أشد ما يأسف له الإنسان العراقي هو ان الاحتلال فقط كان ابدى استعداده التام لإنقاذه من النظام الديكتاتوري الشمولي البائد، فيما كان يتمنى ان يساعده في هذه المهمة اشقاؤه العرب وإخوانه المسلمون الذين ظلوا حتى آخر لحظة قبل سقوط نظام صدام حسين يقفون الى جانبه ربما تحت شعار الدفاع عن العراق او التأييد للشعب، إلا ان النتيجة هي انهم اضاعوا بوقوفهم الى جانب الطاغية المهزوم صدام - ومن حيث يشعرون او لا يشعرون - العراق وشعبه. لا أقول ان "الاحتلال" ساعد العراقيين على التخلص من النظام البائد لسواد عيونهم او دفاعاً عن مصالحهم فحسب، كلا، وإنما اقول ان مصالح الطرفين الاحتلال والعراقيين التقت عند نقطة واحدة مهمة جداً واستراتيجية بالنسبة إليهما معاً، تلخصت في لزوم التخلص من النظام البائد، كل من منطلقاته الخاصة، وكم تمنى العراقيون ان تلتقي مصالحهم مع مصالح العرب والمسلمين في هذه النقطة بالذات، ولو كان حصل ذلك لما تم احتلال العراق، ولكن... ما كل ما يتمنى المرء يدركه. العراقيون من جانبهم اعتبروا الاحتلال - حتى الآن على الأقل - اهون الشرين إذ، ليس في هذا العالم امرؤ يمكن ان يقبل بأي نوع من انواع الاحتلال حتى إذا حمل عناوين براقة وجميلة وخلابة تسحر القلوب وتطرب لها الآذان مثل "التحرير" و"تصدير الديموقراطية والتنمية" وما اشبه، فما بالك اذا حمل الاحتلال عنوانه الحقيقي واقعياً وقانونياً كما هي الحال بالنسبة للحال القائمة في العراق اليوم، عندما تبنى مجلس الأمن الدولي قراراً بالإجماع. سمى فيه الأشياء بأسمائها الحقيقية والواقعية. هم يعتبرونه اهون الشرين، فنظام صدام كان شراً مطلقاً، كما ان الاحتلال شر هو الآخر، إلا ان الفارق بين الشرين هو، ان كل شر في ما مضى كان يضاف إليه صدام حسين بكل ما يحمل هذا الاسم من ثقل الاستبداد والديكتاتورية والنظام الشمولي المطلق والقتل والتدمير والمقابر الجماعية والسجون والمعتقلات والاغتيالات والملاحقات والمطاردات وتكميم الأفواه وتصفية الخصوم بالطرق الوحشية والحروب العبثية وإهدار المال العام في بناء اجهزة الأمن والاستخبارات وتصنيع اسلحة الدمار الشامل واستعمالها ضد الأهالي الأبرياء والعزّل وغير ذلك الكثير الكثير، اما الشر في هذا اليوم فينقص منه صدام حسين ولذلك فإن الاحتلال هو اهون الشرين. ولكن... في الوقت نفسه، فإن العراقيين ليسوا على استعداد لأن يتحملوا اهون الشرين الى ما لا نهاية او حتى الى وقت غير معلوم، فلكل شر مدى، ولكل صبر حدود كما يقولون. انهم يتحملون اليوم اهون الشرين لأنه خلصهم من شر اطبق على انفاسهم مدة خمسة وثلاثين عاماً وما كان ليزاح بغير هذه الطريقة، كان منعهم حتى من ابسط حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة، كما انهم يتحملون اليوم ظروف الحياة الصعبة في ظل الاحتلال ليس إلا لأنهم مروا بأصعب منها اضعافاً مضاعفة ولكن هذا لا يعني انهم سيسكتون على ذلك الى اجل غير محدود، كما ان سكوتهم وتحملهم وصبرهم لا يفوض المحتل شهادة حسن سلوك ولا يخوله الاسترسال مع الحال الى اي مدى زمني غير محدد. من جانب آخر ان الإدارة المدنية الأميركية في العراق تخطئ مرتين اذا ما قرأت الصبر العراقي على اساس انه قبول بالاحتلال على المدى البعيد، مرة لأنها ستثبت بمثل هذه القراءة جهلها بالواقع وبالطبيعة العراقية، ومرة لأنها ستحسن الظن اكثر من اللازم بالعراقيين فتظل تتباطأ في الإصلاح الى اقصى مدى ما امكنها الى ذلك سبيلاً، وكل ذلك يزيد في الاحتقان الشعبي ويقلل من صدقية "الحلفاء". ويسهم بشكل مضطرد في تنامي العنف والإرهاب والتعصب والتطرف وجماعاته. الأميركيون يلعبون بالنار اذا ما فكروا بهذه الطريقة وليس لهم ان يفاجأوا اذا تحرك العراقيون ضدهم، او صعدوا من لهجتهم السياسية ثم راحوا يفكرون في تغيير وسائل التعبير عن نفاذ صبرهم. ان تحت رماد الصبر العراقي نار تغلي، يؤجج اوارها العراقيون بانتظار ان يفي الأميركيون بوعودهم، ولذلك عليهم ان يشاهدوا النار التي تحت الرماد ولا يتجاهلونها، اليوم وقبل فوات الأوان. إن التجاهل الأميركي لما يحصل داخل المرجل العراقي ليس من مصلحتهم، كما انه ليس من مصلحة العراق والعراقيين الذين هم الآن احوج ما يكونون الى الاستقرار وإعادة البناء والتنمية والأمن التي كانت توقفت نهائياً ابان الحكم البائد، وإذا كان العراقيون يتفهمون الظرف وحاجاته، فيتلفعون بالصبر على مضض تاركين للزمن ان يأخذ فرصته اللازمة والمناسبة، فإن من اللازم بمكان كذلك ان يتفهم الأميركيون واجباتهم في ظل هذا الظرف الاستثنائي الذي يمر به العراق والعراقيون. ان الجميع مطالب بأن يعي جيداً ماذا يجري اليوم في العراق ويتفهم حساسية الظرف والموقف، حتى يتعامل مع الحال بدقة ومن دون مجازفات او لامبالاة او مماطلات او تأجيل وتأخير في الأولويات قبل ان تستفحل الحال التي بدأت تتدهور يوماً بعد آخر. وأول المطالبين بالتنبه الى ذلك، هم الأميركيون انفسهم الذين يتحملون المسؤولية كاملة من الناحيتين الواقعية على الأرض والقانونية الدولية وأي تدهور في الحال او تطور سلبي لا تحمد عقباه قد يشهده العراق في اي لحظة لا يتحمل مسؤوليته إلا هم أولاً وقبل اي طرف آخر بعد ان بذلوا جهوداً جبارة من اجل زيادة عدد اعداءهم من العراقيين في الوقت الذي كان من المفترض ان يبذلوا المستحيل من اجل صيانة صداقاتهم مع العراقيين والعمل على توسيع رقعتها يوماً بعد آخر. لا يكفي ان يتحمل العراقيون واجباتهم إزاء الظرف العصيب لانتزاع قنابل موقوتة، بل يجب ان يتحمل المحتل مسؤولياته وواجباته ويسرع في تنفيذ ما وعد به وما نص عليه القرار الدولي. من جانبهم، ينتظر العراقيون بفارغ الصبر كذلك ممن ذرف دموعاً باسم مصلحة العراق وشعبه، عندما وقف الى جانب النظام الديكتاتوري البائد، ان يذرف بعض دموعه عليهم اليوم، إن كان صادقاً بدموعه بالأمس، ويشمر عن سواعده لمساعدتهم في انتزاع سيادة بلادهم من المحتل عاجلاً، طبعاً بعد ان ينزعوا عن قلوبهم حب الديكتاتور المهزوم صدام حسين، ويستبدلوه بالعطف على ضحاياه وعقد العزم على التكفير عن ذنب اعانة الظالم على المظلوم ليبذلوا ما امكنهم من جهد جهيد لمد يد العون والمساعدة لأشقائهم وإخوانهم العراقيين. اما من تأخذه العزة بالإثم منهم، فيصر على الخطأ وعلى الاستهانة بتضحيات العراقيين ومشاعرهم، فيعتبر مثلاً ان المقابر الجماعية التي اكتشفت في العراق بعد سقوط النظام الديكتاتوري، هي من عمل اعداء النظام، وكأنه يريد القول ان العراقيين قبروا انفسهم بأيديهم فالعراقيون لا ينتظرون منه خيراً ابداً، ولكنهم في الوقت نفسه يتمنون ان يكفيهم امثال هؤلاء شرهم فيصمتون متذكرين قول الرسول الكريم ص "قل خيراً أو فاصمت"، لا ان يظل يتشبث بالقول المشهور: "إذا لم تستح فافعل أو قل ما شئت". إذا كانت دولارات النظام البائد تلاحق امثال هؤلاء المنتفعين، وإذا كانت صورة سيدهم المهزوم تلاحقهم في احلامهم ومناماتهم وكوابيسهم، فلا يقدرون على قول كلمة حق وإنصاف لمصلحة العراقيين، فليسكتوا، فيكونوا لا لهم ولا عليهم وهم راضون منهم بذلك فإنه اسلم لهم وللعراقيين، وإلا ماذا يعني كل هذا الإصرار على استعداء العراقيين، من خلال الإصرار على الدفاع المستميت عن فرعون مات وطفت جثته على سطح الماء، ليكون عبرة لكل الطغاة وعلى مر الزمن، كما اهلك الله تعالى من قبل فرعون ونجا بدنه من الغرق وظل طافياً على سطح الماء ليكون عبرة. واشنطن - نزار حيدر كاتب ومحلل سياسي [email protected]