومع ثورة الكومبيوتر والاقتصاد الرقمي، ظهر "التنجيم المالي" ليتكهن بتقلبات الأسهم والعملات. وبديهي ان هذه المسألة في حد ذاتها تستحق بحثاً عن سبب التناقض الواضح بين التقدم العلمي وبين زيادة التصديق لكل ما هو "اسطوري" وخارج عن العقلانية.