عناوين المشروع الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وتداعياته على دول المنطقة بدأت تتبلور، ولو ان ذلك يحصل من النافذة الاقتصادية التي تسمح بالإطلالة على المشاريع السياسية بوضوح اكبر. البداية كانت من النفط ومن فرص واشنطن في السيطرة على اوبك من خلال النفط العراقي. وتبلورت الشراكة الأميركية - الإسرائيلية في الحرب على المنطقة لأنها لم تعد تقتصر على العراق فقط كما هو واضح من خلال الحديث على خط انابيب الموصل - حيفا مروراً بالأردن. وخال البعض هذه الأحاديث مجرد طموحات اسرائيلية طرحها وزير المال الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في لقائه مع عدد من رجال الأعمال اليهود في لندن. لكن تكرار هذا الموضوع في اكثر من مناسبة اسرائيلية، وحديث احد المسؤولين النفطيين العراقيين عن بدء الأردن اعمال تأهيل هذا الأنبوب على رغم النفي الأردني المتكرر وعلى اعلى المستويات وزير الطاقة محمد البطاينة، كلها كبرت حجم علامة الاستفهام وأعطت الأمور مكانة جدية. وتُوجت هذه الطروحات اخيراً بعنصرين تجاريين وسّعا دائرة الطموحات: الأول قرار وزارة المال الإسرائيلية رفع اسم العراق من لائحة "الدول العدوة" ما يفتح المجال امام الشركات الإسرائيلية بالتعامل التجاري مع العراق والاستيراد والتصدير بين البلدين. اما العنصر الثاني المطروح فهو يستكمل العنصر الأول ويقضي بإنشاء منطقة تجارية بين العراقوتركيا وإسرائيل. وكانت معلومات صحافية نقلت عن ممثل وزارة الخزانة الأميركية في بغداد ديفيد ناولي ان هناك مشروعاً يدرس في هذا الاتجاه، على ان يباشر تنفيذه قريباً وفي حدود سنتين كحد اقصى. وقالت المعلومات نقلاً عن ناولي ان لقاءات عقدت اخيراً في الأردن للبحث في إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين دول الشرق الأوسط، وهي تضم تركيا وإسرائيل اضافة الى العراق وعدد آخر من دول المنطقة. والأمور لن تتوقف هنا، فالاجتماعات في هذا الخصوص مستمرة وروزنامة المواعيد مكتظة باللقاءات الإقليمية. هذه الخطوات تؤكد ان اسرائيل تعرف ماذا تريد من منطقة الشرق الأوسط ولديها تصور واضح للمخطط العام للمنطقة وهي بدأت تطبيقه. فشمعون بيريز كان واضحاً في عرض تصوره للشرق الأوسط الجديد وللمساحة التجارية والاقتصادية التي ستعطي اسرائيل بعداً جديداً لوجودها، هو البعد الاقتصادي. ففيما الولاياتالمتحدة وضعت النفط على رأس اهدافها الاستراتيجية لوجودها في العراق، من الواضح ان عمليات التخريب التي تتعرض لها خطوط النقل والمصافي، والتي تعكس إصراراً واضحاً من قبل بعض العراقيين على عرقلة عملية الإنتاج، دفعت واشنطن الى اعادة النظر في كل الوقائع والحسابات السابقة وإدخال تغييرات على خططها في العراق. وفي المقابل تعمل اسرائيل بجد على إنجاز الفصل المتعلق بها والحصول على حصتها المستهدفة في بلاد ما بين النهرين. فالحديث عن خط انابيب الموصل حيفا تخطى مرحلة الأحلام على حد تعبير نتانياهو، وهو اصبح حقيقة واقعة ضمن دائرة الوقت اللازم لتأهيل الخط الذي يعبر الأردن قبل ان يصب في حيفا. وسيوفر هذا الأنبوب كما هو معلوم الخام العراقي ذا النوعية الجيدة الى اسرائيل، بأسعار مخفوضة قد توفر على الفاتورة النفطية الإسرائيلية نحو ثلاثين في المئة. وفي الموضوع التجاري تعرف اسرائيل ان ليس في امكانها العبور الى الأسواق العراقية عبر شعار "صنع في اسرائيل" مباشرة. فالتجار يعرفون اللعبة التي يمارسونها في غير مكان في العالم: الدخول عبر شركاء آخرين اوروبيين، اميركيين، وعرب ربما وهذه هي المعادلة الأفضل بالنسبة إليهم وقد تحدثوا عنها مراراً. فالمهم بالنسبة إليهم الانتشار وزيادة رقعة العمل التجاري الخارجي على ان تبدّل ملصقات البضائع لاحقاً وفي الوقت المناسب. واللافت ان اسرائيل تسلك مع العراق طريقاً معاكساً، فبدلاً من ان توقع معه سلاماً قد يكون صعباً، يليه تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية، ها هي تبدأ بالتطبيع الاقتصادي غير المتوازن لأنه ينطلق من مصلحة طرف واحد من اثنين. وبذلك يكون العراق الدولة الخليجية الأولى حيث تستطيع الدولة العبرية التحرك بسهولة وتحت الغطاء الأميركي. ولهذا الموضوع انعكاسات على كل منطقة الخليج لأنه يفرض امراً واقعاً لم ينضج بعد وفي خضم مواجهة كبيرة بين النظام الإسلامي وصقور الإدارة الأميركية الواقعين تحت تأثير اللوبي الصهيوني. وفي النهاية ماذا بقي؟ إذا نجح الإسرائيليون في فرض التطبيع الاقتصادي، واستطاعوا ارساء شبكة تعاملات تجارية ودخول السوقين العراقيةوالأردنية على نطاق واسع، من حبة العلكة التي تستعد شركة "اوسيم" لبيعها الى اطفال العراق بحسب صحيفة "يديعوت احرونوت"، الى برميل النفط من الموصل الى حيفا، فإن معاهدة السلام تستطيع الانتظار قليلاً طالما ان مفاعيلها قائمة! فلطالما كان هدف الحروب اقتصادياً للتوسع وإيجاد اسواق جديدة. وربما ان خلفية مشروع السلام الإسرائيلية استبدال منطق الحرب المكلفة اقتصادياً وسياسياً بمنطق الاقتصاد والاجتياح التجاري الذي يؤدي الى النتيجة نفسها، تكون اسرائيل استطاعت، وبفعل تحالفها مع الأميركيين وفراغ السلطة العراقية، بلوغ هذا الهدف للمرة الأولى وفي شكل يتخطى مستوى العلاقات القائمة مع بعض الدول العربية التي تربطها بالدولة العبرية معاهدات سلام. وستكون بغداد منصة انطلاق تجارية للعبور الى اسواق الخليج على نطاق واسع من خلال الشركات المتعددة الجنسية. كما سترسي امراً واقعاً خليجياً من الصعب التغاضي عنه في منطقة حساسة مثل الخليج العربي. * كاتب لبناني.