في ذلك اليوم من شهر تشرين الثاني نوفمبر 1990، خيل لكثير من الفرنسيين ان ربيع أيار 1968 يلوح من جديد. اذ، على رغم الفوارق في ضخامة الحركة الطالبية، بدا مشهد شوارع باريس متشابهاً، بين زمن الآباء 1968 وزمن الأبناء 1990، ومن جديد بدا الطلاب، الذين "رموا الكتب وخرجوا الى الشوارع"، بحسب تعبير مستعار من اسم فيلم احتجاجي ياباني، بدوا وكأنهم يحكمون المدينة. أما رجال الشرطة، الذين كان تدخلهم فاحشاً في الأمن القديم، فإنهم هذه المرة آثروا - وجلهم من أبناء تلك الطبقات التي كانت في المقلب الثاني من مناخ المعركة في العام 1968- آثروا ألا يتدخلوا إلا حين زاد تحرك الشبان عن الحدود المقبول بها، فراحوا يحطمون واجهات المخازن وينهبون. ولاحقاً سوف يقول ممثلو الطلاب ان الناهبين والمحمطين كانوا عناصر مدسوسة. المهم ان خريف العام 1990 شهد ما ذكّر الكثيرين بربيع العام 1968. ولكن، في المرة الأولى كان الطلاب الجامعيون عماد التحرك، أما هذه المرة فإن الطلاب الثانويين هم الذين يقودونه، فيما بقي الجامعيون يتفرجون. وذلك بكل بساطة، لأن التحرك الجامعي اعتاد أن يكون ايديولوجياً، أما التحرك الثانوي فهو أقل اندفاعاً نحو السياسة، وأكثر التصاقاً بالأمور التقنية المهنية. ولعل هذا كان أهم ما لاحظه المراقبون في ذلك الحين. والحال ان تحرك الثانويين في باريس في تلك الأيام، كان قد بدأ في أواسط شهر تشرين الأول اكتوبر السابق حين اندفع طلاب المدارس الثانوية يحتجون ضد عدد من الحوادث التي كانوا يرون انها تعرض أمنهم وأمن مؤسساتهم المدرسية للخطر، ولا سيما في مناطق الضواحي، حيث يكثر الفقراء والعاطلون عن العمل، وبالتالي معدل الأعمال العامة المخلة بالأمن. وبسرعة، خلال أسابيع قليلة راح التحرك يتضخم، وبدأت خلفياته تتبدل، اذ مع نجاح تحركاتهم الأولى، رأى الطلاب الثانويون ان الوقت قد حان للمطالبة بشروط دراسة وعمل أفضل، وبمزيد من الديموقراطية في العلاقات القائمة مع ادارة المؤسسات التعليمية. واذا كانت تحركات العام 1968 تسعى الى منع المنع، والانتفاض ضد كل سلطة، فإن تحركات العام 1990 تسعى الى مزيد من السلطة. طلاب 1968 كانوا يريدون الثورة ضد مجتمع الآباء والخروج عليه، أما طلاب 1990 فإنهم يريدون الاندماج في مجتمع الآباء والسلطة، يريدون منه ان يحميهم وتحديداً ضد الخارجين عليه. يريدون النظام والأمن ودخول العصر. وكان هذ الفارق في حد ذاته كبيراً، من دون ان يوصل الى حكم سلبي أو ايجابي على حركة هؤلاء أو على حركة أولئك. المهم في الأمر ان التحرك الجديد كشف ان الثانويين لا يتسمون بأي قدر من طوباوية خيالية الجيل الطلابي السابق عليهم. وهذا الواقع جعل المحللين يتوقفون عند هذا الأمر طويلاً، ويلاحظون تحديداً، كيف انه، مذ حل يوم 15 من الشهر نفسه، حتى ضمرت الحركة تماماً، وكان وراء خمودها القرار الذي اتخذه رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران، الذي بعدما قابله الطلاب الثانويون خلال الأيام السابقة واشتكوا أمامه من ممارسات رئيس الحكومة ميشال روكار، والوزير ليونيل جوسبان، وجّه الى الحكومة تعليماته بأن يكرسوا أربعة بلايين ونصف البليون من الفرنكات الفرنسية من اجل تحسين ادارة ومسار واطارات العمل المدرسي، وكذلك من اجل ايجاد بنى العمل التي يمكنها ان تستخدم الطلاب الثانويين وتؤهلهم لسوق العمل. وهذا ما جعل المحللين يقولون ان كل ما حدث انما كشف عن ولادة عقلانية طالبية جديدة، حيث ان مراهقي 1990 بدوا أكثر عقلانية من ناضجي 1918، خصوصاً أنهم ادركوا بديهيتين اشتغلوا عليهما: أولاهما ان البطالة تشكل، بالنسبة الى الكثير منهم، مصيراً ممكناً، حيث ان شهادة البكالوريا لم تعد تضمن، في حد ذاتها، شيئاً، هي التي كانت عند أوائل القرن وسيلة مثلى لدخول الطلاب الحائزين عليها عالم البورجوازية. وثاني البديهيتين، ان المطلوب اليوم هو اصلاح النظام التعليمي لا نسفه، لأنه المجال الوحيد الذي يمكن للطلاب أن يفلحوا فيه. وهكذا كشفت احداث الثانويين الفرنسيين في العام 1990 عن أن عوالم عقلانية جديدة بدأت تولد على انقاض اليوتوبيات القديمة. الصورة: طلاب ثانويون يتظاهرون في باريس.