أين كنت في ايار مايو 1968؟ أين كنت أيام اندلعت في فرنسا، كما في غيرها، تلك الثورة التي قيل انها فشلت، فإذا بها تتبدى اليوم واحداً من اكثر احداث النصف الثاني من القرن العشرين، تأثيراً في الذهنيات؟ ما هي هذه الثورة؟ انها ربيع باريس بالتأكيد، تلك الانتفاضة الطالبية والشبابية التي، مهما اختلفنا في تفسير خلفياتها وأسبابها، يمكننا ان نتفق على انها احدثت من التغيير ما لم تحدثه أي ثورة اخرى في زمنها. حررت الناس من الايديولوجيا، على رغم انطلاقها من الايديولوجيا، وجعلت الأحزاب جديرة بالمتاحف والزعامات جزءاً من قمامة التاريخ. لكن تلك الثورة التي أنتجت بعض ابرز سياسيي العالم في الربع الأخير من القرن ذاته، هي الأقل وضوحاً بين احداث تاريخنا المعاصر كافة. لكن سمتها الثقافية والفكرية لا يمكن اليوم ان تخفى على احد، طالما ان كثراً من ابناء جيلنا يعيشون ما ترتّب عليها وما أفرزته، من علاقة مع الحرية، مع الماضي، بين الأجيال، مع المال مع السياسة... ولم يكن للأمر حسناته فقط وإن كان بإمكاننا ان نلاحظ ان سياسيين من نمط بيل كلينتون وليونيل جوسبان وتوني بلير كانوا من نتاج تلك الثورة، بين آخرين، في فرنسا ولكن خارجها ايضاً. المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي صاحب "1900" و"آخر تانغو في باريس" و"الامبراطور الأخير" كان من أبناء تلك الثورة الربيعية. وهو يذكر الآن انه حين اندلعت كان يصوّر فيلمه "الشريك"، حاصداً نجاح فيلمه السابق عليه "قبل الثورة". يومها تحمس برتولوتشي ل"أيار 68" كثيراً، مثله مثل عشرات الملايين من الشبان في العالم كله من الذين كان شعارهم "اهرب يا صديقي… الماضي يطاردك". واليوم، في فيلم يفترض ان يعيده الى الواجهة بعد سنوات مما يشبه الغياب، ها هو برتولوتشي يعبّر عن "حبه" لذلك الربيع وموقفه منه، في فيلم "الحالمون" الذي يُتوقع ان يكون اكثر ما سيعرض في الدورة المقبلة لمهرجان "البندقية" اثارة للجدل. ومع هذا لم يحاول برتولوتشي ان يقدم تاريخاً موضوعياً لربيع باريس. كل ما في الأمر انه صوّر الأحداث على خلفية حكاية حب، أبطالها ثلاثة: شقيق وشقيقته، وطالب اميركي كان يدرس في باريس في ذلك الحين. خلال الأحداث يوجد الثلاثة في شقة كما في "آخر تانغو في باريس" ويراقبون ما يحدث في الخارج غير مدركين ان ما يحدث ليس اقل من العالم كله وهو قيد التبدّل. العالم وقد بدأت المعرفة تهيمن عليه وصراع الأجيال يستشري فيه. العالم وقد راح يغمز للأجيال الجديدة قائلاً لها: "المنع ممنوع منذ الآن". إذاً، برتولوتشي الذي جعل لتاريخ ايطاليا فيلماً، ولتاريخ الصين في القرن العشرين فيلماً، وللفاشية اكثر من فيلم اهمها "الممتثل" عن رواية لمورافيا، جعل الآن لتلك الثورة الرائعة فيلمها. فهل تراه عبّر عنها حقاً وبقوة ما صنعته بالعالم، أم تراه أمعن في التهكم منها؟ لا أحد يعرف حتى الآن. فقط يمكن كلاً منا ان يعرف ان الفيلم سيطرح عليه وبكل قوة السؤال الذي لم يغب، على أي حال، ابداً: أين كنتم خلال ربيع 1968؟ أين كنتم حين كانت "اليوتوبيا" تسير مسرعة الى أمام، هرباً من ماضٍ يطاردها؟