في البداية، حدثان كبيران بين ألوف أخرى شهدها العالم خلال السنتيْن الماضيتين، فتوقف عندهما ربما مدهوشاً وربما متأملاً، لكن قلة من الناس فقط اهتمت بدلالتهما: الأول، في ملعب كرة قدم ضخم بألمانيا كان يشهد مباراة من النوع المألوف. قبل المباراة بدقائق، رفع مئات المتفرجين أمام ذهول الكاميرات، لافتة على طول الملعب تحمل سطراً واحداً هو ترحيب بالمهاجرين الآتين إلى أوروبا من البلدان البائسة. الثاني، حصل في فرنسا قبل شهور من الآن، حين اختار كثر من الفرنسيين أن يجعلوا من شاب في مقتبل العمر رئيساً لهم على الضد من اليمين واليسار معاً، كأن الأمر كان "ردة رجل" لما فعله الأميركيون قبلهم بشهور قليلة حين اختاروا بليونيراً يمينياً متطرفاً، رئيساً لهم وأيضاً أمام ذهول عالم غير مصدّق. هي حوادث اخترناها هنا عشوائياً، وفقط لنحاول أن نستخلص منها دلالة ما. فهل تراها قابلة لهذا؟ ربما يمكن استخلاص عشرات الدلالات، ولكن ربما يمكن الاكتفاء بالتعامل معها في ظرفيّتها، وربما حتى في محليّتها. ولكن بما أننا دخلنا، ومنذ أيام قليلة، عام 2018، قد يكون في وسعنا التوقف عند دلالة تاريخية ما، دلالة تتعلق بما قد يمكن أن تمثله نظرة استرجاعية يسمح لنا بها هذا العام الجديد: نظرة ترتبط بكونه العام الذي يسجل مرور نصف قرن بالتمام والكمال، على حدث سيكون من الخطأ اعتباره مرّ مرور الكرام في تاريخنا الحديث: "أيار (مايو) الفرنسي" وما دار من حوله عام 1968 من ثورات طالبية واحتجاجات شبابية وتصدّع في الأيديولوجيات السائدة، وتجديدات في لغات الفن والإبداع، لا سيما من طريق الغناء والسينما، وتفجّر في علوم راحت تظهر كالعشب الشيطاني مما كان يبدو أنه اللامكان (من اللسانيات إلى الإنتروبولوجيا، إلى استقلال علم الاجتماع وأدوار جديدة راحت تناط بالفلسفة...)، ثم أكثر من هذا كله: صراع الأجيال الذي راح يحل بالتدرّج محل صراع الطبقات. أجل، قبل نصف قرن، يوماً بيوم من الآن، راح العالم يتبدل ولكن ليس في شكل عشوائي أو مصادفة، ولكن ليس في شكل سريع وقاطع، كما كان يتمنى أولئك الذين كانوا يصرخون في الشوارع ويكتبون على الجدران: "اهرب يا رفيقي... الماضي يطاردك!" أو "ممنوع المنع"، بل في شكل أكثر منطقية: في حركة بطيئة ارتبطت بما يمكننا أن نصفه الآن بأنه أعمق ثورة اندلعت في تاريخ البشرية، بل لعلها الثورة الحقيقية الوحيدة فيه. وبالتحديد لأنها اتخذت، وببطء مدهش، سمة الثورة التي تحدث تغييراً في الذهنيات، لا في المواقف السياسية، الثورة التي تعرف ما لا تريد من دون أن تزعم أنها تعرف حقاً ما تريد. في اختصار، الثورة التي لا تجهد للاستيلاء على السلطة، بل لتغيير مفهوم السلطة نفسه. ولأن "ثورة 1968" كانت هذا كله، خُيّل لكثر أنها هُزمت يومذاك: هزمها الجنرال ديغول حين توجّه سراً إلى ألمانيا ليتيقن من ولاء قواته المرابطة هناك تحسباً لخطواته التالية ضد "المشاغبين". وهزمتها قوات حلف وارسو حين اجتاحت براغ واضعة حداً لربيعها، وقوات الأمن المكسيكية حين ارتكبت مجزرة في ملعب رياضي. وهزمها البيت الأبيض حين قتلَ حرسُه الوطني الطلابَ المحتجين في جامعة بيركلي وشدد من قصفه في فيتنام... واللائحة تطول. ولكن، يبقى السؤال: هل حقاً هزم كل هؤلاء تلك الثورة الغريبة؟ هو سؤال لا شك في أننا وغيرنا سنحاول الإجابة عنه طوال هذا العام، وقد وضعنا نصب أعيننا فكرة مفادها أن الترحيب بالمهاجرين أو انتخاب ماكرون أو حتى الخوف من التغيير المقبل الذي دفع "أميركا العميقة" إلى انتخاب ترامب، كل هذا جزء مما سنحاول القول أنه انتصار لذهنية أيار 1968، متسائلين عما إذا لم تكن الأزمنة الحديثة بدأت حقاً في ذلك العام.